اقتراح إلغاء مقاعد المغتربين النيابية: انتخاب المغتربين برمّته في خطر

وسام اللحام , نيقولا غصن

14/07/2025

انشر المقال

تقدّم بتاريخ 18 حزيران 2025 نواب من كتلة حزب الكتائب اللبنانيّة هم سامي الجميّل ونديم الجميّل والياس حنكش باقتراح قانون يرمي إلى إلغاء المواد 112 و121 و122 من قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب رقم 44 الصادر سنة 2017 وهي المواد التي تضيف على المقاعد ال128 الموجودة أصلًا ستة مقاعد مخصصة للّبنانيّين غير المقيمين، وتنظم حالة شغور هذه المقاعد، كما تنظم دمجها في المقاعد ال128 على دورات انتخابيّة متتالية. 

لا بدّ من الإشارة في بداية الأمر إلى أنّ هذا الاقتراح يقدّم للمرّة الثانية في الصيغة نفسها، بعد أن كان قدّم أوّلًا في 12 تشرين الثاني 2018 من النوّاب نفسهم لكنه لم يحَل آنذاك إلى أيّ لجنة ولم يوضع على جدول أعمال أي جلسة تشريعيّة. وقد أثار النائب الجميّل موضوع إعادة تقديم الاقتراح في الجلسة التشريعيّة التي حصلت في حزيران 2025 والتي شهدت خلافًا سياسيًّا حول انتخاب المغتربين، فكان جواب رئيس المجلس نبيه برّي أنّه طلب من الجميّل إعادة تقديم الاقتراح لأنّه أرسل في المرّة الأولى إلى الحكومة من دون أن تقدّم هذه جوابها عليه.

تنصّ الأسباب الموجبة للاقتراح على أنّ تخصيص ستة مقاعد للمغتربين يضافون إلى المقاعد ال128 يؤدّي إلى عزل المغتربين عن الداخل اللبناني ومنعهم من التأثير في السياسة الداخليّة في بلدهم الأمّ. واعتبرت الأسباب الموجبة أنّه من واجبات الدولة اللبنانيّة “العمل على عودة المغتربين إلى لبنان وتعزيز أواصر ربطهم بأرضهم وضيعهم وأقاربهم في لبنان، لا إبعادهم عنها ودفعهم للارتباط بشكل أولّي بالبلدان والقارات التي يقيمون فيها. 

بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الأسباب الموجبة أنّه من واجبات النائب اللبنانيّ التواجد في لبنان ومشاركته في أعمال المجلس بشكل دؤوب، وأنّ الاهتمام بشؤون اللبنانيين في الخارج هو من عمل وزارة الخارجيّة وليس النوّاب “وبالتالي لا يجوز تخصيص مقاعد للمغتربين للقيام بهكذا مهام”. 

وقبل المضي في التعليق حول هذا الاقتراح، لا بدّ من الإشارة إلى وجود اقتراح آخر موسّع يتناول مسألة اقتراع المغتربين ويرمي بدوره إلى إلغاء المقاعد الستة وتمكين المغتربين من التصويت بحسب محلّ قيدهم. وفيما يكتفي الاقتراح الحالي بإلغاء ثلاث مواد من قانون الانتخاب تتعلّق بمقاعد المغتربين، يعمد الاقتراح الآخر إلى تحديد مهلة تسجيل المغتربين للتصويت بستة أشهر، كما يخفّض الحدّ الأدنى المطلوب من الناخبين المغتربين المسجّلين في كلّ سفارة أو قنصليّة والذي يسمح لهم بالاقتراع في الخارج، وينص أيضا  على أن تشكّل البعثة اللبنانيّة المقيمة المعتمدة مركزًا انتخابيًا واحدًا، على أن يشمل النطاق الإقليمي لهذا المركز الدول الأخرى التي تغطيها البعثة بصفة غير مقيمة عند احتساب عدد المسجّلين في المركز الانتخابيّ ما يؤدي إلى إشراك عدد أكبر من الناخبين في الاغتراب.

جرّاء ما تقدّم، لا بدّ من إبداء الملاحظات التالية : 

اقتراع المغترب خارج لبنان حقّ يضمنه القانون

بعد سنوات طويلة من حرمان اللبنانيين المغتربين من المشاركة في الانتخابات النيابية، جاء قانون الانتخابات سنة 2018 كي يكرّس هذا الحقّ إذ نصّ في المادة 111 منه أنّه “يحقّ لكلّ لبنانيّ غير مقيم على الأراضي اللبنانية أن يمارس حقّ الاقتراع في مراكز انتخابيّة في السفارات أو القنصليات أو في أماكن أخرى”. وبالفعل، تمكّن المغتربون من ممارسة هذا الحق لأول مرة في الانتخابات النيابية التي جرت سنة 2018 وتكرر الأمر في انتخابات 2022، ما يعني أن هذا الأمر بات حقا مكرسا لا يمكن التراجع عنه بأي شكل من الأشكال ومن واجب الدولة السهر على حمايته وحسن تطبيقه في كل الانتخابات المستقبلية.

ويساهم الاقتراح الحالي بضمان هذا الحق وتعزيزه ليس فقط لأنه يسمح للمغتربين باختيار ممثليهم في الدوائر الانتخابية المعمول بها حاليا داخل لبنان مثل سائر اللبنانيين من دون أي تمييز عبر اعطائه كل صوت القيمة الاقتراعية ذاتها عملا باجتهاد المجلس الدستوري المستقر، لكنه أيضًا يزيل الغموض عن الأحكام القانونية النافذة اليوم والتي قد تهدد بتعطيل انتخاب المغتربين في حال لم يتم معالجتها عبر تدخّل تشريعيّ. ولا شكّ أنّ إصرار بعض الكتل النيابيّة على إمكانيّة تطبيق القانون بصيغته الحاليّة التي تخصّص المغتربين بستة مقاعد من دون أيّ تعديل يفتقر إلى الدقّة، إذ إنّ القانون تشوبه مجموعة من الإشكاليّات التي سنعرض لها بغية تبيان مدى خطورتها على مصداقية الانتخابات.

عوائق تهدد نفاذ القانون

لا شك أن أخطر إشكالية يطرحها هذا الاقتراح هو امكانية تهديد حق المغتربين بالمشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة في حال تمّ الإبقاء على قانون الانتخابات النافذ اليوم بصيغته الحالية. فالمادة 118 من قانون الانتخابات تنص على أن “المقاعد المخصصة في مجلس النواب لغير المقيمين هي ستة، تحدّد بالتساوي ما بين المسيحيين والمسلمين، موزعين كالتالي: ماروني – ارثوذكسي –  كاثوليكي –  سني –  شيعي – درزي، وبالتساوي بين القارات الستّ”، لكنها لا تشرح كيفية توزيع تلك المقاعد طائفيا على القارات ما يعني أن تحديد ذلك يحتاج إلى إقرار قانون جديد. فالتوزيع الطائفي للمقاعد النيابية يدخل من ضمن اختصاص السلطة التشريعية كما يظهر من صراحة المادة الثانية من قانون الانتخابات التي تنصّ على أنّ عدد المقاعد النيابية وتوزيعها على الطوائف يتمّ “بحسب الدوائر الانتخابيّة وفق الجدول المرفق بهذا القانون (الملحق رقم 1) ويتمّ الترشيح لهذه المقاعد على أساسها، ويعتبر الجدول جزءاً لا يتجزّأ من هذا القانون”. 

وهكذا يتبين أن القول بأن القانون بصيغته الحالية هو مكتمل ويحتاج فقط إلى التطبيق يفتقر إلى الدقة كون تدخل المشترع لا يقتصر على تحديد عدد النواب والتوزيع الطائفي للمقاعد لكن أيضا يتوجب على هذا الأخير نسب كل مقعد طائفي إلى دائرة انتخابية محددة. ولا يُردّ على ذلك بالقول أن هذه التفاصيل يمكن تحديدها بموجب مراسيم تطبيقيّة يقرّها مجلس الوزراء كون ذلك لا يؤدي فقط إلى الاعتداء على الاختصاص الدستوري لمجلس النواب، لكن أيضا إلى تبنّي معايير مختلفة بالنسبة للناخبين المقيمين والمغتربين بحيث تكون المقاعد الطائفية محددة بالقانون لكل دائرة انتخابية في لبنان بينما يترك هذا الأمر بالنسبة للمغتربين إلى مراسيم يسهل تعديلها، الأمر الذي يحرم هؤلاء من الضمانة التي يوفرها القانون.   

من جهة أخرى، أرست المادة 122 من قانون الانتخابات المعمول بها اليوم نظاما معقدا بخصوص انتخاب المغتربين إذ نصت على وجوب إضافة ستة نواب على ال128 الموجودين أصلًا ليصبح العدد الكامل 134 نائبًا، لكن على ألا يتم تطبيق ذلك إلا في الدورة التي تلي الدورة الأولى التي يتم الانتخاب فيها على أساس القانون الجديد (أي الانتخابات التي جرت سنة 2018)، وبالتالي تكون زيادة النواب في دورة 2022. ومن ثمّ، وفقا للمادة المذكورة، يجدر وفق القانون تخفيض “ستة مقاعد من عدد أعضاء مجلس النواب الـ 128 من نفس الطوائف التي خصصت لغير المقيمين في المادة 112 من هذا القانون، وذلك بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير”، أي عودة عدد النواب إلى 128 نائبًا.

لكن هذه الأحكام لم يتم تطبيقها في الانتخابات النيابية التي جرت سنة 2022 عملا بالمادة الثانية من القانون النافذ حكما رقم 8 الصادر في 3 تشرين الثاني 2021 والتي نصت على التالي: “يعلق العمل، استثنائيا ولمرة واحدة، بالمواد 84 و112 والفقرة الأولى من المادة 118 و121 و122 من قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب رقم 44 تاريخ 17/6/2017 وذلك لدورة الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في ربيع العام 2022 حصرا. على أن تعود المواد المذكورة أعلاه إلى السريان في الدورات التي تلي”.

وهكذا يتبين أن اضافة ستة مقاعد نيابية لم تتم في انتخابات 2022 إذ جرى تعليق العمل بها استثنائيا ولمرة واحدة، ما يطرح إشكالية جديدة تهدد مجددا نفاذ قانون الانتخابات: فهل الانتخابات التي ستجري سنة 2026 يتم اعتبارها كالدورة الأولى بعد انتخابات 2018، أي تلك التي يجب فيها رفع عدد النواب إلى، 134 أو يمكن اعتبارها بمثابة الدورة الثانية بعد 2018 ما يوجب تخصيص ستة مقاعد للمغتربين من ضمن المقاعد ال 128. بتعبير آخر، هل أن تعليق العمل بالمقاعد الستة سنة 2022 يعني عدم الحاجة إليها في الدورات الانتخابية المقبلة، أو هي تظل ضرورية لأول دورة فقط، أي تلك التي من المفترض أن تحصل سنة 2026؟ 

إن الغموض حول هذه المسألة بسبب التعليق الاستثنائي الذي حصل للقانون سنة 2021 يتطلب تدخل مجلس النواب من جديد بغية توضيح هذه الاشكالية ما يؤكد مجددا على أن النظام الانتخابي الذي يرعى المغتربين في صيغته الحالية هو غير مكتمل ما يوجب تعديله في أسرع وقت ممكن من أجل تحصين حقوق المغتربين وتمكينهم من المشاركة في الانتخابات المقبلة كسائر اللبنانيين.

إشكاليات أخرى يطرحها القانون حول تمثيل المغتربين تتعلق بالمرشحين. فقد نصت الفقرة الأولى من المادة 118 على أن الاقتراع في الخارج يجري “على أساس النظام النسبي ودائرة انتخابية واحدة” ما يعني ضرورة انتظام المرشحين ضمن لوائح تتنافس على مستوى الكرة الأرضية برمتها وهو أمر مستغرب جدا إذ كيف يعقل تشكيل لائحة واحدة تضم مرشحين عن ست قارات بحيث يفترض على الناخبين المنتشرين في مختلف أصقاع الأرض اختيار نواب عنهم يوجدون في قارات بعيدة كل البعد عن أماكن تواجدهم هذا فضلا عن كيفية تشكيل تلك اللائحة الواحدة من قبل مرشحين يوجدون في قارات مختلفة.

لكن المعضلة لا تكمن فقط في هذه الاشكالية العملية لكنها أيضا تتعلق بالتحديد القانوني للمرشحين. فالمادة 44 من قانون الانتخابات تكرس قاعدة عامة مفادها حق كل من توافرت فيه الشروط “أن يرشح نفسه عن أي دائرة انتخابية” لكن القانون في المقابل لا ينص صراحة على ضرورة أن يكون المرشح على المقعد الاغترابي من المقيمين في الخارج، فهل هذا يعني أن اللبناني المقيم يحق له الترشح عن أحد المقاعد الاغترابية. ولا شك أن هذه النتيجة القانونية هي مستغربة لكن ذلك لا ينفي طبيعتها الإشكالية ما يحتم تعديل قانون الانتخابات بغية تحديد كل التفاصيل المتعلقة بترشيح المغتربين.

وفي حال تم الافتراض منطقيا أن المرشحين عن المقاعد الاغترابية يجب أن يكونوا من المغتربين أنفسهم فإن معضلة قانونية جديدة تطرح نفسها مباشرة. فالنظام الانتخابي المعمول به في لبنان منذ عشرات السنوات يربط بين مكان القيد والحقوق السياسية بحيث لا يحق للناخب الاقتراع إلا في الدائرة الانتخابية المسجل قانونا فيها بغض النظر عن مكان سكنه الفعلي. وهكذا يتبين أن قانون الانتخابات الحالي، في حال سلمنا منطقيا أنه يحصر الترشح عن المقاعد الاغترابية بالمغتربين فقط، وأنه أيضا يحصر الترشح عن كل قارة بمرشح مقيم فيها، يؤدي إلى تبني معايير مختلفة في الترشيح إذ يسمح للمقيمين بالترشح عن أي دائرة انتخابية بينما يمنع ذلك على غير المقيمين إذ يفرض عليهم الترشح فقط في مكان إقامتهم، وهو ما يخل بمبدأ المساواة الدستوري كون جميع المرشحين يوجدون في الوضع القانوني نفسه.

جراء ما تقدم يصبح جليا أن كل هذه الإشكاليات يمكن تفاديها في حال تم إلغاء المقاعد المخصصة للمغتربين والسماح لهم بالانتخاب كما حصل في دورتي 2018 و2022، أي عبر الاقتراع لكل المرشحين داخل لبنان، وهو الهدف الذي يسعى هذا الاقتراح إلى تحقيقه، الأمر الذي يتطلب إقرار هذا الأخير في مجلس النواب قبل فترة معقولة من الانتخابات المقبلة التي من المفترض أن تحصل بعد أقل من سنة من أجل السماح للجميع بالمشاركة في الانتخابات انطلاقا من أحكام قانونية واضحة تتيح للناخبين معرفة مسبقا كيفية ممارستهم حقهم وتسمح للمرشحين بالحصول على الفرص نفسها ما يضمن عدالة العملية الانتخابية.

في الخلاصة، يتبين أن القانون الحالي يحتاج في مطلق الأحوال إلى تدخّل من السلطة التشريعية سواء استقرّ الرأي على إلغاء المقاعد الستة أو تم الإبقاء عليها. لا بل أن الإشكاليات التي يطرحها قانون الانتخابات لا تنحصر بانتخاب المغتربين بل تشمل الاقتراع بالبطاقة الإلكترونية الممغنطة التي تفرض المادة 84 من قانون على الحكومة اتخاذ الإجراءات الآيلة إلى اعتمادها “في العملية الانتخابية المقبلة، وأن تقترح على مجلس النواب التعديلات اللازمة على هذا القانون التي تقتضيها اعتماد البطاقة الإلكترونية الممغنطة”. وقد جرى تعليق العمل بهذه المادة في انتخابات 2022 لمرة واحدة ما يعني ضرورة اعتماد البطاقة الممغنطة في الانتخابات المقبلة وهو الأمر الذي يحتاج إلى تعديل القانون مجددا من أجل تحديد تفاصيل ذلك كما يظهر من صراحة المادة التي تفرض على الحكومة اقتراح التعديلات الضرورية.يسلط الاقتراح الحالي أيضا الضوء من حيث لا يدري على ظاهرة تضمين النصوص القانونية أحكاما هي أشبه بوعود مستقبلية لا يمكن تنفيذها إلا بعد تحقيق شروط تتعلق بالتوافق السياسي بين الكتل البرلمانية، الأمر الذي يخلق حالة من الغموض وعدم الاستقرار التشريعي، ما يعرض حقوق المواطنين للخطر ويجعلها رهينة الظروف السياسية المتبدلة. فالجدل الدائر اليوم حول انتخاب المغتربين يعيد التذكير بأن الحقوق التي تنص عليها القوانين يجب أن تصاغ من ضمن نظام قانوني متكامل يتسم بالاكتفاء الذاتي لا الإحالة إلى وعود مستقبلية تفرضها ضرورات التسويات السياسية، الأمر الذي من شأنه تعريض تلك الحقوق للخطر واخضاعها لاعتباطية التفسيرات التي تتحكم بها المصالح السلطوية.