المصارف تضغط من أجل إقرار "الكابيتال كونترول": تجميد المسؤوليات من دون تجميد الموجودات
17/02/2023
تسرّبت إلى وسائل الإعلام نهاية الأسبوع الفائت، النسخة النهائية لمشروع قانون الكابيتال كونترول كما عدّلته اللجان المشتركة برئاسة نائب رئيس المجلس النيابي الياس بو صعب. وفي حين لم يُرفق بالنسخة المسرّبة تقرير اللجان المُشتركة لمعرفة الأُسس التي استندتْ إليها التعديلات أو الأرقام التي أُدخلت على المشروع، فإنّه بدا منعزلا عن أيّ تصوّرات لإعادة هيكلة المصارف ودورها أو لإعادة عجلة الاقتصاد أو حماية سلامة النقد خلافا لما كان تعهد به بو صعب، بل مجرد انعكاس لرغبات المصارف للتنصل من أي مسؤولية تجاه الفجوة الكبرى الحاصلة بين السيولة لديها أو حتى موجوداتها والتزاماتها تجاه المودعين. وفي هذا السياق، أعلنت جمعية المصارف إضرابا ما يزال مستمرّا للأسبوع الثّاني على التوالي، حيث كانت أبرز مطالبه إقرار اقتراح قانون الكابيتال كونترول على الصورة التي انتهت اللجان المشتركة إليها بمعزل عن قانون إعادة هيكلة المصارف.
وفيما أُجهضت محاولة لعقد جلسة تشريعية كان يُفترض أن يكون مشروع الكابيتال كونترول المُعدّل على جدول أعمالها بحجة شغور رئاسة الجمهورية، فإنّ المصارف تأمل من خلال إعلان الإضراب المفتوح في إرغام المجلس النيابي على الانعقاد لهذه الغاية.
وعند التدقيق في النسخة الأخيرة لمشروع القانون كما عدّلتها اللجان المشتركة، نجد أنه مركب من فئتين من الأحكام منها ما ينطبق مباشرة (وهي تمثل ربما الإرادة الحقيقية من ورائه) ومنها ما يبقى تطبيقه معلقا على إجراءات وتدابير أخرى يصعب جدا اتخاذها في المدى المنظور على ضوء الخلل الحاصل في عمل السلطات العامة (وهي ربما تمثل زيادات للإيحاء بأن المشروع متوازن على خلاف ما هو عليه).
لا يمكن التنفيذ على موجودات المصارف مهما ثقلت ذمتها
هنا، نجد المادة الأكثر خطورة في الاقتراح وهي تنصّ على أنه "يُعلّق تنفيذ جميع الأحكام والقرارات القابلة للتنفيذ في لبنان والخارج والتي صدرت قبل صدور هذا القانون والتي لم تنفّذ بعد وتلك التي ستصدر بعد دخوله حيّز التنفيذ والمتعلّقة بمطالبة أو بتدابير مخالفة لأحكامه، يبقى هذا التعليق ساريا لغاية انتهاء مهلة تطبيق هذا القانون".
ومؤدّى هذه المادة في حال إقرارها إفراغ القرارات القضائية الصادرة عن المحاكم في الداخل أو الخارج من قوتها التنفيذية حتى ولو كانت مبرمة طوال مدة القانون التي تصل إلى سنة قابلة للتجديد، فضلا عن تعطيل دعاوى الإفلاس ضدها. وعليه، ستستفيد المصارف من جرّاء هذه المادة في حال إقرارها، للتهرّب من تنفيذ القرارات والأحكام القضائية الصادرة بحقّها والتي برز منها في الفترة الأخيرة قرار محكمة التمييز بوجه فرنسبنك.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ النسخ السابقة للكابيتال كونترول كانت تنصّ على أنّ مفاعيله تسري على الدعاوى التي لم يصدر فيها أحكام مُبرمة بعد. وقد تطوّرت هذه الصيغة نحو استبعاد تقييد الدعاوى مكتفية بتعليق مفاعيل أيّ أحكام أو قرارات قد تصدر بنتيجتها، ويُرجّح أن يكون تمّ ذلك بناء على استشارات هدفت إلى تحصين قابلية النص للتطبيق في الخارج من دون اعتباره غير دستوريّ.
ومن شأن ذلك أن يريح المصارف ويجنّبها أي تنفيذ على موجوداتها، وأن يمنع المودعين تبعا لذلك من تحصيل أيّ من أموالهم بما يتعدّى ما يجيزه القانون نفسه. وإذ يُستبعد أن تؤدّي هذه المادة بحدّ ذاتها إلى إسقاط الحجوزات الاحتياطية على المصارف أو على مدرائها سندا للمادة 111 من قانون الموجبات والعقود (التي تجيز للدائن … أن يعمد إلى الحجز الاحتياطي حين يجد من الأسباب الصحيحة ما يحمله على الخوف من عدم ملاءة المديون أو من إفلاسه أو من هربه)، يبقى أن المشروع لم يتضمّن أي ضمانة لمنع المصارف من تهريب ممتلكاتها (من عقارات وأسهم وغيرها) إضراراً بالدائنين وذلك خلافا للمنطق الذي يوجب بالحدّ الأدنى تجميد التصرّف بالموجودات في الفترات التي يتمّ فيها تجميد المسؤوليات.
لا حقوق مكتسبة للمودعين مهما بلغت ودائعهم
بعيدا عن المادة العاشرة المذكورة أعلاه والتي تُعتبر الغاية الأهم من مشروع القانون، فإنّ ما تبقى من الاقتراح يُبقي على الحال على ما هو عليه، لا بل يقنّنه من دون أن يمنح المودعين أيّ حقّ مكتسب.
فقد حدّد مشروع القانون الحدّ الأدنى للمبلغ الذي يُمكن للمودعين سحبه (800 د.أ)، وهو رقم يتطابق مع المبلغ الذي بإمكان أيّ مودع الاستفادة منه عملا بالتعميم 158 الصادر عن مصرف لبنان. وفي حين ذكر هذا المبلغ في المشروع بالدولار الأميركي من دون أي إشارة إيجابا أو سلبا إلى العملة التي سيسدّد بموجبها، فإنّ المادة 5 منه تفتح الباب أمام التكهّنات لجهة إمكانية تسديده بالليرة وفق سعر صرف يعود لحاكم مصرف لبنان ووزير المالية تحديده بمعزل عن المعايير الموضوعية. فقد جاء في هذه المادة أن مصرف لبنان يؤمّن استقرار سوق القطع وفقا للسعر الفعلي ووفقا لما هو منصوص عنه في قانون النقد والتسليف ولا سيما المادتين 75 و229 منه وإنفاذًا لهذا القانون. وتأكيدا لهذه المخاوف، يكفي التذكير بما نصت عليه هاتان المادتان:
- المادة 75: يستعمل المصرف الوسائل التي يرى أن من شأنها تأمين ثبات القطع ومن أجل ذلك يمكنه خاصة أن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشتريا أو بائعا ذهبا أو عملات أجنبية مع مراعاة أحكام المادة 69. وتقيد عمليات المصرف على العملات الأجنبية في حساب خاص يسمى "صندوق تثبيت القطع".
- المادة 229: ريثما يحدّد بالذهب سعر جديد لليرة اللبنانية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي وريثما يثبت هذا السعر بموجب قانون وفقا للمادة الثانية، يتخذ وزير المالية الإجراءات الانتقالية التالية التي تدخل حيّز التنفيذ بالتواريخ التي سيحدّدها.
والحقيقة أنّ الصلاحيات التي تنص عليها المادة 75 تتعلّق بتدخّل مصرف لبنان بوصفه المصرف المركزي في السوق النقدية من أجل تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الذهب والعملات الأجنبية وليس من أجل تحديد سعر صرف بقرار إداري يتمّ فرضه على الجميع. أما المادة 229 فهي مادة انتهى مفعولها بانتهاء مفعول اتفاقيات "بريتون وودز" وليس استحضارها هنا إلا محاولة لتأبيد سياسة أسعار الصرف المحددة بقرارات إدارية والمعمول به منذ بدء الأزمة.
وفي حين أتاح المشروع رفع قيمة السحوبات المسموح بها من قبل لجنة خاصة (مؤلفة من وزير المالية وحاكم مصرف لبنان وقاضٍ من الدرجة 18 إضافة إلى 4 خبراء)، فإنه من غير المتوقع أن تنشأ هذه اللجنة أو على الأقل أن يكون بمقدورها أن تعمل قبل انتهاء مدة هذا القانون المحددة بسنة واحدة. هذا ما يتحصل من توقّع أن يطول الفراغ الرئاسي ومعه الفراغ الحكومي، كما يتحصل من اشتراط بدء عملها بتحديد آلية عملها "بموجب قرار يصدر عن مجلس الوزراء بموجب مراسيم تنظيمية ونصوص تطبيقية".
خلاصة:
يتبدّى إذ ذاك أنّ المشروع المعدّل لن يكون له أي مفعول على المودعين أو يُكسبهم أكثر ما تُكسبهم تعاميم رياض سلامة الحالية. لا بل أكثر من ذلك، فهو لن يكون له أي مفعول لتخفيف العجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري الذي تمتدّ أضراره إلى المجتمع برمّته وليس فقط إلى المودعين.
إذ أن جلّ ما سيُغيّره هذا المشروع في حال إقراره هو تحرير المصارف العاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها من أي مسؤولية تجاه المودعين لديها، بما يتعدّى دفع المبالغ الزهيدة المشار إليها أعلاه، من دون أن يقترن بأيّ حماية لمنعها من تهريب أموالها وموجوداتها إضرارا بحقوق هؤلاء. وبذلك، وإذ ينحاز مشروع القانون إلى المصارف مسهّلا عليها تهريب أموالها بغياب أي قانون لإعادة هيكلتها، فإنّ من شأن أيّ تساهل مماثل أن يعزّز مواقف المطالبين بتحميل الدولة مسؤولية تسديد الودائع في ظلّ غياب أي مسؤول آخر.
يمكنكم هنا الاطلاع على مشروع القانون كما عدلته اللجان النيابية المشتركة