عن هرطقة دستورية غير مسبوقة: انتخاب قائد الجيش من دون تعديل للدستور

وسام اللحام

26/12/2024

انشر المقال

تروج في الأوساط السياسية نظرية تقول بأنّ انتخاب قائد الجيش كرئيس للجمهورية في جلسة 9 كانون الثاني المقبلة هو أمرٌ جائز من دون الحاجة إلى تعديل المادة 49 من الدستور التي تمنع انتخاب موظفي الفئة الأولى وما يعادلها وتنص أيضا على عدم جواز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية "ما لم يكن حائزًا على الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح"[1]. وهي الشروط التي لا تتوفر قطعا في قائد الجيش الذي يدخل ليس فقط من ضمن فئة موظفي الفئة الأولى وما يعادلها لكنه مشمول أيضا بالشروط المانعة لأهلية الترشيح للنيابة كون الفقرة "ج" من المادة الثامنة من قانون الانتخابات الصادر سنة 2018 تمنع صراحة ترشيح العسكريين على اختلاف رتبهم لعضوية مجلس النواب.

وقد نقل عن رئيس مجلس النواب قوله إن انتخاب قائد الجيش يحتاج إلى تعديل دستوري مع الإشارة أن بعض الأوساط السياسية تضيف بأن التعديل لا حاجة له في حال نال قائد الجيش غالبية الثلثين من النواب في الدورة الأولى كون ذلك يعتبر تعديلا ضمنيّا للدّستور عملا بسابقة انتخاب العماد ميشال سليمان سنة 2008.

ويحار المرء في كيفية الرد على تلك النظرية ليس لمدى صدقها أو دقتها بل لمقدار وقاحتها وفداحتها الدستورية التي تبلغ مستويات الهرطقة المكتملة الأوصاف. لذلك كان لا بد من تبيان مدى خطورة هذه المزاعم على البنيان القانوني للدولة برمّتها ومقدار استهتارها بأبسط المبادئ الدستوريّة.

تنطلق هذه النظريّة من فهمٍ مغلوط لتعديل الدستور إذ تعتبر أن الجهة المخوّلة بذلك هي مجلس النواب. والحقيقة أن الدستور اللبناني يقوم بكليته على فكرة فصل السلطة التأسيسية (pouvoir constituant) عن السلطات العادية التي تم تأسيسها (pouvoirs constitutés) وهي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي نص عليها الدستور. والسلطة التأسيسية هي السلطة التي تضع الدستور أو السلطة التي تتولى تعديله وبالتالي لا يمكن منح أي سلطة قضى الدستور بإنشائها الحق بممارسة السلطة التأسيسية لأن ذلك يؤدي أولا إلى خرق مبدأ الفصل بين السلطات وثانيا إلى تهديد حريات المواطنين وحقوقهم الأساسية.

فالدستور يهدف إلى إيجاد مجموعة من المبادئ التي تتمتع بقيمة سامية ما يشكل ضمانة للمواطنين لأن تلك المبادئ لا تدخل ضمن صلاحيات السلطة التشريعية أو أيّ سلطة دستورية أخرى. وعليه، تصبح السلطات التي أوجدها الدستور خاضعةً لتلك المبادئ. فالسلطة التأسيسية تخلق السلطات الدستورية وتفرض عليها في الوقت نفسه احترام المبادئ التي ينص عليها الدستور إذ لو كانت السلطات العادية قادرة من تلقاء نفسها على تعديل الدستور لكانت باتت تتمتع بالحرية المطلقة لتبديل القواعد التي من المفترض أن ترعى عملها، ما يفقد الدستور سموه ويحرم المواطنين ليس فقط من ضمانة الفصل بين السلطة التأسيسية والسلطات العادية بل أيضا يشكل مصادرة لسيادة الشعب كونه يكون قد تخلى عن كل سلطانه لصالح هيئة واحدة. ويذهب "مالبرغ" إلى حد القول بأن الثورة الفرنسية برمّتها القائمة على الاعتراف بحقوق الإنسان تقوم على مبدأ الفصل بين السلطة التأسيسية والسلطات العادية[2].

فالدّستور اللبناني لم يمنح مجلس النواب بوصفه السلطة التشريعية صلاحيّة تعديل الدستور، لكنه منحه هذه الصلاحيّة بوصفه سلطة تأسيسيّة وضمن شروط خاصّة تختلف كليّا عن الآلية التشريعية العادية. لا بل كان بإمكان الدستور أن يمنح صلاحية تعديله إلى هيئة غير مجلس النواب كجمعية منتخبة خصيصا وحصرا من أجل تعديل الدستور وهو الحل المتبع في بعض الدول.

جراء ما تقدم يصبح جليا أن مجلس النواب لا يمكن له الموافقة على تعديل الدستور إلا وفقا للآلية الدستورية المعقّدة التي فرضها هذا الأخير والتي تختلف كليا عن التشريع العادي في مجموعة من نقاط يمكن اختصارها وفقا للتالي:

  • لا يحقّ لنائب بمفرده اقتراح تعديل الدستور بل يتطلب ذلك اقتراح عشرة نواب بينما اقتراح القانون العادي يجوز أن ينطلق من مبادرة فردية للنائب.
  • لا يحقّ لمجلس الوزراء المبادرة واقتراح تعديل الدّستور بل يعود هذا الحقّ لرئيس الجمهورية بينما بإمكان مجلس الوزراء اقتراح مشاريع القوانين العادية.
  • عندما يقترح عشرة نواب تعديل الدستور ويوافق مجلس النواب على ذلك لا يعتبر هذا العمل اقتراحا بل رغبة يبديها المجلس بتعديل الدستور على أن تحال هذه الرغبة إلى مجلس الوزراء الذي يتولى هو وضع مشروع التعديل الدستوري وعرضه على مجلس النواب، ما يعني أن مجلس النوّاب لا يصوّت في رغبته على قانون دستوري مقسّم إلى مواد بل يمكنه فقط تحديد هدف التعديل ويترك صياغة النص للحكومة. ولا شكّ أن هذا اختلاف جوهري وكبير مع التشريع العادي كون النائب يقترح القانون في صيغته الكاملة ومجلس النواب يصوت عليه في صيغته النهائية ولا ينتظر أن تعدّ الحكومة مشروع قانون كي يصوت عليه مجددا.
  • لا يمكن لمجلس النواب أن يبدي رغبته بتعديل الدستور إلا في العقود العادية أي أنه لا يحق له التصويت على هكذا رغبة في العقود الاستثنائية بينما يعود لمجلس النواب إقرار قوانين اقترحها النواب في العقود الاستثنائية.
  • إن نصاب جلسة مجلس النواب لتعديل الدستور يتشكل من ثلثي مجموع أعضاء المجلس بينما نصاب الجلسة التشريعية هو الغالبية المطلقة فقط.
  • إن إقرار القوانين العادية يتم بالغالبية العادية بينما إقرار تعديل الدستور يتطلب موافقة غالبية مشددة تتألف من ثلثي مجموع أعضاء المجلس.
  • لمجلس الوزراء أن يرفض رغبة مجلس النواب بتعديل الدستور بينما لا يحق له أن يرفض القوانين العادية متى أقرها مجلس النواب. وفي حال أصر مجلس النواب بغالبية ثلاثة أرباع أعضائه على التعديل يمكن لرئيس الجمهورية حلّ المجلس بينما هكذا اجراءات تغيب كليا عن آلية إقرار القوانين العادية.

وهكذا يصبح جليا أن مجلس النواب لا يستطيع تعديل الدستور من تلقاء نفسه بل الأمر يتطلّب تعاونا وثيقًا مع السلطة التنفيذية وفقا لآلية معقّدة نصّ عليها الدستور. وبالتالي القول بأن حصول قائد الجيش في الدورة الأولى على الثلثين هو تعديل ضمني للدستور يعتبر ساقطا ومردودا بالكامل لأن غالبية الثلثين ليست إلا شرطا واحدا من الشروط الكثيرة التي يفرضها الدستور لتعديله ولا يمكن إطلاقا اختصار هذه الآلية بشرط الثلثين فقط.

علاوة على ذلك، يرفض الدستور كل نظرية التعديل الضمني كونه ينصّ في المادة 78 منه على أن مجلس النواب عندما يصوّت على تعديل للدستور "لا يمكنه ِأن يجري أي مناقشة أو أن يصوت إلا على المواد والمسائل المحدّدة بصورة واضحة في المشروع الذي يكون قد قدّم له" أي مشروع القانون الدستوري الذي أعدّته الحكومة كون المجلس لا يستطيع أن يصوت على اقتراحات قوانين دستورية كما مرّ معنا. فالتصويت على تعديل الدّستور يتمّ على موادّ واضحة وليس على موادّ ضمنية، وتنطبق هذه القاعدة من باب أولى حين يتصل الأمر بعملية انتخابية لا علاقة لها لا من قريب أو بعيد بإقرار أي مواد تشريعية. 

من جهة أخرى، في حال وضعنا جانبا مسألة كيفيّة احتساب الغالبية المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهورية وسلّمنا جدلا بأنها تتطلب ثلثيْ من مجموع النواب وليس من الحضور فإن مجلس النواب خلال جلسة انتخاب رئيس الجمهورية عملا بالمادة 75 من الدستور هو "هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية" أي أن المجلس لا يحق له تعديل الدستور في هذه الجلسة بشكل صريح ولا يحق له من باب أولى تعديله بشكل ضمني كون مهمته تقتصر حصرا على انتخاب رئيس الدولة.

ولا شكّ أنّ خطورة نظرية "التعديل الضمني" العجيبة تظهر بشكل فاقع في حال نظرنا إلى تداعياتها الكارثية. فالقانون العادي قد يحصل عند التصويت عليه على موافقة ثلثي مجلس النواب، فهل يجوز القول حينها أن هذا القانون بات تعديلا مبطنا للدستور بحيث يتوجب اعتبار كل القوانين العادية التي يوافق عليها النواب بغالبية الثلثين بمثابة قوانين دستورية لها قوة الدستور نفسه؟ وهل بات على المجلس الدستوري عند مراقبته دستورية القوانين العادية أن يتأكد ليس فقط من احترامها لأحكام الدستور بل أيضا لكل القوانين العادية التي حصلت على موافقة غالبية الثلثين؟ وهل يحق للمجلس الدستوري أن يراقب القوانين العادية التي أقرها البرلمان بغالبية الثلثين كونها تدخل في عداد التعديلات الدستورية الضمنية بينما صلاحياته تقتصر على مراقبة دستورية القوانين العادية من دون القوانين الدستورية عملا باجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي في هذا المجال؟ واستطرادا منحت المادة 19 من الدستور المجلس الدستوري صلاحية النظر في طعون الانتخابات الرئاسية، فهل يحق لهذا الأخير النظر في انتخاب قائد الجيش في حال انتخب من الدورة الأولى بتعديل ضمني للدستور كون هذا الانتخاب بات محصنا بقوة هذا التعديل الضمني المزعوم. لا بل أكثر من ذلك كل مرشح ينتخب في الدورة الأولى بغالبية الثلثين يصبح بمنأى عن الطعن بصحة انتخابه كونه حظي بتعديل ضمني استثنائي يسمح بتغطية أي مخالفة دستورية أو قانونية يمكن حصولها خلال جلسة الانتخاب. 

إن شناعة هذا القول لا تحتاج إلى مزيد من الشرح أو الاستفاضة في التحليل غير تخيّل الأوضاع العجائبية التي قد تنجم عن هكذا نظرية، وهي نظرية لا يمكن أن توجد في دولة دستورها جامد يقوم على الفصل بين السلطة التأسيسية والسلطات العادية. وحتى في بريطانيا حيث نظرية التعديل الضمني يمكن تبريرها نظريا كون البرلمان مخولا تعديل الأحكام الدستورية مثل أي قانون عادي بسبب غياب دستور شكلي أسمى من القوانين العادية، لكن ذلك يتم في معرض ممارسة البرلمان لسلطته التشريعية وليس من خلال عملية انتخابية لا تهدف بأي شكل من الأشكال إلى سنّ قواعد آمرة ملزمة للدولة وللمجتمع.

ومن التلاوين البديعة التي تم التسويق لها سنة 2008 عند انتخاب ميشال سليمان القول بأن حصول شغور في رئاسة الجمهورية يسقط المهل التي تنص عليها الفقرة[3] الأخيرة من المادة 49 من الدستور ما يسمح بانتخاب موظفي الفئة الأولى وما يعادلها من دون انتظار مرور سنتين عن انفصالهم عن وظيفتهم. ولا شك أن هذا الزعم الاعتباطي يؤدّي إلى ضرب الهدف الذي من أجله تم تعديل الدستور سنة 1990 من أجل منع انتخاب موظفي الفئة الأولى وما يعادلها لا بل هو يشجع على خرق الدستور إذ يصبح من مصلحة هؤلاء الموظفين ومن يدعمهم من القوى السياسية الحاكمة عرقلة انتخاب رئيس الجمهورية والدفع نحو الشغور الرئاسي من أجل إسقاط المهل و انتخاب مرشحهم.

وقد برّر البعض هكذا اجتهاد من خلال القياس على قانون الانتخابات الذي يسمح في الانتخابات النيابية الفرعية انتخاب من لا يحق له الترشح في الانتخابات العامة في حال استقال قبل 15 يوما من صدور مرسوم دعوة الهيئات الناخبة. وفي حال وضعنا جانبا أنه لا يجوز قياس الأحكام الدستورية على الأحكام القانونية العادية، وفي حال أيضا تغافلنا على حقيقة فرض قانون الانتخابات استقالة الموظف لو ضمن مهل مختصرة من أجل قبول ترشحه في الانتخابات الفرعية، فإن النظام الدستوري اللبناني لا يوجد فيه أصلا آلية ترشيح لرئاسة الجمهورية كي يتم "اسقاط المهل" -أو اختصارها بتعبير أدق كون إسقاط المهل غير موجود- عند حصول شغور في رئاسة الجمهورية وهو شغور غير مفاجئ في الواقع اللبناني كون الجميع يعلم مسبقا أن المجلس سيفشل في انتخاب الرئيس وأن الشغور واقع لا محالة لا بل أن هذا الشغور امتدّ ولا يزال على أكثر من سنتين جرى خلالها التمديد أكثر من مرة لقائد الجيش.

خلاصة القول، إن نظرية التعديل الضمني لا تصدر إلا عن سلطة تعتبر أن الدستور هو مجرد توافق بين القوى الحاكمة التي تصبح مشيئتها السياسيّة منتجة للقاعدة الدستورية. وهي نظرية كارثية في نتائجها كون تدمّر كل أركان النظام الدستوري للدولة اللبنانيّة وتفتح الباب لتأويلات عشوائيّة لا حدود لها، هذا فضلا عن أنّه لا وجود لها في أيّ نظام دستوريّ معروف في التاريخ ولم يقل بها أحد.

 


[1] مع الإشارة أن عبارة "وغير المانعة لأهلية الترشيح" أضيفت سنة 1990 إلى الدستور.

[2] « Ainsi, parmi les mesures d’organisation constitutionnelle propres à assurer la protection du droit individuel, l’une des plus importantes est précisément la séparation du pouvoir constituant. Le concept de 1789, d’après lequel la constitution toute entière est fondée sur la reconnaissance des droits de l’homme et en forme la garantie, implique nécessairement cette séparation » (Malberg, Contribution à la Théorie générale de l'Etat, Tome II, Sirey, 1920, Paris, p. 520).

[3]  لا بد من الإشارة أن الفقرة الأخيرة من المادة 49 من الدستور لا توجد في اتفاق الطائف بل اقترحتها الحكومة بشكل منفصل عند مناقشة التعديلات الدستورية التي نصت عليها وثيقة الوفاق الوطني.