الكابيتال كونترول "الهجين": كوابح محلية يقابلها دفع دولي

إيلي الفرزلي

15/11/2022

انشر المقال

مسلسل "الكابيتال كونترول" مستمر. نهايته لا تزال غامضة نتيجة كمية المصالح المتداخلة والمتعارضة التي تُعبّر عنها النقاشات النيابية. التطور الوحيد الذي حصل أمس تمثّل ببدء مناقشة مشروع القانون مادة مادة، بعد جلسات، استمرت لما يقارب العام، من النقاش العام المبني على وجهتي نظر، الأولى ترفض السير بالقانون إلا بالتوازي مع إقرار قانونيْ استعادة التوازن المالي وهيكلة المصارف، ووجهة نظر ثانية تؤكّد على وجوب إقراره لوقف الاستنساب المستمرّ من قبل المصارف في تحويل الأموال لمن تشاء من المودعين النافذين، تاركة أغلبية المودعين تحت رحمة تعاميم مجحفة وظالمة. أصحاب وجهة النظر الثانية، ومنهم نائب رئيس مجلس النواب الياس أبو صعب ونائب رئيس الحكومة سعادة الشامي ونواب حزب الله، يؤكّدون أنّ لا رابط بين الكابيتال كونترول والقوانين الأخرى، وبالتالي لا بد من مناقشته وإجراء التعديلات المناسبة عليه بمعزل عنها. أبو صعب يذكّر أن خطة التعافي لا علاقة لمجلس النواب بها، أما القوانين الإصلاحية، ومنها قانون الكابيتال كونترول، فهي ضرورية لتنفيذ الخطة. 

أصحاب الرأي الأول، ومنهم نواب القوات وبعض نواب التيار الوطني الحر وآخرين مستقلين، ظلوا على مدى جلسات عديدة يصرّون على مبدأ التلازم. لكن أبو صعب حسم النقاش يوم الإثنين بالتأكيد على بدء نقاش القانون مادة مادة بدءاً من جلسة الثلاثاء. عملياً، سار الجميع بذلك، ولم يطلب أحد ردّ المشروع أو التصويت على الردّ وإن تطرّق له معوض. لكن تضييع الوقت لم يتوقف، إذ احتاجت اللجان لنحو أربع ساعات لإقرار مادة واحدة في القانون إضافة إلى 6 فقرات في المادة الثانية المتعلقة بالتعريفات. والمادة الأولى التي يعتبرها عدد من النواب لزوم ما لا يلزم، تتعلق بالهدف من القانون: "يهدف القانون إلى وضع ضوابط على عمليات التحويل إلى العملات الأجنبية بشكل شفّاف لمنع المزيد من تهريب رؤوس الأموال وتدهور سعر الصرف، وحماية المودعين من خلال الحفاظ بقدر الإمكان على الأصول بالعملات الأجنبية". التعديل الذي طال هذه المادة الشكلية يتعلّق بأمرين، إلغاء عنوانها بحيث لا تعبّر فعلياً عن "الهدف من القانون"، والتعديل الثاني هو إضافة رمزية تؤكد على حق المودعين باستعادة أموالهم. وبالرغم من أهمية هذه الإضافة لطمأنة المودعين، إلا أن نائباً تحفظ على ذكر اسمه أكد أنها عبارة معنوية لا تُقدّم ولا تؤخّر، وهي لا تلغي حقيقة أن الأموال قد ضاعت، وأن المطلوب اليوم ضمان الحصول على الجزء اليسير منها بشكل عادل لا يُميّز بين المودعين، مذكراً في الوقت نفسه بوجوب عدم الخلط بين قانون الكابيتال كونترول الذي ينظم السحوبات والتحويلات حصراً، وبين أي اقتطاع متوقّع من الودائع. 

الملاحظات كانت عديدة على القانون، لكن بو صعب دعا إلى انتظار الصيغة النهائية للحكم عليه، مشيراً إلى أن النقاش سيُستكمل أسبوعياً، بما يوحي أن المشروع قد يحتاج إلى أسابيع عديدة لإنجازه، إذا تم الاتفاق على صيغته، لافتاً إلى أنه تم الاتفاق على ضرورة وقف الفوضى في نقل الأموال، منبهاً إلى أنه "يقال إن هناك أكثر من 100 مليون دولار صرفت تحت إسم قانون الدولار الطالبي".

وقد بدا لافتاً خلال الجلسة عدم حضور أي ممثل لمصرف لبنان، اعتراضاً على مطالبة بو صعب في جلسة سابقة بانسحاب نائب الحاكم وإبلاغه رسالة شفهية إلى رياض سلامة يطلب منه الحضور شخصياً. لكن بالنتيجة، سارت الجلسة من دون حضور سلامة، ومن دون أن يرسل أي ممثل، فيما سارع نواب إلى التقليل من أهمية حضوره شخصياً، مذكرين، في الوقت نفسه، أنه لا يلتزم باستدعاء القضاء له فكيف بمجلس النواب. لكن المشكلة التي نشأت أمس أن أحداً لم يتمكن من تعويض غياب ممثل عن المصرف، إذ عندما سأل النائب جميل السيد الشامي عما إذا كان مستعداً للإجابة على استفسارات النواب أثناء مناقشة المواد، أجابه الأخير بالنفي، مشيراً إلى أنه معني بالنقاش بالسياسات الاقتصادية، فيما يفترض أن يكون مصرف لبنان معنياً بالإجابات التقنية كونه من أعدّ المشروع. وأمام هذا الواقع، لن يكون واضحاً كيف سيستمر النواب بمناقشة القانون في الجلسات المقبلة، ولم يعرف إن كان سيتم الضغط على مصرف لبنان سياسياً لإلزامه على الأقل بإرسال ممثل إلى الجلسة.

بالرغم من ذلك، بدا أن المجلس يريد إنهاء مرحلة المماطلة. وبحسب ما يتردد ، فإن رئيس المجلس نبيه بري الذي كان من أشدّ المعارضين لقانون الكابيتال كونترول مع بداية الأزمة، صار مؤخّراً متحمّساً لإقراره، أسوة بما فعل مع قانون السرية المصرفية، أما السبب فهو تلبية مطالب صندوق النقد، تمهيداً لتوقيع الاتفاق النهائي معه، خاصة أن التأخير بدأ ينعكس ضغوطاً إضافية على لبنان. إذ أن المؤسسات الدولية صارت أكثر إصراراً على ذلك. وهذا ما بدا جلياً في الجلسة السابقة التي أقرت فيها اللجان النيابية اتفاقية قرض مع البنك الأوروبي للتثمير للمساهمة في تمويل مشروع الطرقات والعمالة في لبنان، حيث نُقل إلى النواب إبلاغ الاتحاد الأوروبي وزارة الأشغال أنه بالرغم من الموافقة على القرض، فإن صرفه مشروط بتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد. 

وإذ كان القرار قد اتّخذ، إلا أن هذا المسار لن يكون يسيراً في ظل تعدد المصالح ووجهات النظر، خاصة أنه صار واضحاً بالنسبة لعدد من النواب أن صاحب مصرف كبير (يتردد أنه أنطوان الصحناوي) يقود حملة شرسة ضد إقرار الكابيتال كونترول، مستخدماً في سبيل ذلك شبكة من النواب والأحزاب والإعلاميين والجمعيات المهنية، التي تصر على عرقلة إقرار أي قيود على حركة الأموال، بما يسمح للمصارف بالاستمرار بالتحكم بالقطاع. علماً أن جمعية المصارف كانت من أشد الداعين لإقرار كابيتال كونترول، لكن على قياسها، فعضو جمعية المصارف نديم القصار سبق أن أكد ذلك صراحة في جلسة للجان المشتركة عقدت نهاية العام الماضي، محذراً حينها من أن عدم السير بالقانون يمكن أن يؤدّي إلى توسّع حركة الدعاوى، بما يُهدّد المصارف بالإفلاس. إلا أن حماس المصرفيين لقانون الكابيتال كونترول تراجع بعد انحسار عمل القضاء المحلي بنتيجة الإضرابات المعيشية وقلة عدد الدعاوى الدولية المقامة ضدهم. 

بالتوازي مع هذه الحملة، لا تزال جمعيات المودعين تعارض إقرار القانون، رفضاً لقوننة مخالفات المصارف وضياع أموال المودعين، خاصة أنه في صيغته الحالية يبدو أبعد ما يكون عن منطق إقرار قوانين ضبط حركة الأموال. فالقانون لا يمت للكابيتال كونترول بصلة بحيث يفترض أن تكون الغاية الأساسية منه هي معالجة العجز الحاصل في ميزان المدفوعات وما يستتبعه من نتائج خطيرة على الاقتصاد، في حين أن القانون الحالي يهدف إلى إيجاد حل لمشكلة ما يسمى باللولار أو الأموال القديمة. وهو  إذ يميّز بين الأموال القديمة والجديدة، لا يضع أي قيود على الأموال الجديدة، بما يناقض مبدأ ضبط حركة تحويل الأموال بالمطلق. أضف إلى أن اللجنة المنشأة بموجب المشروع لتولي وضع القيود المفروضة لا تخضع لمعايير شفافة ولا يوجد أي ضمانة لحيادية أعضائها واستقلاليتهم عن السلطة السياسية (اللجنة مؤلفة من وزير المالية وحاكم مصرف لبنان وخبيرين اقتصاديين وقاض يختارهم رئيس مجلس الوزراء). كذلك فإن النص المطروح يضرب الشمول المالي بسبب وضعه قيوداً على فتح الحسابات، فيما المطلوب إيجاد حل لتنامي اقتصاد الكاش.

كل هذه الملاحظات تجد من يتبنّاها في المجلس، لكن مع فارق أنه بدلاً من رفض القانون بالمطلق، "ندخل إلى الجلسة في سعي لتعديل أغلب البنود تعديلات جوهرية تؤدي بالنتيجة إلى أمرين: وقف استنسابية المصارف وضبط حركة الأموال إلى الخارج"، كما يقول نواب متحمسون لإقرار القانون معدلاً. أما في ما يتعلق بالحسابات الموجودة والمصادرة من قبل المصارف، فثمة واقع مفروض على الجميع، ويتمثل في تحديد مصرف لبنان لضوابط غير قانونية على الحسابات، فيما يأتي القانون لينظم هذه العملية، ويضع استثناءات تسمح في حالات محددة للمودعين بالسحب من أموالهم، علماً أن فريقاً آخر من مؤيدي إقرار القانون، ومنهم النائب جبران باسيل يدعو إلى فصل التحويل إلى الخارج عن السحوبات في الداخل، بحيث يركز القانون على ضبط التحويلات فقط. لكن هذا الموقف يناقضه من يعتبر أن وصول الوضع المالي والنقدي إلى ما وصل إليه يحتّم عدم الاكتفاء بكابيتال كونترول تقليدي كان يفترض أن يقر في بداية الأزمة، بل يتطلب ضبط الوضع المالي والمصرفي الذي نشأ نتيجة عدم إقرار الكابيتال كونترول في الوقت المناسب.