الكابيتال كونترول يُربط بإعادة هيكلة المصارف: القوانين الإصلاحية جزء من التسوية؟

إيلي الفرزلي

17/12/2022

انشر المقال

كما عقدت الهيئة العامة لمجلس النواب 10 جلسات صُورية لانتخاب رئيس للجمهورية، كذلك عقدت اللجان النيابية المشتركة في عهد المجلس الجديد 10 جلسات صورية لإقرار قانون الكابيتال كونترول. تلك الجلسات أضيفت إلى الجلسات التي عقدتها هذه اللجان في المجلس السابق، والتي كانت نتيجتها واحدة: تضييع الوقت في نقاشات لا تنتهي، ساهمت عملياً في ترك مصرف لبنان والمصارف أحراراً في تنفيذ ما يحلو لهم من قيود على المودعين، دوناً عن النافذين والمحظيّين، الذين تمكّنوا من تحويل أموالهم إلى الخارج منذ ما قبل تشرين الأول 2019. 

الكابيتال كونترول في كل العالم هو قانون استثنائي يوضع في وقت الأزمات لضبط عملية خروج الرساميل من البلد، بما يُساهم في الحدّ من الخسائر التي يتكبّدها الاقتصاد ويُقلّص من الفجوة في الميزان التجاري، على أن تخفّ هذه القيود مع بدء عملية التعافي. في لبنان، كانت السلطة، المسؤولة فعلياً عما وصل إليه البلد، من أشدّ الرافضين لإقرار قانون الكابيتال كونترول في بداية الأزمة، بحجة حماية الحرية الفردية والحق في نقل الأموال. وتلك كانت الخديعة التي ساهمت في تعميق الانهيار، ولا تزال مفاعيلها مستمرة. 

ما تغيّر أن السلطة، تحت ضغط صندوق النقد الدولي، لم تعد تعارض الكابيتال كونترول علناً، لكنها ظلت عملياً تقف حجر عثرة في وجهه وفي وجه أي مسعى إنقاذي، مفضّلة الاستمرار في تكليف مصرف لبنان مهمة تذويب الخسائر من خلال تحميلها لعموم الناس، على شكل تضخم هائل وعلى شكل هيركات على الودائع يتخطى 75%. 

لذلك، تعتمد اللجان والكتل النيابية عموما منذ العام 2020 التسويف منهجاً في دراسة اقتراحات الكابيتال كونترول، والتي استبدلت في بداية 2022 بمشروع قانون مقدم من الحكومة قيل إنه متفق عليه مع صندوق النقد الدولي. لكن مع ذلك لم تتغير حقيقة أن أغلب الكتل لا تريد إقرار الكابيتال كونترول كلّ لغايتها. أولاً كان الرفض للقيود على التحويلات مرتبطاً بسعي الطبقة السياسية إلى تهريب أموالها إلى الخارج أو سحبها من المصارف، بعدها صارت الغاية إقرار قانون يؤمن مصلحة المصارف. لذلك، انتقلت تلك المصارف من رفض الكابيتال كونترول إلى السعي إلى إقراره متضمناً مادة تحمي المصارف من الدعاوى القضائية المطالبة باسترجاع الودائع. صار ممثلو جمعية المصارف حينها يحذّرون من أن أيّ تأخير سيؤدي إلى إفلاس المصارف. مع الوقت تبيّن أن الدعاوى لا ترقى لتشكل حالة ضاغطة. فالدعاوى التي رفعت في الخارج وأدّت إلى استرجاع مودعين لأموالهم لا تتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة، فيما الدعاوى الداخلية تكسّرت أمام نفوذ أصحاب المصارف في القضاء. أمام هذا الواقع، عادت وخفتت مساعي إقرار القانون. وصارت قوة الدفع الوحيدة هي صندوق النقد الدولي، الذي وضع إقرار الكابيتال كونترول واحداً من الشروط المطلوبة لتوقيع برنامج مع لبنان. 

بعد جلسات طويلة حفلت بالنقاشات العامة، قررت اللجان المشتركة السير  بدرس المشروع مادة مادة، وهذا لم يكن نتيجة اتفاق على أهمية إقرار القانون، بل كانت طريقة جديدة للمماطلة. إذ أن كل طرف ظل على رأيه. القوات والكتائب وعدد من المستقلين طالبوا بإقرار مشروع القانون بالتزامن مع القوانين الإصلاحية الأخرى، مقابل تأكيد آخرين أن لا رابط بين هذه القوانين، ومن هؤلاء نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الذي يؤكد أن القوانين الأخرى، أي إعادة هيكلة المصارف وقانون التوازن المالي، هي التي يحتاج تطبيقها إلى وجود قانون كابيتال كونترول لكن العكس ليس صحيحاً. 

أما التيار الوطني الحر وحزب الله فكانا من الداعين إلى البدء بمناقشة القانون مادة مادة وإجراء كل التعديلات الضرورية عليه، وهو ما حصل في النهاية، قبل أن يكشف الياس بو صعب أن مناقشة المشروع لا تغير من الواقع شيئاً. إذ أشار إلى أن "قانون الكابيتال كونترول سيوضع على جنب بعد إقراره، إلى حين استكمال إقرار القوانين المتبقية المتعلّقة بخطة التعافي". هكذا ببساطة تبين أن السياق الذي كان مرفوضاً من أبو صعب نفسه لم يعد كذلك. علماً أن لا صلاحية للجان النيابية أن تقرر وضع قانون على جنب، بل يفترض بها أن تدرس ما يحول إليها على أن ترفعه إلى الهيئة العامة. 

كل ذلك الخلاف ظلّ يخفي حقيقة أنّ ما يناقش فعلياً قد يكون أبعد ما يكون عن ضبط حركة السحوبات والتحويلات، بما يفترض أن يساهم عملياً في تقليص عملية خروج الأموال من لبنان. هو بشكل أدق، قانون يعالج مسألة الحسابات العالقة في المصارف، ويقونن التعاميم التي أقرّها مصرف لبنان بشأن السحوبات. القيمة المضافة أنه يفتح الباب أمام استثناءات قانونية لعملية منع التحويلات، لكنه يربطها جميعها بقرارات تصدر من لجنة لحاكم المصرف المركزي اليد الطولى فيها. الطامة الكبرى أن القانون يميز بين الأموال الجديد والأموال القديمة، بحيث يسمح بحرية حركة مطلقة للأموال الجديدة، بما يلغي فكرة ضبط حركة الأموال إلى الخارج. وحتى بعد التعديل استبدلت عبارة الأموال القديمة والجديدة بعبارة الحسابات الجديدة والقديمة، بما يؤدي إلى النتيجة نفسها، أي تثبيت عملية سرقة الودائع، مقابل تشجيع حركة الأموال "الفريش".  

للتذكير كان صندوق النقد قد طلب إقرار 4 قوانين: الموازنة، السرية المصرفية، هيكلة المصارف وتوازياً خطة التعافي، التي تتضمن إقرار قانون التوازن المالي، ثم قانون الكابيتال كونترول. رافضو الكابيتال كونترول كانوا صعّدوا من مطالبهم. أولاً كان المطلوب الاطّلاع على الخطة الحكومية، ثم صار المطلوب تحويلها رسمياً إلى المجلس. وبعد ذلك صار المطلوب إقرار القوانين الإصلاحية بالتوازي مع الكابيتال كونترول. التوازي ربما يكون ضرورياً أو لا يكون. المشكلة ليست في ما يعلنه النواب، بل في حقيقة تأخير كل القوانين الإصلاحية. المجلس أقرّ موازنة 2022 في الشهر الأخير من العام، وأقر قانون السرية المصرفية بعد الكثير من المساعي لتفريغه من مضمونه، لكن قانون هيكلة المصارف لا يزال في غياهب النسيان، وهو القانون الذي قد يكون الأهم لبدء عملية التعافي وتوزيع الخسائر، علماً أن الخطة التعافي التي أقرتها الحكومة وترجمت في مشروع قانون لم تحوّل إلى المجلس النيابي أيضاً. المشكلة أن اللبنانيين يدركون خطورة تضييع الوقت. أبرز مثال على ذلك أن خطة التعافي التي أقرتها حكومة حسان دباب وطيرتها لجنة المال النيابية كانت وضعت سعراً للدولار يتراوح ما بين 3000 ليرة و4000 ليرة. بعد مرور أقل من سنتين صار سعر الدولار المحدد في خطة التعافي التي أقرتها الحكومة الحالية 20 ألف ليرة. لن يتأخر الوقت قبل أن يتضح أن هذا السعر لن يكون واقعياً بعدما قارب السعر الحقيقي للدولار 43 ألف ليرة. تلك الخسائر التي يتحملها الناس في معيشتهم تدل بوضوح أن الجرم الذي ظهر في نهاية 2019، هو جرم مستمرّ ومتفاقم. أما من يدعي الحرص على أموال المودعين فهو ببساطة يكذب لأنه هو من ساهم في تطيير هذه الأموال، ولن ينفع إيحاؤه أن المطلوب قانون كابيتال كونترول يضمن هذه الحماية، حتى لو ذكر ذلك في المادة الأولى من القانون. 

أمام هذا الواقع يبدو جلياً أن كل الكتل تتحمل مسؤولية ما آلت له الأمور. فالحديث عن وجوب عدم إقرار الكابيتال كونترول قبل إقرار قانون هيكلة المصارف والتوازن المالي، قد يكون صحيحاً بعدما لم يقرّ قانون الكابيتال كونترول في الأيام الأولى من الأزمة. لكن الأصح هو السؤال عن سبب عدم إقرار هذه القوانين حتى اليوم. فنائب رئيس الحكومة يبرّر التأخير بالقول إن قانون هيكلة المصارف يحتاج إلى الوقت نظراً لدقّته. هل يُعقل بعد ثلاث سنوات أن لا تكون الحكومة قد انتهت من إعداد قانون هيكلة المصارف. الجرم الأساسي يتعلق أولاً وأخيراً بتأخير إقرار قوانين أساسية للخروج من الأزمة. حتى إقرار الموازنة لم يوضع سوى في إطار زيادة الضرائب من دون أن رؤية تربط بين الضرائب وبين مستوى الدخل. 

وبالرغم من إشارة المعنيين إلى أنه تمّ الانتهاء من صياغة مسودة القانون، فإن الجلسة الحكومية التي عقدت تحت عنوان الضرورة لم تجد في القوانين الإصلاحية أي ضرورة. وفي ظل توقعات بعدم عقد جلسة ثانية للحكومة، فإن الخيار الوحيد سيكون في توقيع المسودة كاقتراح قانون من نواب. لكن ذلك لا يعني أن إقراره سيكون يسيراً، في ظل تأكيد كتل عديدة عدم المشاركة في أي جلسة تشريعية قبل انتخاب رئيس للجمهورية. وكل ذلك يقود إلى أن الغاية الأساس هي تأجيل كل شيء إلى حين التسوية السياسية المتمثلة أولاً بانتخاب رئيس للجمهورية.