إشكاليات محتملة لجلسة 9 كانون الثاني: أو إشكاليات يستدعيها العبث بالمادة 49 من الدستور
02/01/2025
بعد غياب طويل وحرب طاحنة خاضها لبنان، يعقد مجلس النوّاب جلسةً في 9 كانون الثاني المُقبل من أجل انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة بهدف وضع حدٍّ للشغور الرئاسيّ المفتوح منذ 31 تشرين الأول 2022. وإذ يكثر الحديث أنّ هذه الجلسة ستكون حاسمةً كون النوّاب لن يعمدُوا إلى مقاطعتها أو مغادرتها بغية إفقاد النصاب، لكن نتيجة الجلسة تظل غير محسومة نظرا للإشكاليات الدستورية الكثيرة التي قد تعتريها لا سيّما في حال تمّ التصويت لقائد الجيش الحالي. لذلك كان لا بدّ من استعراض تلك الإشكاليات المرتقبة التي ستواجه النواب خلال الجلسة والتحذير من مخاطرها مسبقا بغية تداركها في حال كان ذلك ممكنا.
وقبل الشروع في تحديد تلك الإشكاليات، لا بدّ من التذكير بأن رئيس مجلس النواب يعمد إلى إعادة الدورة الأولى في كل جلسة انتخابية، وهو يصر أيضا على أن نصاب الدورة الثانية يتألف أيضا من ثلثي مجموع النواب وهي نقاط خلافية لا يمكن التسليم بها، هذا فضلا على أن طريقة انتخاب رئيس الجمهورية بغالبية الثلثين من العدد القانوني للنواب في الدورة الأولى هي بدورها مسألة إشكالية من الناحية الدستورية حتى لو كان البرلمان يعمد إلى تبنيها في الممارسة.
ولا شك أن أبرز إشكالية تعترض البرلمان هي التصويت لقائد الجيش أي لشخص لا يجوز إطلاقا انتخابه عملا بأحكام الفقرة الأخيرة من المادة 49 من الدستور. فهل يحق للنواب رفض نتيجة الانتخاب وما هو دور رئيس المجلس ومكتب المجلس في حال نشوب خلاف حول هذا الموضوع تحديدا؟ وهل يجوز إلغاء أوراق الاقتراع التي تحمل اسم قائد الجيش كون انتخابه غير جائز دستوريا؟
تنص المادة 12 من النظام الداخلي الحالي لمجلس النواب على أن أوراق الاقتراع تعتبر ملغاة في الحالات التالية: "أسماء يفوق عددها المراكز المحدّدة في النظام، أو تحتوي على علامة تعريف أو تمييز من أيّ نوع كانت، أو تتضمن غير الاسم والشهرة مجرّدين".
فهذه المادة لا تتعلق بأهلية الترشيح لرئيس الجمهورية وهي تتناول فقط صحة أوراق الاقتراع وكيفية احتساب الأغلبية، ما يعني أنها لا تهدف إلى تحديد من يجوز انتخابه كونها تفترض أن جميع الموظفين المشمولين بالمنع المنصوص عليه في المادة 49 من الدستور لن يتم التصويت لهم أصلا. لكن هذا الافتراض البديهي لم يعد صالحا في لبنان كون العديد من الكتل النيابية تتجه للتصويت لقائد الجيش لا بل أن بعضها أعلن ترشيحه رسميّا. والتصويت لقائد الجيش سيحترم حرفية المادة 12 من النظام الداخلي أي أن النواب سيكتبون اسم هذا الأخير وشهرته بشكل مجرد ما يعني أن ورقة الاقتراع صحيحة شكليا حتى لو كانت في مضمونها تخالف الدستور.
وما يفاقم من هذا الواقع الغريب هو أن مجلس النواب سبق له وأن اقترع للعماد ميشال سليمان سنة 2008 الذي فاز من الدورة الأولى في ظل تسليم الغالبية الساحقة من النواب بصحة الاقتراع. وقد تكرر هذا الأمر مع العماد جوزف عون الذي حصل على صوت واحد في جلسة 14 حزيران 2023 ولم يعترض على ذلك أحد ولم يعلن رئيس المجلس الغاء ورقة الاقتراع. وهكذا تكون القوى السياسية التي كانت مهيمنة على البرلمان سنة 2008، وهي ذاتها اليوم، قد أوقعت نفسها في مأزق إذ لم تعد تستطيع الاعتراض على صحة أوراق الاقتراع في حال تضمنت إسمًا يخالف الدستور كونها وافقت على تلك المخالفة.
وللهروب من هذا المأزق قال رئيس المجلس نبيه بري في تصريح نقل عنه أنه "في حال التوافق على قائد الجيش لرئاسة الجمهورية وانتخابه بـ 86 صوتا، عندها لن يكون هناك حاجة إلى تعديل دستوري انطلاقا من سابقة الرئيس ميشال سليمان". ولا شكّ أنّ هذا الموقف الذي يتبنّى بدعة التعديل الضمني للدستور هو شديد الاستغراب كونه يقوم على منطق متناقض وخطير، مفاده أن مخالفة الدستور في المرة الأولى تصبح سابقة تبرر مخالفة الدستور في المرات اللاحقة.
لكن الطبيعة الشنيعة والخاطئة لنظرية التعديل الضمني سرعان ما توقع من يقول بها بالمأزق نفسه في حال لم يتم انتخاب قائد الجيش من الدورة الأولى وهو أمر محتمل نظرا لاعتراض أكثر من كتلة نيابية وازنة على انتخابه. فمن يروّج لبدعة التعديل الضمني عليه أن يقول بأن انتخاب قائد الجيش يجوز في الدورة الاولى فقط، ما يعني عدم جواز التصويت له في الدورة الثانية وهو ما يخالف منطق المادة 49 من الدستور التي تفترض بأن المرشح الذي لم يحصل على غالبية الثلثين في الدورة الأولى يمكن انتخابه بالغالبية المطلقة في الدورة الثانية، إذ لا يمكن دستوريا استبعاد أي اسم مهما كان عدد دورات الاقتراع كون استبعاد المرشحين الذين لم يحصلوا على عدد معين من الأصوات في الدورة الأولى (le ballottage) هو نظام قانوني متكامل لا وجود له في لبنان ويحتاج إلى نصوص دستورية صريحة تجيزه.
وهكذا يظهر تناقض بدعة التعديل الضمني كونها تؤدّي إلى تدمير المنطق الداخلي للمادة 49 من الدستور التي تقول بوحدة المرشحين في كل الدورات، وخلاف ذلك يعني أن بعض المرشحين لا يجوز انتخابهم إلا في الدورة الأولى بينما باقي المرشحين يمكن انتخابهم في الدورة الأولى أو باقي الدورات أيضا، وهو الجنون الدستوري بعينه هذا فضلا عن التداعيات السياسية التي قد تنجم عن هكذا بهلوانيات انتخابية.
جراء ما تقدم، قد يعمد بعض النواب إلى تبنّي هذه البدعة من أجل الهروب من المأزق الذي أوجده انتخاب ميشال سليمان سنة 2008 بحيث يوافقون على التصويت لقائد الجيش في الدورة الأولى بينما يعارضون التصويت له في الدورة الثانية. وفي حال لم ينسحب هؤلاء النواب من الجلسة كما هو مرجّح فإن ذلك قد يعني حصول قائد الجيش على الغالبية المطلقة من الأصوات ما يطرح الآن مشكلة جديدة تتعلق بجواز إعلان انتخابه رئيسا للجمهورية. فهل يحق لرئيس المجلس أن يرفض إعلان النتيجة في حال اعترض بعض النواب على صحة الانتخاب؟
تنص المادة الخامسة من النظام الداخلي أن رئيس مجلس النواب "يرعى في المجلس أحكام الدستور والقانون والنظام الداخلي". ولا شكّ أن هذه المادة لا تمنح رئيس مجلس النواب صلاحية تفسير الدستور بمفرده وفرض هذا التفسير على المجلس هذا فضلا عن أن النظام الداخلي غير ملزم إلا لمجلس النواب الذي يمكن له تعديله في أي وقت كان. فأن يرعى رئيس المجلس أحكام الدستور تعني أن يحرص رئيس المجلس على تذكير النواب بالأحكام الدستوريّة الواضحة وأن يطبّق ما يقرره المجلس في النقاط الإشكالية عملا بمبدأ سيادة المجلس على نفسه الذي استفاضت الورقة البحثية التي نشرتها المفكرة القانونية حول النظام الداخلي لمجلس النواب بشرح معناه الحقيقي.
والحقيقة إن حصول خلاف حول نتيجة الاقتراع يجب حسمها من قبل مكتب المجلس عملا بسابقة جلسة انتخاب سليمان فرنجية في في 17 آب 1970 إذ نال 50 صوتًا من أصل 99 نائبًا، ما أدّى إلى حصول اختلاف في معرفة ما إذا كانت الغالبية المُطلَقة المطلوبة للانتخاب في الدورة الثانية هي 50 أو 51 صوتًا.فقد أعلن رئيس المجلس حينها صبري حمادة الآتي: "حضرة النوّاب المحترمين، أرجو الإصغاء، لم ينل أحد المُرشَّحين الأكثرية، فقد نال الأستاذ سليمان فرنجية 50 صوتًا، والأستاذ الياس سركيس 49 صوتًا، لذلك فإنّني أرفع الجلسة موقَّتًا للنظر في إعادة الانتخاب". ويضيف محضر الجلسة الآتي: "وهنا حصل ضجيج وضوضاء في قاعة المجلس، فترك دولة الرئيس المنصّة وتوجّه إلى ديوانه حيث اجتمع إلى أعضاء مكتب المجلس ثمّ عاد دولته وأعلن استئناف الجلسة"، ومن ثمّ أعلن الرئيس حمادة أنّه نظرًا إلى الخلاف في كيفيّة احتساب الغالبية المُطلَقة "أشكل على الرئاسة تفسير الأمر ورفعت الجلسة، وتركت تفسير هذا الأمر لمكتب المجلس، فاجتمع مكتب المجلس وأقرّ أنّ الأكثرية المُطلَقة هي خمسون صوتًا، لذلك تعلن الرئاسة انتخاب السيّد سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية وتهنِّئه".
وقد كرّست المادة الثامنة من النظام الداخلي هذا الحلّ، إذ نصّت على صلاحيات هيئة مكتب المجلس ومن بينها درس الاعتراضات التي تقدم بشأن المحاضر وإدارة الجلسات والتصويت "وإعلان نتيجة الاقتراع والفصل بها". لذلك في حال نشب خلاف في نتائج الدورة الثانية على رئيس المجلس تعليق الجلسة من أجل عقد اجتماع سريع لمكتب المجلس الذي يتخذ القرار المناسب.
لكن هذه الصلاحية التي تعود لمكتب المجلس ينص عليها النظام الداخلي فقط، أي أن مجلس النواب يمكن له أن يسحبها عملا بسيادته على نفسه ولا يحق لرئيس المجلس ولا لمكتب المجلس مصادرة قرار الهيئة العامة لمجلس النواب في حال أصرت على مخالفة الدستور والقبول بانتخاب قائد الجيش.
وفي فرنسا خلال الجمهورية الثالثة على سبيل المثال نشبت إشكالية في إعلان انتخاب رئيس مجلس النواب بسبب اختلاف النتيجة على صوت واحد. وقد انقسم النواب في كيفية حسم الاختلاف إذ قال رئيس المدققين في فرز الأصوات (président des scrutateurs) إنه لا يستطيع إعلان النتيجة على أن يبقى المجلس حرّا بإعلان صحة الانتخاب. على الأثر، انقسم النواب بين من طالب بأن يتّخذ المجلس القرار النهائيّ وبين من قال أن ذلك يدخل في صلاحيات مكتب المجلس. وقد علق رئيس السن الجلسة واختلى بمكتب المجلس واتخذ قرارا تمّ ابلاغه إلى النواب بعد استئناف الجلسة بعدم صحة الانتخاب والاقتراح على المجلس تحديد موعد جديد للانتخاب[1].
لكن قرار مكتب المجلس أو الهيئة العامة في لبنان بقبول أو رفض الانتخاب ليس نهائيا، وهي النقطة الأهم، كون انتخاب قائد الجيش في الدورة الثانية يعني حكما أن أكثر من ثلث النواب قد رفض انتخابه ما يسمح لهم بالطعن بالنتيجة أمام المجلس الدستوري الذي من المفترض به أن يحسم الجدل خلال ثلاثة أيام من تلقيه الطعن لا سيما وأن المادة 23 من قانون انشاء المجلس الدستوري تنص على أن " يتخذ القرار في غرفة المذاكرة بأكثرية سبعة أعضاء على الأقل في الدورة الأولى وفي حال تعذر هذه الاكثرية يكتفي بالأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس" أي ستة أعضاء (هذا في حال توفر النصاب المكون من ثمانية أعضاء).
وفي حال وضعنا جانبا أن مكتب المجلس الحالي غير منتخب وتم التمديد له من دون إجراء انتخابات جديدة لأمناء السر والمفوضين ما يؤدي إلى التشكيك في مدى شرعية قراراته، يتبيّن أن رئيس المجلس ملزم بإعلان نتيجة الانتخاب وفي حال وجود اعتراض جدي من النواب عليه أن يترك القرار لمكتب المجلس وأن يعرض قرار المكتب فورا على الهيئة العامة. وفي حال قرر مكتب المجلس عدم صحة الانتخاب (وهو الموقف السليم في حال انتخاب قائد الجيش) وأصرّت أكثرية النواب على صحته على رئيس المجلس الرضوخ وإعلان النتيجة على أن يتمّ الطعن بها أمام المجلس الدستوري للفصل نهائيا بالقضية.
وحقيقة الأمر أن حلّ هذه الإشكاليات بسيط من الناحية الدستورية، إذ يتطلّب تبنّي أحد الخيارات التالية:
- تعديل الدستور قبل جلسة الانتخاب بناء على مشروع قانون دستوري تتقدم به الحكومة وهو ما تم سنة 1998 عند انتخاب العماد اميل لحود وهو ما كاد أن يتم سنة 2008 عندما أحالت حكومة الرئيس السنيورة وفي ظل شغور رئاسة الجمهورية بموجب المرسوم رقم 2 تاريخ 24/12/2007 مشروع قانون دستوري لتعديل المادة 49 من الدستور. لكن الرئيس نبيه بري رفض استلامه حينها بسبب الخلاف السياسي الحاد حينها مع الحكومة. وعلى الرغم من أن تعديل الدستور استثنائيا لمصلحة شخص هو أمر قابل للتشكيك لجهة مدى شرعيته لكنّه على الأقل يراعي الشكل أكثر من بدعة التعديل الضمني للدستور وتداعياتها الكارثية.
- تعديل المادة 12 من النظام الداخلي وإضافة نص يعتبر الأوراق التي تحمل اسم موظفين تشملهم المادة 49 من الدستور بحكم الملغاة. لكن هذا الحل المنطقي يصطدم بالممارسة التي وافقت عليها جميع قوى السلطة التي سبق وأن صوتت لقائد الجيش. كذلك لا بد من انتخاب أعضاء مكتب المجلس من جديد من أجل وجود جهة غير مطعون في شرعيتها في حال أرادت اتخاذ أي قرار بخصوص جلسة الانتخاب.
- احترام الدستور وهو الحل السليم والصحيح والمنطقي وانتخاب رئيس للجمهورية عملا بأحكام المادة 49 من الدستور النافذة اليوم من بين المرشحين الذين يجوز انتخابهم، من دون أي شخصنة.
لكن هذا المأزق المفتوح يأبى أن ينتهي عند هذا الحدّ كون الانتخابات تجري في ظلّ شغور رئاسة الجمهورية ما يعني أن انتخاب قائد الجيش يحتّم عقد جلسة ثانية مباشرة بعد جلسة الانتخاب من أجل حلف اليمين عملا بالمادة 50 من الدستور التي تفرض أداء القسم عند بدء ولاية رئيس الجمهورية. فهل سيتمكن الرئيس المنتخب في الدورة الثانية من حلف اليمين؟ وفي حال تمكن من ذلك ما هو مصيره في حال تمّ الطعن بنتيجة الانتخاب علما أن الطعن يجب أن يتم خلال 24 ساعة فقط.
ولا شك أن هذه الأسئلة الشائكة هي نتيجة الفوضى الدستورية التي يعيشها لبنان بسبب السلطة الحاكمة التي أوجدت خللا غير مسبوق في مؤسسات الدولة. فهذه الكمية من المشاكل الدستورية المستعصية لم تكن لتطرح لو تم انتخاب رئيس الجمهورية في موعده الدستوري وهي أصبحت أشد خطرا وتفاقما مع المأزق الذي أوقعت قوى السلطة نفسها فيه عندما انتخبت العماد ميشال سليمان سنة 2008 وهو الخرق الدستوري الفاضح الذي سندفع ثمنه الدستوري في جلسة 9 كانون الثاني المقبل.
[1] « M. Charles Boyssel, Président d'âge, suspendit la séance; le Bureau d'âge se réunit et, a la reprise de la séance, le Président donna lecture de la déclaration suivante: « Les membres du Bureau provisoire, après avoir délibéré sur le point de savoir si l'élection de M. le Président de la Chambre est définitive, à la majorité , prenant en considération le fait apporté par M. Jourde, Président du premier bureau des scrutateurs, décident qu'il n'y a pas élection, et proposent à la Chambre de fixer tel jour qu'il appartiendra pour être procédé à un deuxième tour de scrutin » (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 464).