قرار الدستوري حول قانون موازنة 2024: دائرة الإذعان للابتزاز تتوسّع
05/04/2024
بعد طول انتظار صدر قرار المجلس الدستوري رقم 3 تاريخ 4 نيسان 2024 بالطعون المتعلقة بقانون موازنة عام 2024 وقد قضى بإبطال بعض المواد من دون إبطال الموازنة برمتها. نتناول في هذا المقال الجوانب الدستورية المتعلقة بأصول إقرار الموازنة وآليات التشريع بينما ستقوم المفكرة القانونية بنشر مقالات أخرى بغية دراسة المواد الضريبية التي ناقشها قرار المجلس الدستوري.
ولا بد من الإشارة أولا أن هذا القرار صدر بعد تسجيل سابقة تقديم خمسة طعون[1] بالموازنة العامة ما دفع بالمجلس الدستوري إلى تبني اجتهاد خاص في تفسير كيفية احتساب المهلة التي يتوجب عليه خلالها إصدار قراره. فعملا بأحكام المادة 20 من قانون إنشاء المجلس الدستوري الصادر سنة 1993 والمادة 36 من قانون النظام الداخلي للمجلس الدستوري الصادر سنة 2000، تبدأ المهل القانونية لصدور قرار المجلس الدستوري عند قيام رئيس المجلس بتعيين مقرّر من بين الأعضاء الأمر الذي يجب أن يتمّ فور تقديم المراجعة علما أن النصوص القانونية لا تشير إلى مهلة ملزمة محدّدة يتوجب على رئيس المجلس التقيد بها لتعيين المقرر. وإذ أمكن اعتبار المهلة القانونية سارية عند تسجيل أول مراجعة أي في 15 شباط 2024 في الحالة الراهنة، إلا أن المجلس الدستوري كما يظهر من تاريخ إصداره لقراره اعتبر أن كل مراجعة جديدة تؤدي إلى إعادة إطلاق المهل القانونية ما يعني أنّ المهلة التي سيعتدّ بها هي تلك التي تبدأ مع تقديم آخر مراجعة أي في 29 شباط 2024 ما يشرح سبب التأخير في صدور قرار عن المجلس الدستوري في 4 نيسان 2024.
وإذا كان اجتهاد المجلس الدستوري في كيفية احتساب سريان مهلة صدور القرار يحتمل الجدل القانوني لكنه منطقي لناحية إتاحة الوقت الكافي للمجلس كي يتمكن من دراسة الكمّ الكبير من الطعون وبخاصّة أن القانون المطعون فيه هو قانون الموازنة العامة الذي يحتوي دائما على مواد متشعبة وتفاصيل مالية تحتاج إلى تحليل معمّق بغية تكوين صورة قانونية سليمة قبل إصدار القرار.
جواز التشريع في ظل الشغور الرئاسي: تأكيد المؤكد
أعاد المجلس الدستوري التأكيد على موقفه السابق في قراره رقم 6 تاريخ 30 أيار 2023 والذي قضى بجواز ممارسة مجلس النواب لصلاحياته التشريعية في ظل شغور رئاسة الجمهورية، وهو الموقف الذي دافعت عنه دائما المفكرة القانونية. وقد طوّر المجلس الدستوري اجتهاده في هذا الخصوص إذ اعتبر أن الهدف من إعطاء الأولوية لانتخاب رئيس الجمهورية هو "حثّ المجلس على الإسراع في هذا الانتخاب ومنعه من القيام بأي عمل آخر أو مناقشة في الجلسة المخصصة للانتخاب، أما الشؤون العامة الأخرى الداخلة في اختصاص مجلس النواب فيمكن عرضها في جلسات أخرى لطرحها ومناقشتها واتخاذ القرارات بشأنها، وبالنسبة للموازنة تحديدا فإنه عملا بالمادة 32 من الدستور يتوجب على المجلس تخصيص جلساته في العقد الثاني للبحث فيها والتصديق عليها قبل كل عمل آخر".
فأولوية انتخاب رئيس الجمهورية هي محصورة في جلسة الانتخاب وهي لا تحجب الأولويات الأخرى التي يلحظها الدّستور كضرورة إقرار الموازنة قبل انتهاء السنة. وقد أضاف المجلس الدستوري أن منع مجلس النواب من ممارسة سائر اختصاصاته الدستورية خلال الشغور الرئاسي سيؤدي إلى "حصر كل شؤون البلاد بالحكومة ويطلق يدها في تسييرها من دون أي رقابة مع ما قد يحتمله ذلك من إساءة استعمال السلطة، ويخلّ بشكل كامل بالتوازن بين السلطات" المنصوص عليه في مقدمة الدستور.
لكن قرار المجلس دستوري ذهب أبعد من ذلك إذ لم يقتصر على تأكيد اجتهاده السابق بجواز التشريع خلال خلوّ سدّة الرئاسة، بل عالج إشكالية ممارسة مجلس النواب لصلاحياته التشريعية أيضا عند وجود حكومة تصريف أعمال. فإذا كان الموقف من التشريع خلال الفراغ الرئاسي ينسجم مع مبادئ النظام البرلماني كون رئيس الجمهورية لا يحضر جلسات مجلس النواب ولا يشارك في النقاشات ولا يمكن محاسبته أصلا كونه غير مسؤول سياسيا عن جميع أعماله، لكن التشريع في ظل وجود حكومة مستقيلة هو من الأمور التي تطرح إشكاليات جدية من الناحية الدستورية تفوق بكثير مسألة التشريع خلال الشغور الرئاسي التي يتم استحضارها دائما من قبل بعض أحزاب السلطة بهدف المزايدة الطائفية وتحقيق مكاسب سياسية. وعليه، اعتبر المجلس الدستوري في قراره أنه إذا كان من الضروري التشريع للإهتمام بشؤون المواطنين مع وجود حكومة كاملة الصلاحيات "فإنه من باب أولى القيام بذلك الواجب في ظل حكومة تصريف أعمال (...) وإلا انتفت الغاية من الفقرة 3 من المادة 69 من الدستور" التي تنص على أن مجلس النواب يصبح في عقد استثنائي حكمي عند استقالة الحكومة حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة. ومن أجل تفادي شلل في السلطات وتعطيل المرافق العامة واحتراما لمبدأ استقلال السلطات وتوازنها، يذهب المجلس الدستوري إلى الموافقة على جواز التشريع في ظل وجود حكومة مستقيلة أيضا.
ولا شكّ أن هذا الموقف يصطدم مع آراء فقهية متينة ومع الممارسة التي كانت سائدة في لبنان قبل 1975 عندما كانت السلطات الدستورية تعمل بشكل طبيعي. ففي تعليق[2] مسهب على قرار مجلس شورى الدولة الشهير راشد/الدولة تاريخ 17/12/1969 الذي أصبح المرجع في اجتهاد القضاء الإداري حول صلاحيات حكومات تصريف الأعمال، يذكر كاتب التعليق أن مجلس النواب في لبنان بعد استقالة حكومة الرئيس رشيد كرامي سنة 1969، وعملاً بالتقليد البرلماني، امتنع عن الاجتماع حتى خلال العقد العادي. ما يعني أنّ المجلس لا يمكنه التشريع في ظل حكومة تصريف أعمال. وبالفعل لن يعقد مجلس النواب جلسة تشريعية إلا في 18 كانون الأوّل 1969 أي بعد تشكيل الحكومة ونيلها الثقة في 4 كانون الأوّل 1969. وهذا ما يذهب إليه أيضا "جوزيف برتيليمي" عندما يكتب انه عند حصول أزمة وزارية يتم تعليق العمل التشريعي للبرلمان:
“(…) il n’y a pas de débat tant qu’il n’y a pas de ministre au banc du Gouvernement, et que pendant les crises ministérielles les Chambres s’abstiennent de siéger. le travail législatif étant suspendu” (Joseph-Barthélemy, Précis de droit constitutionnel, Librairie Dalloz, Paris, 1932, p. 331).
بينما يعتبر العلامة "أوجين بيار" ان الحكومة تمتنع عن تقديم مشاريع القوانين عندما تكون مستقيلة باستثناء القوانين الطارئة التي تفرضها الضرورة:
"C’est pourquoi il est de tradition qu’après la démission d’un Cabinet aucun projet de loi ne soit déposé sur le bureau des Chambres (…) Les ministres démissionnaires sont chargés de l’expédition des affaires courantes et l’on ne saurait contester que dans cette catégorie rentre une loi urgente sur laquelle il est indispensable que les Chambres se prononcent avant la formation du nouveau Cabinet" (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, 1919, p.43).
لكن مجلس النواب في لبنان، لا سيما بعد 2005، وبسبب إصرار رئيس مجلس النواب، بات في أول الأمر يعقد جلسات تشريعية في ظل حكومة مستقيلة تحت مسمّى تشريع الضرورة ومن ثم أصبحت هذه الممارسة عاديّة دون الحاجة إلى تبرير ذلك بضرورة اقرار بعض القوانين الطارئة. وهكذا يكون قرار المجلس الدستوريّ قد كرّس الأمر الواقع لا سيّما وأن تشكيل الحكومات بات يتطلب وقتا طويلا جدا بسبب التناحر السياسي بين أحزاب السلطة هذا فضلا عن أنّ عدم وجود رئيس للجمهورية يجعل من المستحيل تشكيل حكومة جديدة ما يعني أن رهن ممارسة صلاحيّات مجلس النواب التشريعية بتشكيل الحكومة يصبح في الحقيقة منعا للتشريع في ظل الفراغ الرئاسي. وهو أمر يؤدّي عمليا إلى رهن عمل مؤسسات الدولة بإرادة الكتل البرلمانية المسيطرة على مجلس النواب ومدى قدرتها على التوافق السلطوي من أجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
فجواز التشريع في ظل حكومة تصريف أعمال يصبح منطقيا في لبنان انطلاقا من اعتبارات سياسية تتعلق بكيفية عمل النظام السياسي الحاكم وليس انطلاقا من اعتبارات دستورية صرفة تتعلق بماهية النظام البرلماني الذي يوجب مناقشة القوانين وإقرارها بمشاركة حكومة مسؤولة تستطيع أن تعبر عن موافقتها أو رفضها لتلك القوانين. فقيام مجلس النواب بالتشريع في ظل حكومة غير مسؤولة سياسيا ينقل أعباء الحكم فعليا من السلطة التنفيذية إلى المجلس النيابي، وهو الأمر الذي بات يشكل ظاهرة في لبنان حيث باتت السلطة التشريعية تحلّ محلّ الحكومة في المبادرة لاقتراح وإقرار السياسات العامة في كل المجالات. فقرار المجلس الدستوري الحالي هو إقرار غير مباشر بهذا التحول وهو معبر جدا لناحية تكريسه للأمر السياسي الواقع.
الدستور هو ما يتوافق عليه النواب
من المثالب التي أثيرت ضد قانون الموازنة العامة هو كيفية إقراره في مجلس النواب، حيث تثبت المجلس الدستوري أنه لم يتمّ احترام المادة 36 من الدستور التي توجب التصويت النهائي على القانون بالمناداة على النواب بأسمائهم وبصوت عالٍ. وتعتبر هذه المادة حجر الزاوية في الديمقراطية التمثيلية إذ هي تسمح للنواب بالتعبير عن مواقفهم بوضوح وبشكل علني وشفّاف ما يسمح لناخبيهم بالاطلاع على مواقفهم ومحاسبتهم في الانتخابات التشريعية المقبلة. لكن المجلس الدستوري بعد تأكيده على أن التصويت على القوانين بالمناداة بالأسماء هي "معاملة جوهرية" عاد ليعلن فجأة وبشكل أقرب إلى السريالية أنه "لا يرى حاليّا إبطال القانون رغم مخالفته للمادة 36 من الدستور، بعدما جرى التصويت عليه من دون ثبوت أي اعتراض على طريقة التصويت أو على عدد الذين صوّتوا".
ولا شك أن موقف المجلس الدستوري هذا هو خطير جدا نظرا لتداعياته القانونية والسياسية. فمن جهة أولى يشكل قرار المجلس تراجعا عن اجتهاده السابق المكرّس في القرار رقم 5 تاريخ 22 أيلول 2017 والذي أبطل ما بات يعرف بقانون تمويل سلسلة الرتب والرواتب كونه أقرّ بطريقة رفع الأيدي وليس بالمناداة على الأسماء أي أنه أقرّ خلافا للمادة 36 من الدستور. فبدل أن يقوم المجلس الدستوري بواجبه كما فعل سنة 2017 ويقضي بإبطال موازنة 2024 برمتها لإقرارها بطريقة مخالفة للدستور (وهو الموقف الصحيح الذي عبرت عنه مخالفة كل من عضو المجلس الدستوري ميراي نجم وايلي مشرقاني)، لجأ المجلس إلى التهويل متذرّعا "بالأهميّة الاستثنائية التي أولاها الدّستور لقانون الموازنة" من أجل تفادي "الفوضى في المالية العامة" بغية الموافقة على مخالفة أصول التشريع التي تكرّسها المادة 36 من الدستور. وهكذا يستعين المجلس الدستوري بأسلوب دأب عليه في الآونة الأخير في أكثر من قرار له مفاده القبول بخرق الدستور باسم مبادئ عليا ما يعني أنه ومن دون دراية يكرّس هرمية لا مثيل لها في القانون الوضعي اللبناني بين مبادئ دستورية و"مبادئ ما فوق دستورية" يتم التذرع بها وتصبّ دائما في مصلحة السلطة السياسية. وعليه، تتمكن هذه السلطة من الإفلات بصورة منتظمة من العقاب الدستوري عبر ابتزاز المجلس الدستوري، ومن ورائه سائر مؤسسات الدولة، إذ تضعه أمام الخيار المستحيل: إما القبول بمخالفة الدستور أو الفوضى.
لكن الأفدح في قرار المجلس الدستوري ليس رضوخه فقط لهذا الابتزاز وتراجعه عن اجتهاده السابق لكن أيضا إعلانه أنّ التصويت على الموازنة العامة برفع الأيدي لم يقترن باعتراض النواب، ما يعني أن المجلس الدستوري يعترف ضمنيّا بأن توافق النواب على مخالفة الدستور هو كفيل بجعل تلك المخالفة مقبولة من قبل المجلس الدستوري الذي يكتفي بتسجيل حصول هذا التوافق. ولا شكّ أن هذا الأمر لا يستقيم إطلاقا من الناحية الدستورية إذ هو يعني بكل بساطة تخلّي المجلس الدستوري عن القيام بدوره، لا بل هو يؤدي إلى النيل من سمو الأحكام الدستورية التي لا يمكن تعديلها إلا عبر الآليات الخاصة التي يلحظها الدستور من أجل تعديله. فهل يعقل أن عدم اعتراض النواب على ارتكاب مخالفة دستورية، وفي مقدّمتهم رئيس مجلس النواب الذي يتولى صلاحية إدارة الجلسة وطرح المواد على التصويت، يصبح بحدّ ذاته حجة قانونية يستند إليها المجلس الدستوري؟ هل يعقل أن تتحوّل واقعة صمت النواب وتواطئهم على مخالفة الدستور إلى سبب منتج للحجية القانونية بحيث يكتفي المجلس الدستوري بالرضوخ إلى إجماع النواب على السكوت؟
إن عدم إبطال موازنة 2024 لمخالفتها الصريحة للمادة 36 من الدستور يؤدّي ليس فقط إلى ضرب جوهر النظام البرلماني بل هو عملا بموقف المجلس الدستوري المتخاذل هذا يعني تحويل التوافقات السياسية بين أحزاب السلطة إلى أوامر ملزمة بغض النظر عن الدستور والمبادئ القانونية التي تقوم عليها الدولة في لبنان.
عودة الحالة الشاذة
واجه المجلس الدستوري في قراره الجديد مسألة قديمة تتعلق بصدور الموازنة من دون إقرار قانون قطع الحساب ما يشكل مخالفة واضحة للمادة 87 من الدستور التي تفرض عدم نشر الموازنة قبل صدور قانون قطع الحساب. فبعد تأكيد المجلس الدستوري على أهمية إقرار قطع الحساب من أجل انتظام مالية الدولة وتذكيره بتقاعس الحكومات المتعاقبة عن القيام بواجبها الدستوري من أجل إرسال مشروع قانون قطع الحساب إلى مجلس النواب وتقاعس هذا الأخير عن القيام بدوره من أجل محاسبة هذه الحكومات، اعتبر المجلس الدستوري أن غياب قوانين قطع الحساب أدّى إلى "خلق حالة شاذة وألحق ضررا فادحا بالمصلحة الوطنية العليا".
ومن ثم، وفي استدارة عجيبة باتت معهودة، يعلن المجلس الدستوري أن هذه الحالة الشاذة وعلى الرغم من مخالفتها للدستور لا تشكل سببا لإبطال موازنة 2024 نظرا للأهمية الاستثنائية للموازنة. وهكذا بعد تراجع المجلس الدستوري عن اجتهاده السليم بخصوص كيفية التصويت على القوانين، ها هو يصرّ على تكريس اجتهاده السقيم والعقيم بخصوص الحالة الشاذة التي أسهبت المفكرة القانونية في مقال سابق بشرح أبعادها ومدى خطورتها على النظام الدستوري في لبنان. فبعد رضوخه لابتزاز جديد حول القبول بمخالفة المادة 36 من الدستور، ها هو يرضخ لابتزاز قديم جديد بقبول مخالفة المادة 87 من الدستور مع تسجيل مخالفة كل من عضوي المجلس الدستوري ميراي نجم وإيلي مشرقاني إذ اعتبرا أن موازنة 2024 واجبة الابطال برمتها لصدورها من دون وجود قانون قطع حساب.
التصدّي لتشريع الفوضى
ركّزت جميع الطعون على حالة الفوضى العارمة التي رافقتْ التصويت على مواد الموازنة والتي وثقتها المفكرة القانونية بشكل تفصيلي. لا بل أن هذه الفوضى لم تقتصر على جلسة الهيئة العامة بل انسحبت على أداء الأمانة العامة لمجلس النواب التي لم تتمكّن من تحديد الصياغة الدقيقة للموادّ التي أقرها مجلس النواب فتولّت توجيه كتابيْن إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء بهدف إدخال تصحيحات مادية على المادة 7 وإضافة فقرب "ب" على المادة 83 من الموازنة قبل إصدار القانون من قبل مجلس الوزراء الذي يتولى صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة.
وبالفعل ناقش المجلس الدستوري هذه الإشكالية وتبين له بعد مراجعة محضر جلسة مجلس النواب أن هذا الأخير لم يقم بإقرار هذه المواد وفقا للصياغة التي طالبت الأمانة العامة لمجلس النواب بتصحيحها ما يعني أن قانون الموازنة العامة الذي أصدره مجلس الوزراء ونشر في الجريدة الرسمية كان يختلف عن الصيغة التي تم إقرارها في جلسة البرلمان التشريعية. لذلك قرر المجلس الدستوري إبطال تلك "التصحيحات المادية" التي طالبت بها الأمانة العامة لمجلس النواب طالما أنها لا تدخل في عداد الخطأ المادي ما "يمنع التصحيح خارج إطار تلك الجلسة".
لا شك أن قرار المجلس الدستوري يشكل إدانة لتصرف الأمانة العامة لمجلس النواب ويعيد تسليط الضوء على الأخطاء المادية التي تقع في القوانين وكيفية إصلاحها نظرا لعدم وجود أي نصوص قانونية في النظام الداخلي للبرلمان حول هذا المسألة وفقا لما أشارت إليها الورقة البحثية التي أصدرتها المفكرة القانونية حول النظام الداخلي لمجلس النواب. فالخطأ المادي هو في الحقيقة وجود اختلاف بين النص الذي أقر في الهيئة العامة لمجلس النواب والنص الذي يتم إصداره من قبل رئيس الجمهورية. ومردّ هذا الخطأ هو إرسال نسخة عن القانون من مجلس النواب مختلفة عن النص الذي تمّ إقراره. فالسّلطة التنفيذيّة مُلزمة بإصدار القانون كما استلمتْه حرفيا من دوائر مجلس النواب وقيام مجلس الوزراء بالاستجابة لطلب الأمانة العامة لمجلس النواب يعتبر تطبيقا لهذا المبدأ.
وقد أصاب المجلس الدستوري بإبطال تلك المواد كون الهدف من تصحيح الخطأ المادي هو إعادة التوافق بين النصّ المنشور والنصّ كما أقره مجلس النواب حرفيّا إذ حتى لو قام مجلس النواب بالتصويت على مواد كانت خاطئة لجهة ترقيمها أو صياغتها يتوجب على السلطة التنفيذيّة إصدار القانون كما استلمتْه على أن يتولّى مجلس النواب التصويت مجدّدا على قانون جديد بهدف تصحيح هذه الأخطاء. وخلاف ذلك يؤدي إلى تزوير إرادة السلطة التشريعية وخرق الدستور.
لم يقتصر دور المجلس الدستوري على منع إدخال تصحيح لأخطاء مادية لم تحصل لكنه أيضا وجد نفسه أمام وضع غريب إذ لم يتمكّن أحيانا من تحديد ما هو النص الذي تمّ إقراره في مجلس النواب ما يعكس فعليا المستوى الرديء الذي بلغه التشريع في البرلمان. وهذا ما ظهر جليا بخصوص المادة 94 من الموازنة العامة الذي قضى المجلس الدستوري بإبطالِها كونه لم يتمكّن من خلال العودة إلى محضر مجلس النواب من معرفة "ما هو النص الذي تمّت تلاوته على الهيئة العامة ومن ثم التصديق عليه بالأكثرية".
خلاصة القول، جاء هذا القرار مخيبا للآمال كونه شكّل تكريسًا لمفهوم الحالة الشاذة لا بل هو أدّى إلى تكريسها في مجال جديد يتعلّق بمخالفة كيفية التصويت على القانون عبر قبوله بمخالفة المادة 36 من الدستور وتراجعه عن اجتهاده الصحيح في قراره الصادر سنة 2017. فالقرار الحالي يقبل بابتزاز السلطة السياسية للبنانيين وهو يضعهم أمام خيارات مستحيلة: إما القبول بخرق الدستور أو التهديد بالفوضى المالية التي سببتها السلطة السياسية نفسها. لكن القرار في شقّه الإيجابي المحدود شكل أيضا إدانة كاملة لكيفية إدارة جلسات مجلس النواب التي سادتْها الفوضى وعدم معرفة النوّاب المواد التي كانوا يصوتون عليها واجتهاد الأمانة العامة لمجلس النواب التي أضافت إلى القانون موادّ لم يتم اقرارها في المجلس. إذ أنّ إقرار القوانين بهذه الطريقة العشوائية يؤدي فعليا إلى نفي الشرعية عن المؤسسات الدستورية التي باتت تعمل لمنطق الأحزاب الحاكمة وليس لمنطق الدستور ما يعني أن الدستور بوصفه العقد الاجتماعي الذي يجمع بين الحكام والمحكومين لم يعد موجودا إذ تم استبداله بالاعتباطية المطلقة للسلطة الحاكمة.
للاطّلاع على قرار المجلس الدستوري
[1] علما أن بعض النواب قاموا بالتوقيع على أكثر من طعن. والظاهر أن المجلس الدستوري وافق على هذا الأمر في حين سجل القاضي ألبرت سرحان والقاضي ميشال طرزي مخالفة بهذا الخصوص فاعتبرا أن النائب يحق له فقط التوقيع على طعن واحد ما يوجب رد كل المراجعات التي كانت تحمل توقيعا مكررا للنائب نفسه.
[2] راجع مقالة Jean-Claude Douence في المجموعة الإدارية للتشريع والاجتهاد، السنة الرابعة عشرة، 1970، ص. 9