اللجنة النيابيّة تحرّك قضية شركات التأمين: ماذا بعد إدانة مستشار سلام بالرشوة وتبييضها؟
04/03/2025
عاد وزير الاقتصاد السابق أمين سلام إلى منزله، حاملاً معه ذيول شبهات فضيحة رافقته طوال فترة توليه وزارته. والشبهات هنا تتعلق بالدرجة الأولى بتهم ابتزاز وهدر مال عامّ، تحاصره نيابياً بشكل مباشر، وقضائياً من خلال شقيقه كريم سلام ومستشاره فادي تميم. وقوام هذه الملاحقات أن هذين الأخيرين مارسا الابتزاز بحقّ شركات التأمين، من خلال استخدام سلطة الوصاية التي يملكها وزير الاقتصاد على لجنة مراقبة هيئات الضمان، بحسب قانون تنظيم هيئات الضمان في المادة 47 منه. ويلحظ أنّ سلام لم يعيّن رئيسًا لهذه اللجنة، ما سمح له بالتحكّم بصندوقها وقراراتها وأموالها منفرداً.
لجنة الاقتصاد النيابيّة التي عقدت، في 19 شباط، اجتماعاً لمناقشة القضية والاستماع إلى وزير الاقتصاد السابق، انتهت بتحويل الملف برمّته مع الأدلة والمستندات المتعلقة بكلّ العمليات المخالفة للقانون، ومنها عقود تشغيلية مُبالغ فيها وصرف أموال الصندوق على منافع شخصية، إلى النيابة العامة التمييزية والنيابة العامة المالية. أمّا سلام، فبقي على موقفه المتمرّد على الرقابة النيابيّة، رافضاً للمرّة الثالثة على التوالي حضور جلسات اللجنة التي دُعي إليها للاستماع إلى دفاعه في القضايا المعروضة، مكرّراً لازمة أنه يتعرّض لاستهدافٍ سياسيّ. وهو بذلك يتجاهل الحكم الصادر عن محكمة جنايات بيروت بحق أحد مستشاريه (فادي تميم) فضلا عن الشبهات التي كشفتها اللجنة النيابيّة نفسها. ومفادها أنه تمّ ممارسة أعمال ابتزاز على شركات التأمين على خلفية تخلّفها عن إيداع نسبة معينة من قيمة بوالصها كسيولة لدى لجنة مراقبة هيئات الضمان، وهو موجب يخوّل عدم الالتزام به تجريدها من الترخيص لها. وقد برزت شبهات مفادُها أن عمليّة الابتزاز هذه سمحت لحاشية الوزير بتحصيل مئات آلاف الدولارات سنوياً. ضِِف إلى ذلك أنه على مدى أكثر من عامين ونصف العام صرف نحو 70 ألف دولار شهرياً بوصفها مصاريف مكتب، من دون تفنيد وجهة إنفاقها. كما أنفق ما بين 1000 و2000 دولار شهرياً على استئجار سيارات على الرغم من امتلاك الوزارة سيّارات يمكن استخدامها. كما تمّ إنفاق نحو 640 ألف دولار لإنجاز عقد تدريب على برنامج “باوربوينت” مدّته أسبوعان.
وهذا لم يكن كل شيء، فقد علمت اللجنة أيضاً أن سلام كان قد عيّن محامياً للجنة مراقبة عقود الضمان براتب يصل إلى 75 ألف دولار سنوياً، من دون إجراء مناقصة. كما وقّع عقد تدقيق محاسبي مع إحدى الشركات بقيمة 200 ألف دولار، فيما لا يُفترض أن تتجاوز كلفتها بالحد الأقصى 75 ألف دولار، بحسب نقيب المحاسبين طوني عبود الذي طلب القضاء التوسع بالتحقيق معه لدوره في تسهيل عمليات مالية غير قانونية.
هذه الملفّات تنتظر عملياً تحرّكاً سريعاً من النيابة العامة المالية التي اتُهمت سابقاً بالمماطلة. ولذلك، طالب رئيس لجنة الاقتصاد النيابية فريد البستاني القضاء بالإسراع في التحقيق، بخاصّة أن الملف كان ولا يزال قيد المتابعة القضائية، وسبق لمحكمة الجنايات في بيروت برئاسة القاضي سمير عقيقي أن خلصت في تاريخ 25 حزيران 2024 إلى وجود عمليّات استغلال سلطة لابتزاز شركات تأمين عديدة متعثرة مالياً وإدانة فادي تميم بجناية المادة 352 عقوبات (قبض رشوة من شركة تأمين بهدف تجديد الترخيص لها) وبجنحة القانون رقم 44/2015 (تبييض أموال من خلال ادعاء تميم أن الأموال التي تقاضاها هي أتعاب له) وإنزال عقوبة بحقه وصلت إلى سنة حبس وغرامة بمبلغ خمسمائة مليون ليرة لبنانية.
المسألة تعود تحديداً إلى المرحلة التي أعقبت انفجار المرفأ في 4 آب 2020، حيث وجدت شركات التأمين نفسها أمام مطالبات واستحقاقات ضخمة، لم ينفع معها التهرب منها من خلال الدفع باللولار أو عبر شيكات مصرفية غير قابلة للسحب، كما وجدت نفسها عاجزة، أو هكذا ادّعت، عن تسديد متوجّباتها للجنة مراقبة شركات الضمان. وبحسب التحقيقات، التي أجرتها محكمة جنايات بيروت، فقد اقترح نقيب خبراء المحاسبة المجازين إيلي عبود حينها، خلال اجتماع مع وزير الاقتصاد وشقيقه، إجراء دراسات ماليّة لعدد من الشركات الكبيرة لتقييم وضعها المالي. وفي سياق التحقيقات، تبيّن أن سلام الأخ اشترط على شركات التأمين إجراء دراسات إلزامية حول ملاءتها المالية عبر شركة محدّدة يملكها مستشار الوزير فادي تميم مقابل مبالغ مالية ضخمة وصلت إلى 300 ألف دولار، وذلك في مقابل تجديد ترخيص عمل الشركة من قبل الوزارة.
“فليعطِ ميقاتي براءة الذمة لكم”
من بين هذه الشركات، برز اسم شركة “المشرق” للتأمين التي لم تتمكّن من الالتزام بشروط الترخيص. وتحت التهديد بسحب ترخيصها، أقرّ مستشار الوزير فادي تميم أنه طلب من الشركة تسديدَه 250 ألف دولار لتسوية وضعها، مدعيّا أن المبلغ المطالب به يمثل “أتعابًا”. ولئن سدّد صاحب الشركة جورج ماطوسيان جزءًا من المبلغ (100 ألف دولار) لم يتمّ معالجة وضع الشركة طالما أن المبلغ ليس كاملا. وهنا تقول الشركة أنها لجأتْ إلى ميقاتي ناقلة له ما تعانيه الشركة وطلب مساعدته. وصرّح عبدالله درويش (رئيس بلدية بيروت حاليا ومدير سابق لشركة المشرق) أن ميقاتي “عصّب” وطلب منه إبلاغ المستشار ضرورة تسوية الوضع. وتنقل المحكمة أن تميم أجاب: “فليُعطٍ رئيس الحكومة براءة الذمة لكم”. عندها، نصح ميقاتي درويش بالتقدم بإخبار لدى النيابة العامة المالية وهو ما فعله ماطوسيان في تشرين الثاني 2023. علماً أن درويش أكد حينها أن عدداً من شركات التأمين دفع رشى مالية. تبعا لذلك، أعاد تميم مبلغ ال 100 ألف د.أ للشركة. وإذ اعتبرت شركة المشرق أنه أعاد المبلغ بعد أول إيعاز من النيابة العامة المالية، ادّعى تميم أنه ردّ المبلغ بعدما أعلمته الشركة نيّتها معالجة الأمر بالسيّاسة، مما أدّى إلى انتفاء دوره. وعند التحقيق في الشكوى، اكتفى القاضي إبراهيم بإدانة تميم وطلب سجنه من دون ملاحقة شقيق الوزير أو الوزير.
وبحسب القرار القضائي الصادر عن القاضي عقيقي في تاريخ 25 حزيران 2024، فقد ثبت جرما الرشوة وتبييض الأموال بحقّ تميم بالرغم من محاولته إضفاء الشرعيّة على المبلغ الذي طالب به، مؤكداً أنه يمثّل أتعابه وأتعاب فريق عمله لإنجاز العمل المطلوب منه من الشركة لتسوية وضعها القانوني، مع العلم أنه قبض بالفعل جزءاً من هذا المبلغ (الذي عاد ورده) من دون تنظيم أي عقد يرعى عمله المفترض ومن دون تحرير أي إيصال بالمبلغ.
هيئة التحقيق الخاصة تنهي تحقيقاتها قريباً
لكن لأن تميم لم يعمل منفرداً في القضية، وفعل الرشوة الذي ثبت عليه يشارك فيه آخرون أيضاً، لاسيما الراشي جورج ماطوسيان، الذي لم تتم ملاحقته في هذه الدعوى على الرغم من أن القانون لا يُعفيه من الملاحقة. فقد طالبت جنايات بيروت من النيابة العامة المالية في ختام حكمها بملاحقته، وفي الآن نفسه بالتّوسع بالتّحقيق مع شقيق الوزير، الذي “ترى المحكمة شكوكاً جدية تدور حول دوره في هذه القضية”، لتوضيح دوره وإجراء الملاحقة بحقه إذا توفرت الأدلة.
وقد شملت المطالبة بالملاحقة أيضاً الشاهد نقيب خبراء المحاسبة إيلي عبود، الذي تبيّن أن “شهادته أمام المحكمة تثير الالتباس والضبابية حول الوقائع المطروحة، ما يقتضي التحقّق من توفر شروط كتم المعلومات وفقاً لما نصت عليه المادة 408 من قانون العقوبات”.
وبناءً عليه، أعاد عقيقي الملف مجدداً إلى النيابة العامة لإنجاز الإجراءات المناسبة بحقّ كل من جورج ماطوسيان وكريم سلام وإيلي عبود. كان ذلك في 25/6/2024. وبالفعل أعادت النيابة العامة المالية فتح الملف، وعلى أثر التوسع بالتحقيق طلبت من هيئة التحقيق الخاصة تجميد حسابات كريم سلام في المصارف أثناء التحقيق. وهو ما حصل فعلاً، في شهر كانون الثاني الماضي، حيث شمل التجميد حسابات تعود لوزير الاقتصاد السابق ولشقيقه الحق في تحريكها. وباتّصال بالمدعي العام المالي علي ابراهيم، أكّد ل “المفكّرة القانونيّة” أنّ الملفّ ينتظر حالياً نتيجة طلب الاستعلام المُوجّه إلى هيئة التّحقيق الخاصّة، لتستكمل من بعدها التحقيقات مع كريم سلام المُلاحق بجرم الإثراء غير المشروع. في هذا الوقت، تعمل الهيئة، بحسب المعلومات، على دراسة حركة الحسابات والتدقيق في مصادر الأموال، على أن تصدر نتائج تحقيقاتِها خلال الأسبوع المقبل، ثم ترفعها إلى المدعي العام المالي. وفي فترة الانتظار تلك، أرسلت لجنة الاقتصاد النيابية الملف إلى القضاء طالبة تحرّكه، بناء على ما توفر لديها من معطيات ومستندات، وتحديداً لناحية التحقيق في أيّ دور لوزير الاقتصاد السابق. علماً أن القاضي علي ابراهيم يؤكد أن سلسلة الأحداث والتحقيقات المتعلقة بملف شركات التأمين لم تؤدّ إلى أمين سلام حتى الآن، ولم تؤدّ حتى إلى شقيقه. وهو ما تستغربه مصادر نيابية، ببساطة لأن وزير الاقتصاد هو الذي يوقّع على التراخيص، فيما تشير شهادات إلى أن شقيقه كان جزءاً من كل الاتفاقات التي أبرمت مع شركات التأمين لتسوية وضعها. علماً أن هذا الملف ليس وحده الذي يثير شبهات بحقّ سلام، بل يُضاف إليه مجموعة من المصاريف المضخّمة وغير المبرّرة التي سمح سلام لنفسه باستعمالها من دون أيّ تبرير منطقيّ، والتي لا تدخل جميعها في إطار الحصانة التي يملكها بحكم منصبه انطلاقاً من أن تسخير الوظيفة العامة لخدمة مصالح خاصة كما هي حالات الاختلاس أو الهدر لمنافع فئوية أو خاصة، لا تكون تاليا خاضعة لأي حصانة، محددة في المادة 70 من الدستور، ” بل تشكل أعمالاً جرميّة مرتكبة من الوزير في معرض ممارسته لمهامه، على ما أشارت الهيئة العامة لمحكمة التمييز في قرارها الصادر في 27/10/2000. إذ أن الابتزاز وتلقي الرشى في حال ثبوتهما لا يدخلان بحال من الأحوال ضمن المهام الوزارية التي تلحظُها هذه المادة.
من جهته، يحاول سلام تظهير نفسه على أنه مظلوم يتعرّض لحملة سياسيّة على خلفية طرح اسمه لرئاسة الحكومة. وقد تحدثت صحيفة “الأخبار” عن مساعٍ يقوم بها للفلفة الملفّ، في اتجاه رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي نصحه بتقديم إخبار ضد شركات التأمين بنفسه، وميقاتي.