الرئيس برّي يعلن سيادته على البرلمان مجدّدا: تعديل قانون الانتخاب واجب ضمانا لحقوق المغتربين
27/10/2025
في موقف غير مسبوق، أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري أنه “لا يحقّ للحكومة أن ترسل قانوناً إلى مجلس النوّاب في ظلّ وجود قانون سارٍ، وإذا أرسلت الحكومة تعديلات على القانون النافذ فتُطرح للبحث بعد مناقشة القوانين الـ8 الموجودة”. وقد جاء هذا التصريح في ظلّ الخلاف بين الكتل النيابية على التعديلات الواجب إدخالها على قانون الانتخابات بشأن تصويت المغتربين وبعد الكلام عن احتمال إرسال الحكومة لمشروع قانون يتعلّق بهذا الموضوع إلى مجلس النواب من أجل إقراره.
ولا شكّ أنّ موقف رئيس مجلس النواب لا يمكن تبريره بأيّ منطق دستوري، وهو لا يشكل فقط مخالفة لأبسط مبادئ النظام البرلماني لكنه يعبر في الحقيقة عن فهم مغلوط لدور رئيس مجلس النواب وموقعه في النظام الدستوري. لذلك، ونظرا لجسامة المخالفة، كان لا بد من تفنيد هذا الموقف من أجل رفضه.
منع الحكومة من المبادرة التشريعية
تمنح المادة 18 من الدستور مجلس الوزراء صلاحية اقتراح القوانين، وهي صلاحية تقليدية في النظام البرلماني القائم على الفصل المرن بين السلطات، ما يعني أن حق اقتراح القوانين لا يعود فقط لأعضاء السلطة التشريعية لكن ايضا للسلطة التنفيذية. ويعتبر هذا الحق من البديهيات كي تتمكن الحكومة من تنفيذ مشروعها انطلاقا من مسؤوليتها السياسية التي تسمح لمجلس النواب بنزع الثقة عنها.
وهكذا يتبين أن حق الحكومة باقتراح القوانين يرتبط بشكل وثيق بقدرتها على ممارسة كل صلاحياتها، لذلك لا يمكن الحدّ من صلاحيّات هذه الأخيرة إلا بنصّ دستوريّ صريح كالمادة 18 القديمة من الدستور التي كانت تنصّ سنة 1926 أن القوانين المالية “يجب أن تطرح بادئ ذي بدء على مجلس النواب ليتناقش فيها”، ما يعني أن الحكومة لا يحقّ لها احالة مشاريع قوانين مالية إلى مجلس الشيوخ قبل عرضها على مجلس النواب وذلك طبعا عندما كان البرلمان يتألف من غرفتين قبل إلغاء مجلس الشيوخ سنة 1927.
من هنا يمكن فهم النقاش الذي كان يبرز دائما بين الفقهاء في مدى احتفاظ الحكومة بحقها باقتراح القوانين عند استقالتها. فوجود حكومة تقتصر مهامها على تصريف الأعمال يعني أنها فقدت مسؤوليتها السياسية أمام البرلمان، ما يعني أن مسائل كالحدّ من صلاحياتها الدستورية بشكل عام، وحقّها بالمبادرة التشريعية بشكل خاص، هي من الأمور الجدية التي يطرحها القانون الدستوري على الرغم من الإجابات المختلفة التي قد يتم تقديمها بخصوص احتفاظ الحكومة بحقها بالتقدّم بمشاريع قوانين عند استقالتها.
إذ أنّ منع الحكومة من اقتراح القوانين لا يمكن أن يتمّ إلا في حال وجود نص دستوري صريح بذلك أو عند استقالتها، أي عند زوال مسؤوليتها السياسية أمام مجلس النواب. وبالتالي يمكن فهم مدى خطورة موقف الرئيس برّي الذي يريد ان يفرض قيودا على صلاحيات الحكومة لا وجود دستوري لها. لا بل أن منع الحكومة من التقدّم بمشاريع قوانين تحت أيّ ذريعة كانت يعني في الحقيقة أنّ الحكومة باتت ناقصة المسؤولية ولا يمكنها الدفاع عن أهدافها أمام البرلمان ما يجعلها شبيهة في قدرتها على الحكم بالحكومة المستقيلة.
واللافت أن المجلس الدستوري في أحدث قرار له عالج تلك المسألة عندما اعتبر أن إلزام الحكومة من خلال مادة قانونية بالتقدم بمشروع قانون “يعتبر تدخلاً في أعمال السلطة التنفيذية ويشكّل إخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في الفقرة “ه” من مقدمة الدستور” (قرار رقم 16 تاريخ 3 تشرين الأول 2025). وقد ناقشت المفكرة القانونية في تعليقها على هذا القرار مختلف جوانب هذه القضية مشيرة إلى أن إلزام الحكومة بالتقدم بمشروع قانون يشكل مخالفة للدستور وهو مماثل لإرغام الحكومة بسحب مشروع تقدمت به، أو منعها من التقدم بمشروع قانون كون ذلك من شأنه المس بالتوازن بين السلطات.
وفي الاتجاه نفسه يعتبر العلامة “أوجين بيار” أن المشاريع التي تتقدم بها الحكومة يجب أن تتم متابعتها في مجلس النواب الذي لا يحق له رفض هذا الأمر كون من شأن ذلك أن يشكل مخالفة للدستور[1]. لا بل أن رئيس المجلس لا يحق له تلقي طلبات من النواب تهدف إلى منع إحالة مشاريع القوانين إلى اللجان من أجل دراستها[2] لأن هكذا تدبير يشكل عرقلة لعمل السلطة التنفيذية التي ستفقد عندها الأدوات الدستورية الكفيلة بتمكينها من الحكم.
منع تعديل قانون ساري المفعول
لا ينطوي موقف الرئيس بري على منع الحكومة من المبادرة التشريعية فقط لكنه يضع قيدا إضافيا لا وجود دستوري له يتعلق بعدم جواز تعديل القوانين “سارية المفعول”. فالحدّ من صلاحيات الحكومة في اقتراح القوانين يشكل انتهاكا لصلاحيات السلطة التنفيذية، لكن منع تعديل القوانين سارية المفعول هو في الحقيقة اعتداء على صلاحيات مجلس النواب نفسه عبر منعه من ممارسة اختصاصه التشريعي. فالحكومة تملك فقط الحق بالاقتراح بينما القرار النهائي يعود للهيئة العامة للبرلمان التي تقرر إما رفض مشروع الحكومة أو الموافقة عليه. إذ أن منع الحكومة من التقدم بمشروع قانون لإدخال تعديلات على النظام الانتخابي من شأنه حرمان مجلس النواب من دراسة هذه المسألة ما يشي برغبة مضمرة بمنع المؤسسات الدستورية من ممارسة دورها بشكل ديمقراطي عبر التحجج بنقطة دستورية لا أساس لها من الصحة إطلاقا.
والأغرب من ذلك أن مجلس النواب عندما يقوم بإقرار أي قانون يقضي بتعديل قانون آخر فإنه في الحقيقة يقوم بتعديل قوانين سارية المفعول. فكل القوانين في المبدأ تكون نافذة عندما يتم تعديل أحكامها، وإذا ما تبين لمجلس النواب أن من شأن ذلك أن يخلق اضطرابا في الاستقرار التشريعي أو يحدث خللا عند تطبيق القانون الجديد يمكنه بكل بساطة تضمين هذا الأخير أحكاما انتقالية أو تأخير نفاذه بحيث يصبح “ساري المفعول” بعد مهلة زمنية معينة.
والأمثلة أكثر من أن تعد في القوانين التي جرى تعديلها وهي سارية المفعول لا سيما قوانين الانتخابات سواء النيابية أو البلدية. فمجلس النواب مدد ولايته ثلاث مرات بين 2013 و2018 أي أنه عدل ولايته التي كانت سارية المفعول ولم يقل أحد أن ذلك لا يجوز، لا بل أن قرارات المجلس الدستوري حول التمديد لا تعالج إطلاقا هذه النقطة وينصب اهتمامها بشكل أساسي في مخالفة التمديد لمبدأ دورية الانتخابات الدستوري.
كذلك الأمر عندما علق مجلس النواب جميع المهل في قانون الانتخابات في نيسان من سنة 2013 بينما ولاية مجلس النواب كان من المفترض أن تنتهي في 20 حزيران من العام نفسه. وقد اعتبر المجلس الدستوري حينها أن هذا التعليق لا يحول دون إجراء الانتخابات في موعدها ولا يؤدي إلى “حرمان المواطن المستوفي شروط الترشيح من حقه الدستوري في أن يكون ناخبا ومنتخبا”، وأنه “يعود للمشترع صلاحية إلغاء قانون أو تعديله أو تعليق بعض أحكامه شرط أن لا يتعارض ذلك مع الدستور” (قرار رقم 1 تاريخ 13 أيار 2013).
والواقع أنه في حالة قانون الانتخابات الحالي، فإن ما يخالف الدستور ليس تعديله إنّما التقاعس عن تعديله، طالما أن من شأن الإبقاء عليه أن يؤدي إلى حرمان المغتربين ليس فقط من حقّ الترشّح في الدائرة الانتخابية المخصصة للقارات لكن أيضا من حقهم بالانتخاب وهم في الخارج، وتاليا إلى حرمانهم من حقوق دستورية أساسية. إذ يتعين على الدولة بكامل سلطاتها العمل الدائم على ضمان الحقوق الدستورية للمواطنين، وهو واجب يفرض على الحكومة المبادرة بمشروع قانون لإقرار التعديلات الضرورية، ويحتّم على مجلس النواب مناقشة تلك التعديلات وإقرارها من أجل تمكين المواطنين من ممارسة حقهم بحرية كاملة.
أما إذا كان موقف الرئيس بري يقصد أن الحكومة فقط لا يحق لها التقدم بمشروع قانون لتعديل قوانين سارية المفعول بينما ذلك جائز للنواب، فإن هذا التفسير لا أساس له أيضا من الصحة كونه يضع قيدا على صلاحيات الحكومة لا وجود دستوري له، وهو يؤدي مجددا إلى خرق مبدأ التوازن بين السلطات والمس بالمبادئ البديهية للنظام البرلماني.
دور رئيس مجلس النواب
لا شكّ أن رئيس مجلس النواب حرّ باتّخاذ المواقف الدستورية التي يريد، لكن هذه المواقف تظل عبارة عن اجتهاد شخصي وهي غير ملزمة لمجلس النواب أو الحكومة وطبعا لا يمكن أن تكون ملزمة للسلطة القضائية.
فعملا بمبدأ سيادة مجلس النواب على نفسه، يعود لهذا الأخير في هيئته العامة أن يقرر ما إذا كان الموضوع المطروح للنقاش ينطوي على مخالفة للدستور وإلا يصبح رئيس مجلس النواب الجهة الوحيدة المخولة تأويل الدستور وفرض هذا التأويل على المجلس وهو أمر لا يستقيم إطلاقا في نظام ديمقراطي قائم على جماعية القرار والطابع العلني للنقاشات البرلمانية.
ونظرا لأهمية هذه القضية، نص النظام الداخلي للجمعية الوطنية الفرنسية مثلا في الفقرة الخامسة من المادة 91 منه على أنّ القرار بعدم دستورية النص المعروض أمام النواب يعود للهيئة العامة ويجب طرحه مسبقًا قبل المباشرة بمناقشة الموضوع[3]. وفي حال قرّرت الأكثرية أن في الأمر مخالفة للدستور، فإنّ ذلك يعني رفض الاقتراح أو المشروع، بينما في حال رأت الأكثرية عدم وجود مخالفة للدستور فإنّ ذلك يحتم الانتقال رأسا لمناقشة المواد وذلك بعد الاستماع إلى الحكومة ورئيس أو مقرر اللجنة التي تتولى دراسة الاقتراح أو المشروع وخطيب من كل المجموعات السياسية التي يتألف منها المجلس.
لكن النظام الداخلي لمجلس النواب في لبنان لا يحتوي أي آلية تتعلق بكيفية اتخاذ القرار عند وجود مخالفة محتملة للدستور وهو ما يساهم في خلق حالة من الغموض تسمح لرئيس المجلس، بحكم احتكاره الفعلي لجدول الأعمال، بتحويل مواقفه الشخصية إلى أوامر ملزمة للمؤسسات وكأن الدستور أولاه سلطة تفسير أحكام هذا الأخير وفرض هذا التفسير على الجميع.
فعلى رئيس المجلس طرح الموضوع أمام الهيئة العامة التي تظل حرة باتخاذ الموقف التي تريد وفي حال اعتبرت أن تعديل قانون ساري المفعول بمبادرة من الحكومة هو جائز، فإنه يكون على رئيس المجلس القبول بالنتيجة أو الطعن بالقانون عند صدوره أمام المجلس الدستوري الذي يحتفظ أيضا بحريته الكاملة لاتخاذ الموقف المناسب والنهائي في هذه المسألة.
وهكذا يظهر أن الزعم بمخالفة أيّ أمر للدستور يتم الفصل به من قبل الأكثرية النيابية بعد التداول العلني بالقضية وتمكين الجميع بالتعبير عن رأيهم، وكل قول مخالف لذلك هو اعتداء على منطق المؤسسات وضرب لسيادة المجلس وفرض الرغبة الأحادية والاعتباطية لرئيس المجلس على البرلمان.
[1]“Les projets de loi présentés par le Gouvernement ont une suite nécessaire; ils doivent être examinés et discutés suivant les formes tracées par le règlement. Une Chambre n’aurait pas le droit de refuser d’en être saisie. Il serait contraire à la Constitution de ne pas tenir compte du dépôt opéré par un ministre et d’ordonner le renvoi d’un projet aux archives” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924 p. 65).
[2] “Nous avons dit dans le Traité qu’une Chambre n’aurait pas le droit de refuser d’être saisie d’un projet de loi. Par conséquent, le Président ne pourrait pas recevoir une motion tendant à décider qu’un projet de loi ne sera pas renvoyé à l’examen d’une Commission” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, 1919, p. 42).
[3] « Il ne peut ensuite être mis en discussion et aux voix qu’une seule motion de rejet préalable, dont l’objet est de faire reconnaître que le texte proposé est contraire à une ou plusieurs dispositions constitutionnelles ou de faire décider qu’il n’y a pas lieu à délibérer. L’adoption de la motion de rejet préalable entraîne le rejet du texte à l’encontre duquel elle a été soulevée. Dans la discussion, peuvent seuls intervenir l’un des signataires pour une durée qui ne peut excéder quinze minutes sauf décision contraire de la Conférence des présidents, le Gouvernement et le président ou le rapporteur de la commission saisie au fond. Avant le vote, la parole est accordée, pour deux minutes, à un orateur de chaque groupe ».