ملاحظات حول اقتراح رفع ضمانة الودائع: حماية القطاع المصرفي يحصل بضمان الودائع

عماد صائغ

20/12/2019

انشر المقال

في إثر مرور لبنان بإحدى أسوأ الأزمات الإقتصادية والمالية والمصرفية التي عرفها في تاريخه، وجد المودعون في المصارف اللبنانية اليوم من لبنانيين وأجانب أن حقوقهم بسحب أموالهم المودعة في المصارف لم تعد أكيدة ولا مضمونة، الأمر الذي زاد من أوضاعهم هشاشة.

وتكمن المشكلة في أن أكثرية المودعين هم من صغار المودعين الذين يعتمدون على مدخراتهم لمواجهة الأزمة، ذلك أنّ الإحصاءات تبين أنّ 92% من المودعين في المصارف في لبنان يملكون فقط 15% من مجمل  الودائع. أمّا المبالغ المودعة في حساباتهم فهي دون مبلغ المئة ألف دولار[1]. انطلاقا من هنا عادت إلى الواجهة وبقوّة مسألة ضمان الإيداعات، وتحديداً بالنسبة إلى هذه الفئة الكبيرة من صغارالمودعين.

وقد برز في الأيام الأخيرة إسم المؤسسة الوطنية لضمان الودائع كضامنة للحسابات المالية. وكانت قد تأسست سنة 1967 بموجب "قانون تعديل وإكمال التشريع المتعلّق بالمصارف وإنشاء مؤسسة مختلطة لضمان الودائع المصرفية" رقم 28/67  لضمان الودائع لدى المصارف العاملة في لبنان، بالعملة اللبنانية، وهي عبارة عن شركة مساهمة تعاونية.

وإذ أثيرت مخاوف بأن سقف المبلغ المضمون استرداده لا يبلغ سوى خمسة ملايين ليرة، فإن المبادرة التشريعية الوحيدة لمعالجة هذا الأمر تمثلت في اقتراح القانون المعجل المكرر المقدم من اللقاء الديموقراطي في 12/12/2019، لزيادة قيمة الضمان على الودائع لتصل إلى 75 مليون ليرة لبنانية . على هامش تعليقنا على هذا الاقتراح، نلحظ أنه يهدف إلى تعديل نص المادة 14 من القانون رقم 28 الصادر سنة 1967 ويتخذ حتّى نصّه كنص أساسي في حين أن النص المعتمد فعلياً اليوم هو نص المادة 14 من القانون 110/91 "إصلاح الوضع المصرفي" الذي أتى ليضع دقائق آليات الضمان الموضوعة عام 1967 و هو أمر سنلاحظه جليا في معرض بحثنا. لكن ذلك لا يجب أن يخفف من أهمية طرح زيادة هذا الضمان.

فهل تعتبر هذه الزيادة الحلّ أو جزءا من الحل لاستعادة ثقة المودعين بالقطاع المصرفي اللبناني؟ وماذا تبين لنا المقارنة مع تجارب دول أخرى مرّ قطاعها المصرفي بأزمات حادة في عام 2008؟

 

وينطلق البحث الذي يأمل المقال الحالي أن يسهم في توضيح الصورة بعض الشيء، من كون وظيفة ضمان الودائع لا تتمثل فقط بضمان حقوق المودعين بل باستعادة ثقتهم. وهذا الدور الأخير هو الدور الأصعب والأكثر فعالية ذلك أنّه إن تحقّق لا يؤدي إلى تهافت المواطنين إلى سحب أموالهم من المصارف ويساهم في إعادة بعض الإستقرار للنظام المالي.

 

وإذ نعتبر من جهة أولى أن زيادة مبلغ الضمان تشكل خطوة إيجابية في ضمان حقوق المودعين الصغار ومقدمة لاستعادة الثقة بالمصارف (1)، نتبين من جهة ثانية الثغرات العديدة التي لا تزال قائمة أمام تحقيق التأمين لوظيفته الأساسية باستعادة الثقة (2)، قبل أن نختم بالشوائب التي تعتري طريقة تمويل المؤسسة الوطنية لضمان الودائع والتي تموّل جزئيا من أموال المكلفين في تناقض مع القواعد المعمول بها في هذا المجال (3).

 

1- اقتراح زيادة مبلغ الوديعة المضمون: خطوة إيجابية لحماية المدخرات ولاستعادة ثقة المودع

تغطّي الضمانة حاليا الودائع بالعملة اللبنانية وفوائدها حتى مبلغ خمسة ملايين ليرة لبنانية. أما الودائع بالعملات الأجنبية فهي مغطاة بما يعادل مبلغ خمسة ملايين ليرة لبنانية بحسب سعر صرف العملة الأجنبية بتاريخ إعلان توقف المصرف عن الدفع أو قرار وضع اليد عليه. وهذا السقف هو نفسه مهما بلغت القيمة الاجمالية لمجموع الودائع لدى المصرف الواحد وفروعه[2]. ومن البديهي اعتبار هذا السقف منخفضا جدّا، مع الإشارة إلى أنه لم يطرأ عليه أي تغيير منذ العام 1991 رغم مرور 28 سنة على وضعه[3].

وقد جاء إقتراح القانون المقدّم من اللقاء الديموقراطي ليطرح رفع سقف الضمانة حتى 75 مليون ليرة لبنانية. ويشكل رفع سقف الضمانة إحدى أهم وسائل الإنقاذ التي استخدمتها حكومات دول أخرى خلال مواجهتها أزمات مالية حادة. وهو ما حصل على سبيل المثال في بريطانيا وفي إيرلندا وفي سائر دول الإتحاد الأوروبي حيث رفع تدريجيا  ليصل اليوم إلى  100 ألف يورو. وغاية رفع سقف الضمانة هو استعادة ثقة المودعين، وثنيهم عن التهافت على المصارف وطلب استرجاع ودائعهم (bank runs) مما قد يؤدي إلى إفلاسها.

فمن هنا، كان ليكون لزيادة الضمان لحد مبلغ 150 مليون ليرة الدور الفعّال لحماية مدخرات الطبقة المتوسطة وتمكينها من مقاومة الأزمة الخانقة خصوصاً أنه وكما ذكرنا، 92% من المودعين يملكون مبالغ صغيرة نسبيا تحت المئة ألف دولار وهي تشكل فقط 15% من مجمل الودائع في المصارف في لبنان.

 

2- عدم توفر الشروط الأخرى لنجاح هذا الضمان: ضمان لا يعالج أزمة الثقة

يبقى الإقتراح خجولاً وتعتريه العديد من الثغرات، مما يجعل من المستبعد أن يلبي حاجات المرحلة، ذلك أنه لم يأخذ بتجارب الدول الأكثر تأثرا بالأزمة عام 2008 وبهيئات ضمان الودائع في دول أخرى (deposit guarantee scheme).

فنظام ضمان الودائع اللبناني يبقي خارج الحماية فئات كبيرة من الضروري أن يشملها، كما لا يضع مهلاً فعالة للاستحصال على قيمة الضمانة، ولا يترافق مع خطوات لاستعادة الثقة بالليرة اللبنانية.

 

نطاق تطبيق لا يحمي فئات أساسية من المجتمع

يشمل ضمان الودائع جميع الحسابات في المصارف اللبنانية بالعملة اللبنانية أو الأجنبية.  و يعتبر حسابا واحدا مجموع حسابات كل مودع في مصرف واحد أعلن توقفه عن الدفع أو وضعت اليد عليه، أيا كانت طبيعة الحساب فرديا كان أو مشتركأ. وكذلك هي حال حسابات الودائع العائدة لتركة سواء أكانت بالعملة اللبنانية أو بالعملة الاجنبية [4]. و إذا كان لدى أحد المودعين وديعة ودين للمصرف بالعملة اللبنانية أو الأجنبية تجري المقاصة بينهما ولا تغطي الضمانة إلاّ رصيده الدائن[5].

يلاحظ أن قانون ضمان الودائع لم يفرّق بين أنواع الحسابات المضمونة. فهو لم يلحظ زيادة خاصة لضمان ودائع الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم (SME)[6] التي تتمتع بكلفة تشغيل أعلى من مصاريف الأفراد مع العلم أن لا ضمان و لا قوانين ضمان أخرى متوفرة لودائع هذه الشركات في المصارف. و تشكّل هذه الشركات 95% من مجمل الشركات في لبنان. وكان قد لحظ القانون رقم 24/99 إمكانية مساهمة مؤسسة ضمان الودائع بشركة مغفلة هدفها ضمان قروض الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم (SME) حتى مبلغ 100 مليون ليرة عام 1999 انطلاقا من أن هذه الشركات تؤمن حسن سير الدورة الإقتصادية ومن دورها الضروري في دعم الإقتصاد و الحد من ارتفاع مستويات البطالة الذي عادة ما يرافق الأزمات الإقتصادية. إلا أن الإقتراح اليوم لم يلحظ أي تدبير خاص بهذه الشركات.

كذلك فإنّ حسابات المؤسّسات العامة والهيئات العامة ليست مضمونة بمبلغ أعلى من قبل مؤسسة ضمان الودائع وفقا للقانون الحالي كما للمقترح، علما أن ضمانها هو أمر ضروري لتأمين حسن سير المرافق العامة وحماية للأموال للعامة مما يحدّ من آثار الأزمة، وهو ما تمّ اعتماده في معظم أنظمة ضمان الودائع المقارنة.

أخيرا فإن كلّا من القانون والمقترح التعديلي لم يلحظا أي استثناء للأرصدة المرتفعة مؤقتا (temporary high balances) الناتجة  مثلا عن تعويضات المتقاعدين وتعويضات صندوق الضمان الإجتماعي أو التعويضات الناتجة عن الضرر لجهة ضمانها لحدّ أعلى حيث ترتفع في بريطانيا إلى مليون باوند إذا كانت قد أودعت قبل ستة أشهر على الأكثر، مما يمس بالفئات الإجتماعية الأكثر هشاشة وبشبكة الأمان الإقتصادية والإجتماعية التي تسمح بتأمين حدّ أدنى من ظروف عيش كريمة  لهذه الفئات وهو ما تكون الدول بأمس الحاجة إليه خلال الأزمات. وتلحظ معظم أنظمة ضمان الودائع المقارنة وضعية خاصة بالنسبة لهذه الحسابات.

أخيرا تجدر الإشارة إلى أنه وبموجب المادة 15 (4) من القانون 110/91، تستثنى من الضمان الحسابات العائدة لرؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف والمدراء ومراقبي الحسابات وزوجات الأشخاص المذكورين وأصولهم وفروعهم لدى المصرف الذي ينتمون إليه.

 

مهل غير فعّالة في استعادة المودع لقيمة الضمان

لا تؤمن المهل الموضوعة لاستعادة المودع لقيمة الضمان استقرارا اقتصادياً أو قانونياً. فيحدّد القانون 110/91 في لبنان استلام 1.5 مليون ليرة من مبلغ الضمان فور صدور قرار التوقف عن الدفع  أو قرار وضع اليد (قرار قضائي) على أن يقسّط الباقي أو يدفع بسندات خزينة تستحق خلال سنة. ولا يلحظ اقتراح القانون التعديلي تغيير الواقع على قيمة المبلغ.

وغياب ثقة المودعين بامكانية استلام مبلغ الضمان خلال مهلة قصيرة يعزّز خوفهم من خسارة مدخراتهم. وهو أمر تمّت ملاحظته في دول الإتّحاد الأوروبي خلال الأزمة المالية عام 2008. فكانت مهلة استلام المبلغ في هذه الدول 20 يوماً وقت حلول الأزمة (وليس سنة كما في لبنان واعتبرت الدول الأوروبية أن هذه المهلة طويلة وتأثيرها سلبي على استعادة الثقة، مما دفعها إلى وضع هدف تخفيض هذه المهلة إلى 7 أيام بحلول العام 2024). من هنا تتجلى ضرورة إعادة النظر بالمهلة الموضوعة في القانون اللبناني، وتحديد مهلة قصيرة لإستيفاء الضمان لأصحابه.

 

غياب آلية واضحة لحساب سعر الصرف بالعملات الأجنبية في الاقتراح المطروح

حدّد القانون 110/91  أنّ قيمة ضمان الحسابات بالعملات الأجنبية يدفع بالليرة اللبنانية حسب سعر الصرف بتاريخ التوقف عن الدفع أو قرار وضع اليد على المصرف. 

ولكن تنشأ إشكالية حول تحديد سعر صرف الدولار، لوجوب تباين بين سعري صرف، السعر الحقيقي في السوق والسعر الإسمي الذي يحدّده المصرف المركزي، خاصة أن المراجع الرسمية والمصارف تعتدّ بسعر الصرف المحدّد من المصرف المركزي.

 

ضمانة بالليرة لا تترافق مع خطوات جدية لاستعادة الثقة بسعر الصرف

تدفع قيمة الضمانة (إن بقيت 5 ملايين ليرة أو رفعت إلى 75 مليون ليرة – وهو أمر من الضروري حصوله –) بالليرة اللبنانية. غير أن المخاطر الحقيقية على ثبات سعر الصرف قد تؤدي إلى عدم جدوى نظام الضمان في حال تحقّقها، إذ أن انهيار قيمة الليرة اللبنانية قد ينسحب انهياراً بقيمة هذه الضمانة.

من هنا يغدو نظام ضمان الودائع غير كافٍ وحده، إذ لا بدّ أن يندرج ضمن سلة من الإجراءات تعيد الثقة بالليرة اللبنانية.

لكن تبقى أكبر عيوب في القانون والتي لم يعمد المقترح إلى معالجتها، تمويل المؤسسة الضامنة جزئيا من أموال المكلفين، وهو ما نعمد إلى توسيعه أدناه.

 

3- الشعب يموّل ضمانه: مخالفة لمبدأ عدم جواز تمويل ضمان الودائع من أموال المكلفين

إن أحد أهم المبادئ بحسب المفوضية الأوروبية لضمان الودائع هو تأمين تمويل الضمان من قبل القطاع المصرفي الخاص لا من أموال المكلفين، ذلك أن ميزة الأزمات المالية الحادة التي تشهدها الدول مؤخراً، غالبا ما تتأتى عن المخاطر التي تنتج عن خيارات المصارف نفسها. ومن الطبيعي أن يتحمّل عبء ضمان الودائع من يتخذ المخاطر. كذلك فإن تمويل قيمة الضمان من أموال الضرائب إنما يحرم المكلفين من خدمات كان من المفترض أن تؤمنها هذه الضرائب.

إلا أننا نلاحظ أن مؤسسة ضمان الودائع في لبنان تموَل برسم سنوي من البنك المركزي يوازي مجموع حصيلة الرسم السنوي المفروض على باقي المصارف[7] ما يعني أن المكلّفين الذين يكونون أصحاب ودائع يموّلون جزئياً ضمان ودائعهم.

من هنا يجب إعادة النظر بآلية تمويل المؤسسة وتحميل عبء ذلك للمصارف حصراً.

ختاما يقتضي التذكير أن تجربة بريطانيا وباقي دول الإتحاد الاوروبي قد أثبتت أنّ مؤسسة ضمان الودائع لا يمكنها أن تؤمن سوى حلول موضعية إلى حين تقديم حلول جذرية تعيد بناء ركائز الإقتصاد على أسس متينة وتعيد الثقة بالعملة وبالقطاع المصارفي. ويقتضي إذاً، في إطار إستنهاض الإقتصاد والقطاع المصرفي من الإنهيار، إقرانها بسلّة أخرى من الحلول. وهناك عدة خيارات في هذا الصدد، من قروض الملاذ الأخير(lending of last resort)، أو تصفية بعض المصارف أو دمج يعضها في إطار إعادة هيكلة للقطاع المصرفي، بالإضافة إلى إجراء "قص الشعر" (haircut) على كبار المودعين وشطب الديون، وإصلاحات جدّية في نظام الرقابة على المصارف و هو ما يصعب تحقيقه في ظل وجود علاقة جدلية بين المصرف المركزي والمصارف الخاصة التي تعتبر الدائن الأكبر للدولة اللبنانية.

إلا أن إقرار اقتراح القانون المعجل المكرر الذي يرفع قيمة الضمان وإجراء التعديلات المقترحة على النص، يشكل خطوة ضرورية للخروج من الأزمة المالية. فهو يعيد تصويب الأسئلة بالإتجاه الصحيح، من خلال إجبار المصارف نفسها على السعي لاستعادة ثقة المودعين، تحديداً الصغار منهم، بدل الإكتفاء بإجراء كابيتال كونترول de facto واستنسابي خارج أي تقنين، يحمّل أعباءً كبيرة لصغار المودعين ويضاعف آثار الأزمة عليهم.

 

 

 

 

 

 


[1] مقالة محمد زبيب" كبار المودعين من هم؟ كم يملكون؟" التي اعتمدت أرقاما مسربة من مصرف لبنان لكون المصرف توقف عن نشر هذه الإحصائيات

[2] المادة 14 من القانون رقم 58/2008 بحسب آخر تعديل

[3] القانون رقم 110/91

[4] المادة 14-4 من القانون رقم 58/2008 بحسب آخر تعديل

[5] المادة 14-3 من القانون رقم110/91

[6]  لا تعريف موحد للشركات الصغيرة و المتوسطة في القانون اللبناني. مصرف لبنان يعرفها على أنها الشركات التي تتمتع بأرباح أقل من 15 مليار ليرة أما كفالات فعرفتها بأنها تلك التي تشغل أقل من 40 موظفا

[7] المادة 16 من القانون 28/67