مبادرة تشريعية صونا للحق بالتعليم، ولكن…
05/12/2022
قدّمت النائبة بوليت يعقوبيان بتاريخ 04/10/2022 اقتراح قانون معجّلاً مكررًّا مفاده إعفاء تلامذة المدارس الرسمية في التعليم العام والتعليم المهني ما قبل الجامعي من رسوم التسجيل ومن مساهمات الأهالي في صناديق المدارس الرسمية للعام الدراسي 2022-2023 وذلك عبر تحميل الصندوق البلدي المستقل تغطيتها بدلا عن ذوي التلاميذ. وقد تمّ ذلك من خلال إعادة العمل بالقانون رقم 385 بتاريخ 14/12/2001 الذي أعفى التلاميذ من هذه الرسوم لعام 2001-2002 ومدد العمل به لاحقا ليشمل الإعفاء رسوم العام اللاحق 2002-2003 (قانون 29/8/2002). تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الرسوم مقرّة في المرسوم الاشتراعي رقم 161/1981 (ومعدّلة بالقانون رقم 280/1993)[1]، أمّا المساهمات في صناديق المدرسة، فتحدّد بقرار من وزير التربية والتعليم العالي.
يهدف هذا الاقتراح وفق أسبابه الموجبة إلى تخفيف أعباء التعليم عن الأهالي نظرًا لكونهم يرزحون تحت أعباء اقتصادية بنتيجة الظروف الراهنة، وتفادي إرهاقهم بالتكاليف والمصاريف التي قد "تدفعهم جديًّا إلى صرف النظر عن تعليم أولادهم"، وتاليا إلى الحدّ من التسرب الدراسي وصون حق التعليم المكرّس في الدستور والمواثيق والاتفاقيات الدوليّة التي انضمّ إليها لبنان، وتطبيق مجانية وإلزامية التعليم الأساسي المكرسة في القانون رقم 150/2011 والمرسوم الصادر بناء عليه بعد 11 سنة من صدوره في 07/07/2022. وقد بررت مقدمة الاقتراح إعادة إحياء قانون رقم 385/2001 بأنه "يضع نظامًا قانونيًا مكتملًا للإعفاء من الرسوم والمساهمات" في صناديق المدارس وفي صناديق مجالس الأهل.
قبل إبداء ملاحظاتنا على الاقتراح، لا بدّ من العودة إلى الإطار القانوني المتعلّق بإلزامية ومجانية التعليم وتطوّر سياقه. المرة الأولى التي أقرّ فيها مبدأ مجانية وإلزامية التعليم تمثلت في القانون رقم 686/1998. وفيما حصر القانون تطبيق هذا المبدأ آنذاك في المرحلة الابتدائية الأولى لكل لبناني، فإنه علق تنظيمه وشروطه إلى مرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء. انقضى 13 سنة من دون أن يصدر المرسوم التطبيقي وإن اتخذت مبادرات محدودة لإعفاء ذوي التلاميذ من الرسوم لسنوات معينة كما حصل مع تحميل تغطيتها للصندوق البلدي المستقلّ لسنتي 2001-2003 كما سبق بيانه. وفي عام 2011، وفيما يشبه القفزة إلى الأمام، صدر القانون رقم 150 بتوسيع التعليم الإلزامي والمجّاني ليشمل مرحلة التعليم الأساسي، تاركًا مرّة جديدة شروطه وتنظيمه إلى مرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء. إلا أن هذا المرسوم أيضا لم يصدر إلا بعد 11 سنة وتحديدا في 7 تموز 2022 تحت عنوان "تنظيم وتحديد شروط التعليم المجاني الإلزامي".
ومن دون الغوص في تفاصيل هذا المرسوم، نبدي ملاحظتين: (1) أنّه وسّع الحق بإلزامية ومجانية التعليم من اللبنانيين حصرًا ليشمل "مكتومي القيد والجنسية قيد الدرس" فضلا عن الأطفال الأجانب المقيمين في لبنان بصورة مشروعة شرط توفر التعامل بالمثل. واللافت أن حصر استفادة الأطفال غير اللبنانيين من المبدأ على هذا الوجه حصل بعدما كان المرسوم أعلن انطباق المبدأ على جميع الأطفال في لبنان من دون أي تمييز أو تفرقة، بمعنى أن المرسوم مال في فقرة أولى إلى عدم التمييز ليسارع في فقرة ثانية لإدخال آليات التمييز و(2) أنّه ترك على عاتق الأهل المساهمة في صندوق مجلس الأهل "دون سواه".
لكنّ في الواقع، أعقب إقرار القانون 150/2011 تكريس مجانية التعليم في مراحل التعليم الأساسي فعليًّا، حيث لم يعد يتكبّد الأهل أي رسوم تسجيل في هذه المرحلة الأساسية ولا تلقى على عاتقهم أية مساهمات في صناديق المدارس الرسمية، حيث لم يصدر أي قرار من الوزارة بشأن هذه المساهمات للمرحلة الأساسية منذ صدور هذا القانون.
وبنتيجة ذلك، تكون الفائدة العملية من اقتراح القانون أنه وسع مبدأ مجانية التعليم في ثلاثة اتجاهات:
- وسع دائرة الأطفال غير اللبنانيين المستفيدين من مبدأ مجانية التعليم، لتشمل المولودين من أم لبنانية. وهو بذلك تميّز عن مرسوم 2022 الذي اشترط لتمتّع هؤلاء بهذا الحق أن يقيموا لإقامة شرعية (نظامية) في لبنان وأن ينطبق شرط التعامل بالمثل.
- شمل المرحلة الثانوية من التعليم فضلا عن التعليم المهني، في حين أن مجمل النصوص السابقة شملت فقط مراحل التعليم ما قبل الثانوي. وتكمن أهمية الاقتراح هنا في تجنيب أهالي التلاميذ كلفة تسجيل أبنائهم، والتي قد تصل إلى 871 ليرة لبنانية لكل طلاب، أي ما يوازي نصف راتب موظف في القطاع العام. وتزيد أهمية الاقتراح لهذه الجهة بفعل نقضه للتوجه الذي ذهبت إليه وزارة التربية مؤخرا في قرارها والذي رفع المساهمة في صندوق مجلس الأهل من 150 ألف، إلى 500 ألف كحد أدنى و750 ألف كحد أقصى؛ لتصبح في المحصلة كلفة التسجيل 871 ألف ليرة كحد أقصى بعدما كانت 271 ألفًا. وقد أثار هذا القرار غضب بعض الطلاب وذويهم.
- شمل المساهمات في صناديق المدارس الرسمية في حين أن مرسوم 2022 كان أبقاها على عاتق أهالي التلاميذ. إلا أن هذه الإضافة شكلية بالنسبة للمرحلة الأساسية حيث أن هذه المساهمات قد تم تصفيرها عمليا منذ 2011، مع إقرار قانون إلزامية ومجانية التعليم.
وعليه، يستدعي هذا الاقتراح الملاحظات الآتية:
1. اقتراح بمفعول زمني لا يتناسب مع عمر الأزمة:
يقتصر الاقتراح على إعفاء الطلاب من الرسوم والمساهمات لسنة واحدة، رغم أن أسبابه الموجبة تشير إلى الارتباط المتلازم بين الظروف الاقتصادية الراهنة وخيار الإعفاء وأن جلّ المؤشرات تؤكّد أنّ عمر الأزمة المالية سينسحب على سنوات عدة. وعليه، يكون من المفيد أن يمتدّ مفعول الاقتراح لثلاث سنوات على الأقل. وما يعزز هذا الأمر هو بطء العمل التشريعي بدليل أن الاقتراح قدم منذ أكثر من شهرين للإعفاء من رسوم سنة دراسية بدأت هي الأخرى منذ شهرين من دون أن يتسنى حتى الآن مناقشته.
2. اقتراح يخفف من التمييز ضد الأطفال الأجانب من دون تجاوزه:
حصر القانون 150/2011 التعليم المجّانيّ والإلزاميّ الحق الحصري باللبنانيين، في توجّه يجافي العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (مادة 13) والذي يكرّس حق التعليم من حيث المبدأ لجميع المقيمين في الدول الموقعة عليه من دون إمكانية التمييز فيما بينهم. وهذا ما كان نصّ عليه المرسوم 9706/2022 قبل أن يسارع إلى التخفيف من مبدأ عدم التمييز وإن كرّس حقّ فئات من الأطفال غير اللبنانيين بالاستفادة من مبدأ مجانية التعليم كما سبق بيانه. وما نلحظه هو أن الاقتراح عمد لتوسيع فئات الأطفال غير اللبنانيين المستفيدين من هذا المبدأ، لتشمل المولودين من أم لبنانية، من دون شرط مبدأ المعاملة بالمثل، مع الإبقاء على التمييز قائما بالنسبة إلى فئات كثيرة منها أطفال اللاجئين وأطفال العاملين في لبنان.
وما يزيد من قابلية الاقتراح للانتقاد هو أن تكريس حق "المولودين من أم لبنانية" يبقى محصورا بالمدة المقترحة للقانون التي هي سنة واحدة، في حين أنه آن الأوان للاعتراف بحقوق دائمة لهذه الفئات التزامًا بتعهد الحكومة اللبنانية في 2012 في ضمان حقوقهم المدنية من دون أي تمييز.
بقي أن نشير أن توسيع فئة الأطفال المستفيدين من مجانية التعليم على هذا النحو إنما يأتي متوافقا مع توجه وزارة التربية، منذ العام 2019[2] بإصدار قرارات تتجدد سنويا بأولوية هؤلاء في التسجيل في المدارس الرسمية مثل اللبنانيين ومع إعفائهم من رسوم التسجيل.
3. اقتراح بعنوان فضفاض مقارنة بمضمونه:
كما سبق بيانه، وبخلاف ما يوحي به عنوان الاقتراح، فإن جزءا هاما من مضمونه كرّسته القوانين والأنظمة المعمول بها حاليا. ولكان من الأنسب في هذا السياق من باب الشفافية التشريعية عنونة الاقتراح على نحو يتناسب مع الإضافة المقترحة بموجبه وهي تنحصر عمليا في إعفاء تلاميذ المرحلة الثانوية والتعليم التقني من الرسوم، فضلا عن إعفاء جميع التلاميذ من المساهمة لصناديق المدارس.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّه سبق وقدّم النائبان إبراهيم الموسوي وإيهاب حمادة في 30/09/2020 اقتراح قانون مشابها رمى صراحةً إلى إعفاء تلاميذ المرحلة الثانوية والمراحل المهنية كافة من أي بدلات ورسوم مالية متوجبة عليهم للعام الدراسي 2020 ـ 2021. إلا أن هذا الاقتراح أسقط في الهيئة العامة بتاريخ 30/06/2021.
4. الصندوق البلدي المستقلّ لتنميّة البلديات أم لتسديد الفواتير التي تكرهها الدولة:
يعيدنا إحياء قانون 2001 إلى الأجواء السائدة في بداية الألفية الثالثة، والتي كانت تقوم على تفريغ الصندوق البلدي المستقلّ من خلال تحميله فواتير باهظة، أهمّها فاتورة معالجة النفايات، وكل ذلك بإرادة السلطة المركزية وحدها. ومن هذه الزاوية، مؤدى الاقتراح في حال إقراره هو نقل جزء من أعباء التعليم من الدولة إلى البلديات بصورة غير مباشرة وبمنأى عن أي تفكير بكيفية توزيع الخدمات العامة فيما بينها ومدى ملاءمة السياسة الضريبية معها.
5. مجانية التعليم شرط ضروري ولكن غير كافٍ لمعالجة التسرّب الدراسي:
على الرغم من غياب أرقام رسمية واضحة حول نسب التسرّب من جرّاء الأزمة[3]، يتوقع أن يكون التسرب تفاقم بفعلها إلى حدّ تهديد جيل بأكمله. ويجدر هنا التذكير بأمرين:
أولا، أن إشكالية التسرب المدرسي تسبق الظرف الراهن في لبنان. وهذا ما تؤكده النشرات السابقة الإحصائية للمركز التربوي للبحوث والإنماء والتي بينت أنّ نسب التسرّب مرتفعة في المراحل الأساسية أكثر منها في المرحلة الثانوية وأنها نسب ثابتة أكثر من عقدين، وقد استمرت على ثباتها بعد إعفاء التعليم الأساسي من أي أعباء.
ثانيا، أنّ أسباب التسرّب متعددة ومنها ما هو مرتبط بوضع الطالب تحديدًا ومنها ما هو مرتبط بوضع الأسرة وهي غالبًا ما تكون لأسباب مادية. لكنّ هذه الأسباب المالية قليلًا ما ترتبط برسوم التسجيل، بل تتعداها وترتبط بالحاجة إلى بحث العائلات عن مردود مالي مباشر. وهذا ما نستخلصه من نسب التسرّب للأعوام 2001-2002 (المعفاة من الرسوم بحسب قانون رقم 385/2001) والتي لم تتراجع عن نسب التسرب خلال السنوات السابقة للإعفاء[4]. وهذا أيضا ما نستشفه من تقرير اليونيسف الصادر عام 2021[5] والذي بيّن محدودية تأثير الإعفاء من الرسوم على نسب التسرب. وقد نقلت اليونيسف أن أهم كلفة يخشاها الأهل هي كلفة النقل التي ارتفعت فاتورتها ربطًا بارتفاع جدول أسعار المحروقات. لذا، وبغياب القدرة على تكبّد هذه المصاريف، يحرم الطلاب من إمكانية الوصول إلى المدرسة ومن حقّهم بالتعلم.
أمّا في ما يتعلّق بالفئة العمرية بين 15 و17 عامًا من العمر، وهي الفئة التي يصيبها الاقتراح، فهي الفئة الأوسع التي قررت الانقطاع عن التعليم. ذلك إنّ نسبة التسرب داخل هذه الفئة وصلت إلى 38% عام (2021-2022) وقد ارتفعت من 23% (عام 2020-2021) إلى 38% في عام واحد. ويظهر تقرير اليونيسف أنّ 40% من الطلاب المتسربين يعملون بدوام كامل.
ومن هذا المنطلق، ومع التسليم بأهمية الاقتراح لجهة التخفيف من الأعباء المالية عن العديد من ذوي التلاميذ، فإن التصدي لإشكالية التسرب الدراسي وصون الحق في التعليم إنما يحتاج إلى إصلاحات أكثر أهمية تعيد للتلاميذ وذويهم إيمانهم بأهمية التعليم وتقوي استعداداتهم للاستثمار في هذا المجال، وهي إصلاحات لا يمكن تحقيقها من دون تأمين مقوّمات لتحوّلات بنيوية في الاقتصاد والمجتمع. وتلك مسألة أخرى تحتاج إلى نقاش أكثر عمقا ما يزال للأسف في بداياته.
للاطلاع على نص الاقتراح كاملا يمكنكم الضغط هنا
[1] مرحلة الروضة والابتدائي: 10000 ل.ل. - مرحلة المتوسط : 20000 ل.ل. - مرحلة الثانوي : 30000 ل.ل.
[2] القرار الصادر عن وزير التربية أكرم شهيب رقم 631/2019
[3] كان المركز التربوي للبحوث والإنماء قد بدأ في عام 2020 بدراسة حول التسرب والرسوب المدرسي وأنهى وضع الإطار العام للدراسة والأدوات المرافقة لها، «ولكن بسبب جائحة كورونا لم يتمكن من استكمال العمل الميداني، أي الدخول إلى المدارس لتعبئة الاستمارات. وبالتالي توقف العمل ليس فقط بهذه الدراسة.
[4] نسبة التسرب لعام 2001-2002 مقدّرة ب7.7% قريبة من نسب التسرب في السنين السابقة والتي تراوحت بين 6 و7% بين أعوام 1997-2000
[5] تقرير اليونيسف: "لبنان: مستقبل الأطفال على المحك : الأثر الهائل للأزمة الاقتصادية المعقدة والمقلقة، وتفشي وباء كوفيد-19، و انفجار بيروت وفقدان الاستقرار السياسي"، 2021.