إطلاق المزايدة الثالثة للبريد بدفتر شروط غامض: لا مكان للشركات الجدّية
07/06/2023
المزايدة الثالثة للبريد التي تطلق اليوم الأربعاء قد لا تكون ثابتة إلا إذا كان اسم الفائز معروفاً مسبقاً. كمية الأفخاخ التي يتضمنها دفتر الشروط كفيلة بإبعاد أيّ مستثمر جدي. فهل تُترك الساحة لعارض لا خبرة له في إدارة المرفق البريدي؟ على الأقل المؤهلات المطلوبة من العارضين تسمح بذلك. وبشكل واضح هي تجيز لأي شركة ديليفري تملك الخبرة الكافية في مجال عملها المشاركة في مزايدة إدارة قطاع البريد في لبنان.
انتهى التمديد السابع ل"ليبان بوست" في 31 أيار من دون وجود أي بديل. ما يعني تلقائياً استمرار الشركة في موقعها لأشهر عديدة. السبب هو فشل وزارة الاتصالات في تلزيم القطاع إلى شركة جديدة، بالرغم من إطلاقها مزايدتين. الأولى لم يتقدم إليها أي عارض. والثانية تقدّم إليها عارض وحيد، حاولت الوزارة تلزيمه القطاع بالتراضي، قبل أن يتبين، في تقرير لهيئة الشراء العام، أن عرضه مخالف لدفتر الشروط والتعاقد معه "يلحق ضرراً بالمال العام". علماً أن شكوكاً أحاطت بالشركة الجديدة لناحية اعتبارها وجهاً آخر لشركة "ليبان بوست" التي فضلت عدم المشاركة في المزايدة (ثمة دعوى عالقة بينها وبين الدولة)، فبنك سرادار، مالك أسهم "ليبان بوست"، يملك أيضاً أسهماً في شركة "ميريت إنفست" اللبنانية المملوكة من شركة CMA CGM التي قدمت العرض الوحيد إلى المزايدة بالتحالف مع شركة Colis privé france المملوكة من الشركة نفسها.
بعد موافقة الوزارة على توصية هيئة الشراء، وبالتالي إلغاء المزايدة، عاد وزير الاتصالات جوني القرم إلى عرض الملف على مجلس الوزراء، فقرر الأخير، في 18/4/2023 "إعادة إطلاق المزايدة العالمية لتلزيم الخدمات البريدية بعد تعديل دفتر الشروط الخاص بها والأخذ بجميع التوصيات التي وردت في تقرير ديوان المحاسبة رقم 11/2021 وموافقة هيئة الشراء العام". لكن بالتوازي، قرر، تحسباً لفشل التلزيم مجدداً، "إتمام عملية تحويل الخدمات البريدية إلى وزارة الاتصالات واتخاذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة لذلك، والعودة إلى مجلس الوزراء من أجل تأمين التمويل اللازم لتغطية التكاليف والنفقات المترتبة عن ذلك".
عدم حماسة الوزارة لاستلام القطاع بحجة عدم توفّر الإمكانات البشرية والمالية لذلك، يحجب حقيقة أنه يمكنها استنساخ تجربة قطاع الخلوي الذي تديره بنفسها، من خلال شركة وسيطة يتم تعيين مجلس إدارة جديد لها، ويستمر موظفو ليبان بوست بالقيام بأعمالهم لمصلحة الدولة. أما مسألة عدم وجود الأموال الكافية لتأمين موازنة الفترة الأولى للتشغيل، فيدحضه مجلس الوزراء نفسه في قراره الداعي إلى العودة إليه لتأمين التمويل اللازم.
في مطلق الأحوال، أنجزت الوزارة تعديل دفتر الشروط، وأرسلته إلى هيئة الشراء العام في نهاية أيار الماضي. والأخيرة عرضت ملاحظاتها وجرى النقاش بها مع الوزارة لأكثر من أسبوعين، قبل أن تقرر الأخيرة إطلاق المزايدة اليوم، من دون أن يتبين ما إذا أخذت بكامل الملاحظات أم لا.
وقد عرف أن الهيئة حافظت على موقفها الثابت في وجوب اعتماد مبدأ تقاسم الإيرادات كما سبق أن أوصى ديوان المحاسبة، لا تقاسم الأرباح. كما أنها كانت طلبت إجراء دراسة مالية لأرباح وإيرادات شركة "ليبان بوست"، ليُحدد على أساسها الحد الأدنى لمشاركة الدولة في الإيرادات، بدل اكتفاء الوزارة بمضاعفة النسبة التي كانت محددة في عقد ليبان بوست، بحيث رفعتها من 5% إلى 10% من دون أي دراسة. وإذا كانت قد اعتمدت في دفتر الشروط السابق نسبة الـ10% حداً أدنى، على أن ترتفع سنوياً خلال سنين العقد التسعة، لتصل إلى 31% بالنسبة لبعض الخدمات، فقد أبقت في التعديل الجديد على نسبة ال10% طيلة سنوات العقد، قبل أن تعمد إلى تعديلها بزيادة نصف نقطة من السنوات 3 إلى 6، ونصف نقطة في السنوات الثلاث الأخيرة، لتكون الزيادة الإجمالية 1% فقط بين السنوات الأولى والأخيرة.
بالنتيجة، فإن الملاحظات على العقد تكاد لا تنتهي، أولها تصنيفه أنه عقد BOT (تشييد، تشغيل، وتحويل إلى الدولة) فيما هو في الواقع عقد تشغيل فقط. فالقطاع موجود ويعمل حالياً وليس المطلوب سوى إيجاد شركة جديدة تديره، وبالتالي فإن الشركة لن تشيّد شيئا في حين أن إعادة التأهيل الذي اعتبرته الوزارة في مستند الطرح بمثابة التشييد هو أمر يُفترض أن يكون جزءاً من التشغيل. والأمر نفسه يصح على التحويل إذ أن الدولة ستستردّ القطاع بعد انتهاء فترة العقد.
كذلك اقترحت الهيئة اعتماد عناصر للتأهيل بدلا من معايير للتقييم، أي الاكتفاء بالإشارة إلى أن العرض مؤهل أو غير مؤهل، بدلاً من وضع علامات على كل معيار، وهو ما تعتبر الهيئة أنه يفتح مجالاً للاستنساب من قبل لجنة التلزيم في ظل عدم القدرة على تحديد علامات بعض العناصر، إذ لا يعقل على سبيل المثال وضع علامات على خطة العمل، فتلك لا يمكن تحليلها ومقارنتها مع الخطط الأخرى من قبل اللجنة، تمهيداً لتحديد العلامات بشأنها.
النقطة الأساسية الأخرى تتعلق بخبرة الشركات المتقدمة، ففيما تعتبر الهيئة أنه من البديهي أن ترتبط هذه الخبرة بموضوع المزايدة ("تلزيم الخدمات البريدية) ما يعني تلقائياً وجوب أن تكون الشركات المتقدمة شركات بريد، أي تدير قطاع البريد في دول او مقاطعات، إلا أن الوزارة لم تر الأمر بهذا الشكل، فوسّعت هامش الشركات المستهدفة في المزايدة من خلال ابتداعها لشرط لا معنى له إذا كان المتقدم شركة بريد وطنية هو شرط امتلاك العارض ترخيصا لنقل مواد البريد او المراسلات أو الطرود أو الرزم الصغيرة. هكذا لم يعد مطلوبا استقطاب شركات بريد كبرى ك "كندا بوست" التي كانت أول من استلم إدارة القطاع من الدولة قبل "تطفيشها" بل يمكن لشركة لا خبرة لها في إدارة المرفق البريدي أن تشارك في المزايدة أيضاً، مستفيدة من عدم تمييز الوزارة في التقييم بين شركة بريد وطنية وبين شركة توصيل البضائع التي يتم شراؤها عبر المواقع الإلكترونية، بالرغم من الفارق الشاسع بين عمل كل منهما. وهي للمناسبة أكثرت من ذكر عبارة التجارة الإلكترونية في وثائق المزايدة كما لو أن المطلوب هو فعلا شركة "ديليفري". الأخطر أن مواد العقد وشروطه تسير في السياق نفسه الذي يزيد من صعوبة الحصول على عروض جدية لا معلّبة بسبب الغموض الذي تكتنفه وتجعل أي عارض جدي يحجم عن المشاركة.
في المادة الثانية من العقد، يبدأ الغموض، فإحدى التعريفات تعتبر أن المديرية العامة للبريد هي المنظم. ثم يطول الحديث عن العلاقة بين المنظم والمشغل، من دون أن يوضح أحد كيف حصلت المديرية على هذا الدور، فيما هي مالكة القطاع عملياً، وقد كلفت شركة القيام بالعمل نيابة عنها ومقابل أجر، وبالتالي فهي لا يمكن أن تكون منظماً.
في المادة التاسعة من العقد إشارة إلى وجوب أن يسدد المشغل للموظفين الذين يعملون في المركز الرئيسي للمديرية العامة للبريد تعويضاً عن الأعمال التي تقوم بها هذه الإدارة للشركة، خارج الدوام الرسمي، من دون أن يحدد عدد الموظفين ولا كلفة تعويضاتهم ولا الأعمال التي يمكن أن يقوموا بها خارج الدوام الرسمي. كما لم يفهم سبب تكليف الشركة الدفع لهم طالما انها تسدد حصة الدولة من الأرباح. وهذا مع غضّ النظر عن عدم وجود موظفين في المديرية التي لطالما تم التأكيد أنها لا تملك أكثر من أربعة موظفين.
ولمزيد من التأكيد على عدم إمكانية الحصول على عروض جدية اكتفت الوزارة بحصر مهلة التقديم الى المزايدة ب 35 يوماً فقط (تُفض العروض في 12 تموز) وهي فترة وجيزة لمن يريد تحضير ملفه والتحقق من عدد كبير من البنود والمعلومات خاصة في ظلّ عدم وجود ما يسمى "غرفة معلومات" تتضمن كل المعطيات المتوفرة عن إدارة القطاع.
بالنتيجة، انطلقت مزايدة البريد مجددا، وسط إشارات واضحة على إصرار الوزارة على إنجاحها بالقوة حتى لو كان ذلك على حساب القطاع والخدمة المقدمة للناس. وهذا الإصرار يزداد تشددا مع أي حديث عن احتمال تسلم الدولة للقطاع، حتى لو كان ذلك لفترة مؤقتة، كأن يتمّ بعد بدء مسيرة الخروج من الأزمة الاقتصادية والسياسية. عندها يمكن لتحسّن المؤشرات الاقتصادية في البلد أن يرفع احتمالات الحصول على عروض تنافسية تمنع الإضرار بالمال العام.