اقتراح ثالث بشأن الانتخابات البلدية: تقوية المركزية وتقويض الديمقراطية تحت غطاء الوفاق الوطني
19/04/2025
تقدّم بتاريخ 14 نيسان 2025 ستة نّواب عن دائرتي بيروت الانتخابيّتين هم فؤاد مخزومي وفيصل الصايغ ونديم الجميّل ونقولا صحناوي وهاغوب ترزيان وغسان حاصباني باقتراح قانون معجل مكرر يرمي إلى “تعديل بعض أحكام قانون البلديات والنصوص المتعلّقة ببلديّة بيروت”، وهو الاقتراح الثالث في هذا الشأن في غضون أقلّ من شهر وعلى باب الاستحقاق البلدي الذي يبدأ في الرابع من أيّار 2025 في محافظة جبل لبنان.
وفي مقاربة مشابهة للاقتراحين السابقين وهما اقتراح كتلة لبنان القوي واقتراح النائبين مارك ضو ووضاح الصادق، يرمي هذا الاقتراح في البند الأوّل من مادته الوحيدة إلى إرساء المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس بيروت البلدي مع تحديد عدد أعضائه ب24 عضوًا. وينصّ الاقتراح أيضا على اعتماد اللوائح المقفلة المكوّنة من العدد الكامل للأعضاء في كل من بلديّة بيروت وسائر البلديات التي يتألّف مجلسها من 15 عضوًا وما فوق، مع تحديد الشخصين المرشحين في كلّ لائحة على منصب الرئيس ونائبه. بالإضافة إلى النصّ على إمكانيّة توسيع تطبيق اللوائح المقفلة على عدد أكبر من البلديات بقرار من وزير الداخليّة.
ويحدد البند الثالث من الاقتراح كيفية الفوز في الانتخابات البلدية فينص على التالي: “تفوز في الانتخابات البلديّة الحاصلة على أساس اللوائح المقفلة، برئيسها ونائب رئيسها وكامل أعضائها، اللائحة الحاصلة على العدد الأكبر من الأصوات”. ويضيف البند عينه أنّه “إذا شغر منصب الرئيس أو نائب الرئيس خلال ولاية المجلس البلدي يتم ملء الفراغ بالانتخاب من قبل المجلس البلدي وفق أحكام قانون البلديات”. ويحيل البند إلى تعاميم تصدر عن وزير الداخلية لتحديد “إجراءات تقديم الترشيحات وتسجيل اللوائح وسائر الإجراءات اللازمة لتطبيق أحكام الفقرات السابقة” عند الاقتضاء.
أمّا البند الرابع من الاقتراح فيتطرّق إلى مسألة العراقيل في تنفيذ مقررات المجالس البلديّة لا سيّما بلديّة بيروت التي تحظى بوضع خاص حيث السلطة التنفيذيّة هي في يد المحافظ فينص على التالي: “إذا لم يباشر الشخص الذي يتولى أعمال السلطة التنفيذية في البلديّة تنفيذ قرارات المجلس البلدي خلال شهر واحد من تاريخ إبلاغها إليه صالحة للتنفيذ، يجوز اعتبار ذلك تمنّعًا عن القيام بعمل من الأعمال المتوجبة قانونًا وتطبيق المادة 135 من قانون البلديات على أن يمارس وزير الداخلية والبلديات صلاحية الحلول فيما يتعلّق ببلديّة بيروت”.
وقد اعتبرت الأسباب الموجبة أن مجلس بلدية بيروت يتألف من 24 عضوا يتوزعون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين على مختلف الطوائف “وفق تقليد معتمد منذ عشرات السنين” الأمر الذي “يعبّر عن وحدة العاصمة وعن رمزيتها ودورها ومكانتها الوطنية”. وقد توسعت الأسباب الموجبة في تبرير ضرورة الحفاظ على المناصفة انطلاقا من الفقرة “ي” من مقدمة الدستور التي تنص على أن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك” ما يوجب تدخّل المشترع لضمان المناصفة من أجل “حفظ التقليد العريق في مجالس بلدية العاصمة” لا سيما وأن هذا الأمر لا يتعارض مع الفقرة “ح” من مقدمة الدستور التي تعلن ضرورة إلغاء الطائفية السياسية لأن “تأمين الضمانات التشريعية اللازمة يعتبر سببًا لإطفاء نار الطائفية ومنع استخدامها في إطار الحملات الانتخابية والمزايدات الطائفية السياسية، وبذلك يتحقق الموجب الدستوري”.
وتضيف الأسباب الموجبة أن ضرورة تأمين نجاح المجالس البلدية “يحتاج إلى تأمين السرعة في تنفيذ القرارات البلدية القانونية والتي تصبّ في المصلحة العامّة الأمر الذي يتطلّب وضع ضوابط تشريعية تسهّل تنفيذ القرارات البلدية وتمنع تعطيلها”.
إن هذا الاقتراح يستوجب الملاحظات التالية:
إشكالية الجمع بين المناصفة واللوائح المقفلة
تكتفي المفكرة القانونية بالإحالة إلى مقالاتها السابقة بخصوص مسألة تأمين المناصفة في بلدية بيروت, إلا أن المسألة المستغربة التي بات يتم طرحها بشكل متكرر تتعلق باللوائح المقفلة والإصرار على تبنّيها في سائر البلديّات. إذ أن وجود نص قانوني يكرس المناصفة في بلدية بيروت يجعل من اللائحة المقفلة مسألة غير ضرورية كون المناصفة ستصبح مضمونة من دون الحاجة إلى فرض لوائح مقفلة على الناخبين. ولا شكّ أنّ تكريس المناصفة من الناحية القانونية يستتبع ضرورة تحديد تفاصيل كيفية الترشح وإعلان النتائج بشكل يؤدي إلى فوز مجلس بلدي حيث المناصفة فيه مؤمنة، وهذا ما يغيب كليا عن الاقتراح الذي يفترض أن اللائحة المقفلة ستضم ممثلين عن مختلف الطوائف من ضمن المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وهذا ما لا يمكن الجزم به.
من جهة أخرى، إن النص على المناصفة، مع ضرورة تحديد التفاصيل القانونية لكيفية الترشح واحتساب الأصوات لإعلان فوز المرشحين، يفقد اللائحة المقفلة الغاية المعلنة منها، إذ ستتحول في الحقيقة إلى وسيلة ليس من أجل الحفاظ على العيش المشترك وضمان التعددية الطائفية بل قبل كل شيء الأداة التي تسمح بالحدّ من التعددية السياسية كون اللائحة الأقوى ستتمكّن من احتكار جميع المقاعد البلدية حتى لو كانت الغالبية التي فازت بها مجرد غالبية نسبية. وهذا التحليل لا ينطبق فقط على بيروت بل على مختلف البلديات التي يريد الاقتراح إخضاعها لقاعدة اللوائح المقفلة.
وتعكس الأسباب الموجبة هذه النزعة عندما شدّدت على “أن يكون الشطب واستبدال الأسماء من اللوائح المتنافسة ممنوعًا”. ولا شكّ أن الاقتراح يتبنّى في الحقيقية مبادئ قانون الانتخابات النسبيّ لسنة 2017 الذي يتبنّى أيضا اللوائح المقفلة مع منع التشطيب. إذ أنّ ظاهرة التشطيب كانت من العلامات الفارقة في تاريخ الانتخابات النيابية والبلدية في لبنان كونها سمحت بالحفاظ على حريّة الناخب في وجه اللوائح التي تشكلها الجهات السياسية المهيمنة على مختلف المناطق اللبنانية، ما يعني أن التشطيب كان يسمح للناخب بمقدار من الحرية تتيح له تشكيل اللائحة وفقا لاعتبارات سياسية وعائلية وشخصية ما يحدّ من سطوة الزعماء على العملية الانتخابية. وهكذا يتبين أن فرض اللوائح المقفلة مع النظام الأكثري البسيط في البلديات هي وسيلة من أجل القضاء فعليا على التعدديّة واستغلال تبعثر أصوات الخصوم من أجل احتكار جميع المقاعد البلدية حتى لو تمكن هؤلاء الخصوم من الحصول مجتمعين على غالبية الأصوات.
سلطة اعتباطية لوزير الداخلية
لا يحصر الاقتراح اللوائح المقفلة بالبلديات التي تضم 15 عضوا أو أكثر بل هو يمنح في الفقرة الأخيرة من بنده الثاني وزير الداخلية صلاحية فرض اللوائح المقفلة على سائر البلديات بقرار منه. ولا شك أن هذا البند يعطي وزير الداخليّة صلاحية اعتباطيّة تسمح له بالتحكم بنتيجة الانتخابات مسبقا وهي تنطوي على مخاطر كبيرة تهدد مصداقية العملية الانتخابية برمتها. لا بل أن الوزير يمكن تعديل قراره ساعة يشاء والعودة عن اعتماد اللوائح المقفلة ما يخلق حالة من الحيرة والقلق لدى الناخبين تمنعهم من معرفة كيفية تشكيل اللوائح ونسج التحالفات. لذلك لا يمكن القبول بمنح وزير الداخلية هكذا صلاحية من دون خضوعها لضوابط يحددها القانون إذ لا يعقل أن يحمي القانون فئة من الناخبين عبر المساواة بينهم واخضاعهم لأحكام معروفة مسبقا من جهة ومن ثم يحرم فئة أخرى من الناخبين من هذه الضمانة وتركهم رهينة القرار السياسي الأحادي لوزير الداخلية.
الغموض في انتخاب الرئيس ونائب الرئيس
ينص الاقتراح على ضرورة تحديد ضمن اللائحة المقفلة أسماء كل من المرشحين لرئاسة البلدية ولنائب الرئيس، ما يفهم منه أن انتخاب هؤلاء ستيم مباشرة من الناخبين. وإذا كانت هذه الفكرة سبق وأن جرى تقديمها باقتراح قديم لكن الاقتراح الحالي يشوبه غموض في هذا المجال كونه يفترض ذلك من دون النص عليه صراحة ما يجعله يتعارض مع الفقرة الثالثة من المادة 21 من القانون رقم 665 الصادر 1997 التي تنص على أن انتخاب الرئيس ونائب الرئيس يتم من قبل أعضاء المجلس البلدي.
من جهة ثانية، يؤدي الاقتراح في حال تبنيه إلى التمييز بين البلديات التي تضمن 15 عضوا على الأقل والبلديات الأخرى كون الأولى تطبق عليها اللوائح المقفلة ما يعني أن الرئيس ونائب الرئيس سينتخبان مباشرة من المواطنين بينما باقي البلديات التي لا وجود للوائح المقفلة فيها سيتم انتخاب الرئيس ونائبه من أعضاء المجلس البلدي وفقا للقانون النافذ. ولا شكّ أن هذا الأمر سيؤدّي إلى اختلاف في الشرعية الشعبية بين من يتم انتخابهم مباشرة وبين الذين ينتخبون من قبل المجلس البلدي الأمر الذي قد يشكل مخالفة لمبدأ المساواة الدستوري الذي يجب تطبيقه على الأفراد الذين يوجدون في الوضع القانوني نفسه. فالاقتراح يؤدي عمليا إلى التمييز بين الناخبين كون يسمح للبعض منهم ليس فقط بمعرفة هوية الرئيس ونائبه مسبقا بل أيضا بانتخابهما مباشرة (على الرغم من الطبيعة المقفلة للوائح) بينما البعض الآخر منهم لا يتمكنون من ذلك.
تنفيذ قرارات البلدية: الخلط بين سلطة الوصاية والسلطة التنفيذية
يعتمد الاقتراح آلية خاصة من أجل ضمان تنفيذ قرارات المجلس البلدي بحيث يفرض على السلطة التنفيذية (رئيس البلدية ومحافظ بيروت بالنسبة لبلدية بيروت) مهلة شهر لتنفيذ القرارات وإلا يجوز لوزير الداخلية الحلول مكان المحافظ للقيام بذلك بالنسبة لبلدية بيروت بينما يتولى القائمقام التنفيذ في باقي البلديات عملا بالمادة 135 من المرسوم الاشتراعي رقم 188 لسنة 1977 التي يحيل إليها الاقتراح والتي تنص على التالي: “إذا تمنع المجلس البلدي أو رئيسه القيام بعمل من الأعمال التي توجبها القوانين والأنظمة، للمقائمقام ان يوجه الى المجلس البلدي أو إلى رئيسه أمرا خطيا بوجوب التنفيذ خلال مهلة تعين في هذا الأمر الخطي، فإذا انقضت المهلة دون التنفيذ حق للقائمقام بعد موافقة المحافظ أن يقوم بنفسه بذلك بموجب قرار معلل”.
ولا شكّ أنّ سلطة الحلول (pouvoir de substitution) تعتبر من خصائص سلطة الوصاية على البلديات التي تحكم العلاقة بين السلطة المركزية والهيئات اللامركزية. لكن الاقتراح لا يميّز جيدا بين هذه المفاهيم كون القائمقام عندما يحلّ مكان البلدية عملا بسلطة الوصاية يقوم بذلك بوصفه سلطة لاحصريّة تمثل الدولة المركزية، بينما المحافظ في علاقته مع بلدية بيروت لا يقوم في هذا الجانب بممارسة سلطة وصاية بل هو السلطة التنفيذية العادية لبلدية بيروت عملا بصراحة النص القانوني. وبالتالي فإن الاقتراح يريد في الحقيقة جعل العلاقة بين المحافظ والبلدية علاقة وصاية لكنه يحتفظ في الوقت عينه للمحافظ بوظيفته كمن يتولى السلطة التنفيذية في بلدية بيروت وهو أمر لا يستقيم من ناحية المنطق القانوني إذ إن كل قرارات بلدية بيروت التي تحتاج لتنفيذ باتت خاضعة لهذه “الوصاية” وهو أمر يخالف مفهوم سلطة الحلول التي لا تمارس إلا بشكل استثنائي ومحصور جدا عندما يجيز النص صراحة ذلك.
والأغرب من ذلك، إن الحل الذي يتبناه الاقتراح ينقل النزاع إلى وزير الداخلية أي إلى الرئيس التسلسلي للمحافظ ما يعني أن بلدية بيروت ستظل مجردة من السلطة التنفيذية. وكما هو معلوم يحق لوزير الداخلية توجيه الأوامر عملا بسلطته التسلسلية إلى المحافظ. لذلك يمكن بكل بساطة الطلب من وزير الداخلية مباشرة الايعاز إلى المحافظ بتنفيذ قرارات البلدية من دون الحاجة إلى الآلية التي ينص عليها الاقتراح لا بل يمكن القيام بذلك اليوم في غياب نصّ مماثل.
من جهة ثانية، يفشل الاقتراح في تحقيق هدفه إذ هو لا يفرض مهلة على وزير الداخلية لتنفيذ قرارات بلدية بيروت بعد تمنع المحافظ عن تنفيذها، ما يعني أن تعطيل المجلس البلدي هو احتمال دائم مرهون بالكامل بإرادة وزير الداخلية. لذلك لا يقدّم الاقتراح حلا فعليا بل هو ينقل المشكلة من المحافظ إلى وزير الداخلية بينما كان بالإمكان النص على آلية مختلفة تماما تعزز من مبدأ اللامركزية الذي يطالب به العديد من النواب في هذه الفترة عبر منح القضاء الإداري صلاحية البتّ في النزاع القائم بين المحافظ والبلدية على أن يتمّ ذلك من ضمن سلطة الوصاية التي يمارسها المحافظ ما يفترض نزع السلطة التنفيذية من هذا الأخير ونقلها إلى رئيس بلدية بيروت مثل باقي البلديات في لبنان مع منح المحافظ الحق بإحالة قرارات البلدية ضمن مهل معينة إلى القضاء الإداري للبتّ في مشروعيتها وهي الآلية المتبعة في فرنسا (déféré préfectoral).
في الخلاصة، يتبين أن هذا الاقتراح يشدد على أهمية الحفاظ على التعددية في بيروت لكنه يحصر هذه التعددية في بعدها الطائفي بينما يتجاهل كليّا التعددية السياسية لا بل هو يضربها عبر فرض لوائح مقفلة تنتخب بالأكثرية البسيطة، هذا فضلا عن منح وزير الداخلية سلطة خطيرة باختيار كيفية انتخاب البلدية التي تضم أقل من 15 عضوا من دون أي ضوابط. كذلك يعزز الاقتراح من سلطة وزير الداخلية عبر تحويله إلى الجهة التي تفصل أحاديا بالخلاف بين بلدية بيروت والمحافظ وأيضا بشكل استنسابي. فالاقتراح الحالي يفضي في الحقيقة إلى تعزيز السلطة المركزية وإضعاف شرعية الهيئات اللامركزية المنتخبة محليا. فاللامركزية على ما يبدو لا يتم فهمها إلا انطلاقا من منطق التوازنات الطائفية مع تجاهل كل خصائصها ومقوماتها الأخرى. فهل يعقل أن الذين يدافعون بحماسة عن اللامركزية الموسعة يستمرون في فصل السلطة التنفيذية عن بلدية بيروت على الرغم من ضمان المناصفة بنص قانوني؟ لذلك يمكن القول أن الإشكالية الفعلية المسكوت عنها في هذا الاقتراح تتعلق بالتوازن الطائفي القائم بين المحافظ وبلدية بيروت ما يبرر التضحية باللامركزية المطلوبة في كل لبنان إلا في بيروت.