هكذا تم تهريب قانون استقلالية القضاء العدلي (2): "التصويت بمادة واحدة" انتهاك للنظام البرلماني

وسام اللحام

04/08/2025

انشر المقال

عالجنا في مقال سابق المخالفات الدستورية الجسيمة التي رافقت إقرار قانون استقلالية القضاء العدلي وتطرقنا إلى مسألة التصديق على القانون بمادة وحيدة والكيفية الاعتباطية التي تمّ بها إدخال تعديلات على القانون. وبما أن أهمية هذه النقطة الأخيرة تتعدى الجلسة النيابية الأخيرة كي تطاول النظام البرلماني برمته ارتأينا التوسع فيها نظرا لخطورتها من أجل التنبيه من تداعياتها الدستورية.

يتخذ القانون الحديث شكلا محددا بحيث يكون نصا مكتوبا موزعا على مواد مختلفة. ولا شك أن الغاية من تقسيم التشريع الواحد إلى مواد متعددة يهدف إلى منح النص الوضوح القانوني المطلوب الذي يعزز من إمكانية فهمه من أكبر قدر ممكن من الأفراد، ويساهم في حسن تطبيقه من قبل الجهات المعنية. فإذا كان وضوح القانون وجعله متاحًا للجمهور مشروطًا بصياغته الشكلية عبر مواد منفصلة ومتسلسلة، فإن هذا يعني أن القانون قبل إقراره يجب أن يرتدي الصيغة الشكلية ذاتها، أي أن يكون على شكل مواد يتمّ التصويت عليها من قبل السلطة التشريعية بطريقة تسمح بالحفاظ على التتابع المنطقي للقانون.

ويعتبر "أوجين بيار" انطلاقا من تجربته العريقة طوال عقود في مجلس النواب الفرنسي خلال الجمهورية الثالثة (1870-1940) أن تقسيم أي موضوع مطروح إلى أجزاء هو الشرط الأول للحفاظ على حرية الضمير[1]. فالنصّ الواحد، حتّى لو اتّسم بالبساطة وصياغته المقتضبة، قد يحتوي على مبادئ يأنف النائب من قبولها حتى لو لم يكنْ يرفض القانون برمته. لذلك كان من حق كل نائب، بوصفه ممثلا للإرادة الشعبية، أن يبدي رأيه في كل تفاصيل النص المطروح للنقاش كون ذلك هو الشرط الوحيد الذي يسمح له بالتعبير عن رأيه بحرية والقيام بواجبات وكالته النيابية على أكمل وجه.

لذلك كرّست النظم البرلمانية مبدأ تجزئة التصويت (vote par division)، أي السماح للنواب بطلب تقسيم المادة الواحدة إلى فقرات بحيث يتم التصويت على كل فقرة على حدة، الأمر الذي يسمح للنائب بالتعبير عن موقفه بوضوح بخصوص أيّ مسألة مطروحة. فقد نصت المادة 82 من النظام الداخلي لمجلس النواب على هذا الأمر فأعلنت أنه "يمكن التصويت على كل فقرة من فقرات المادة الواحدة على حدة". ويجد هذا النص مصدره في المادة 119 من النظام الداخلي الفعلي الأول الذي عرفه لبنان سنة 1930 إذ نصت على التالي: "تحصل التجزئة حتماً في المواد المتشعّبة إذا طلب ذلك".

ويضيف "أوجين بيار" أن طلب تجزئة المادة الواحدة إلى فقرات عند التصويت هو حق لكل نائب ولا يجوز أن يرفض طلبه. لا بل أن إلغاء هذا الحق تم في ظلّ النظم السياسية السلطوية التي عمدت إلى الحدّ من الحريات البرلمانية، ما يعني أنّ حرية التصويت على المواد أو تجزئة تلك المواد يدخل في صميم الحياة الديمقراطية التي تتيح للنائب التعبير عن رأيه بحرية كاملة في كل مسألة من المسائل يقرّر إثارتها.

وعلى الرغم من أن التصويت على مواد وتجزئة المادة الواحدة يجعل من التشريع عملا شاقا ويتطلب وقتا طويلا، لكن ذلك يظلّ أقلّ ضررًا بكثير من التصويت الاعتباطي على نصوص كاملة ومعقدة لأن من شأن ذلك المس بصدقية التصويت واستقلالية النائب.

وهذا ما يذهب إليه أيضا أنور الخطيب الذي يعتبر أن "طرح مادة متشعبة المبادئ، تؤيد الأغلبية قسما منها وتناهض القسم الآخر، يؤدي في حال منع التجزئة إلى إجبار النواب على التصويت على ما يرفضون توصلا إلى التصويت على ما يؤيدون أو للتصويت ضد ما يؤيدون توصلا إلى التصويت على ما يرفضون"[2].

 

ويردف "أوجين بيار" في الموضع نفسه أن إرغام البرلمان على التصويت على أحكام متشعبة دفعة واحدة هو مخالف للمصلحة العامة وللعدالة التي توجب الإنصاف بين النواب بحيث يتمكن كل واحد منهم من إبداء رأيه بحرية كاملة[3]. وهكذا يصل الكاتب نفسه إلى خلاصة أكيدة مفادها أن التصويت دفعة واحدة (en bloc) هو إجراء لا يمكن القبول به ومخالف للنظام الداخلي ومن واجب رئيس المجلس رفضه وعدم طرحه حتى على الهيئة العامة.

يتبين بالتالي أن إقرار قانون استقلالية القضاء العدلي بمادة وحيدة وتصويت واحد يخالف ليس فقط النظام الداخلي لمجلس النواب، كونه لا ينص على هكذا تدبير، لكنه أيضا يخالف الركائز الدستورية الذي يقوم عليها النظام البرلماني القائمة على حرية النائب ووضوح وعلنية النقاشات النيابية. ففي فرنسا مثلا لم يتم القبول بمبدأ التصويت على القانون برمته أو قسم منه دفعة واحدة (vote bloqué) إلا في الجمهورية الخامسة (1958) إذ تم تكريس ذلك في الفقرة الثالثة من المادة 44 من الدستور[4]، ما يعني أن هكذا إجراء لا يمكن اعتماده حتى في النظام الداخلي بل يتطلب تكريسا دستوريا نظرا لخطورته وأبعاده السياسية التي حتّمت حينها في فرنسا تقوية السلطة التنفيذية عبر إرغام الأكثرية البرلمانية على الخيار بين التضحية بالحكومة أو القبول بالنص كما تريده هذه الأخيرة. والملاحظ أن هذه الصلاحية الاستثنائية تعود حصرا للحكومة إذ لا يحق للنواب المبادرة إلى طلب التصويت على القانون برمته دفعة واحدة.

إن أهمية الموضوع وارتباطه الشديد بطبيعة النظام البرلماني تفسر سبب تطبيق المبدأ نفسه على التعديلات إذ يعلن "أوجين بيار" مجددا أنه لا يحق للمجلس أن يصوت على التعديلات دفعة واحدة كون ذلك يخالف مبدأ التصويت على القوانين مادة مادة وعلى حق المجلس بالفصل في كل تعديل يطرح عليه على حدة[5]. ويكرر أنور الخطيب الموقف نفسه فيقول إنه لا يجوز "التصويت دفعة واحدة على جميع التعديلات المقترحة على المشروع أو الاقتراح"[6].

ويضيف أنور الخطيب أن التصويت مادة مادة على القانون "هو مبدأ بديهي لا يجوز تخطيه" في حين يعتبر "أوجين بيار" أن التصويت دائما على القوانين مادة مادة هو إجراء طبيعي وحتمي لا يحق لا للرئيس ولا للغالبية النيابية التملص منه.

وقد خالف مجلس النواب في لبنان منذ الاستقلال هذا الموجب البديهي، وغالبا ما كان الدافع وراء ذلك تحقيق مصالح سياسية ومنع النقاش في التفاصيل. ولعل أبرز مثال على ذلك قانون تحديد صلاحيات المراجع المذهبية للطوائف المسيحية والطائفة الإسرائيلية الصادر في 2 نيسان 1952 والذي أقر بمادة وحيدة لمنع أي نقاش فعلي في المضمون.

ولا شك أن غياب أصول التعديل في لبنان يضاعف من خطورة التصويت على تعديلات عديدة دفعة واحدة كون ذلك يعني أن هذا التعديل لم يخضع للنقاش لا مسبقا في اللجان ولا حتى بشكل جدي أمام الهيئة العامة، ما يطيح بصدقية التصويت كليا ويجعل من القانون المقر مفتقرا إلى أدنى معايير الشفافية والوضوح والعلنية.

جرّاء ما تقدم، يصبح جليا أن التصويت على التعديلات التي أقحمت في قانون استقلالية القضاء العدلي دفعة واحدة ومن ثم التصويت على القانون برمته بمادة وحيدة يشكل مخالفة لبديهيات النظام البرلماني وانتهاكا للعلنية ووضوح المناقشات البرلمانية. لذلك يمكن القول بأن المجلس الدستوري في حال الطعن بهذا القانون مدعو للنظر في مبدأ التصديق على القوانين بمادة وحيدة وإعلان مخالفة هذا التدبير للدستور وإبطال القانون وكل قانون يتم إقراره بهذه الطريقة المستهجنة في المستقبل.  

 


[1] “La division des questions posées est la première condition de la liberté des consciences” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 1141).

[2] أنور الخطيب، الأصول البرلمانية في لبنان وسائر البلاد العربية، دار العلم للملايين، بيروت، 1961، ص. 242.

[3] “Mais il importe avant tout que les votes des Assemblées soient indépendants et sincères; on ne saurait admettre qu’une résolution puisse être enlevée à la faveur des obscurités qui entourent les questions complexes. Il serait contraire à l’intérêt public que l’on pût forcer les votes du Parlement en présentant comme indissolublement liés des paragraphes ou des articles dont une partie seulement est acceptée par la majorité. Il serait contraire à l’équité que des membres fussent obligés de sanctionner par leurs votes un texte qu’ils ont combattu, pour empêcher le texte voisin d'échouer. ((Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 1141).

[4] “Si le Gouvernement le demande, l'Assemblée saisie se prononce par un seul vote sur tout ou partie du texte en discussion en ne retenant que les amendements proposés ou acceptés par le Gouvernement”.

[5] “Il ne serait pas permis à la Chambre de voter en bloc sur l’ensemble de tous les amendements; ce serait violer le principe du vote par articles” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 1142).

[6] أنور الخطيب، الأصول البرلمانية في لبنان وسائر البلاد العربية، دار العلم للملايين، بيروت، 1961، ص. 243.