مُقترح ميقاتي/بري بخدمة الحاكم والمصارف: "الكابيتال كونترول" الزائف على نار حامية
03/12/2021
عقدت اللجان المُشتركة في تاريخ 1/12/2021 جلسة خُصّصت للنّظر في اقتراح قانون لتقييد حقوق المودعين (المعروف بالكابيتال كونترول) والذي كانت كلا من لجنتي المال والموازنة والإدارة والعدل وضعت صيغة مختلفة له. وكان هذا الاقتراح أُحيل من الهيئة العامة للمجلس إلى اللجان المشترك بناء على طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وذلك في جلستها التشريعية المنعقدة في 28/10/2021 بحجة أنّ لصندوق النقد الدولي ملاحظات عليه. وفي مستهلّ الجلسة، فوجئ النوّاب بمقترح جديد وضعه فريق الرئيس ميقاتي وبشكل خاصّ نائبه سعادة الشامي والنائب في كتلته نقولا نحاس. وبعد اعتراضات شديدة من قبل النواب الحاضرين على فرض مناقشة هذا المقترح الذي لم يقدّم بطريقة رسمية من قبل أيّ نائب أو كمشروع قانون من قبل الحكومة، رُفعت الجلسة من دون مناقشته ولا مناقشة صيغتيْ الاقتراح السابقتيْن. إلّا أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري عاد بعد دقائق من رفع الجلسة ليدعو اللجان المشتركة لاجتماع جديد الإثنين المقبل لمناقشته، بما يعكس إصراراً منه على تمريره. كما تمّ الإعلان عن انعقاد جلسة تشريعية في 7/12/2021 مع التلويح بتوجّه لإدراج هذا الاقتراح على جدول أعمالها في حال نجحت اللجان المشتركة الإثنين القادم في إنجازه.
وفيما أنّ المقترح قُدّم بحجّة الاستجابَة لملاحظات صندوق النّقد الدوليّ، فإنّه خلا من أيّة إشارة إلى موافقة هذا الأخير عليه. لا بل أنه أتى مخالفا لجميع التوصيات المنسوبة للصندوق. وإذ يُعاب عليه كما على سائر المقترحات السابقة سعيه لضبط حركة الرساميل بعد هروب كمّ كبير منها وأنه يأتي بمعزل عن أيّ خطة أو رؤية إصلاحية مالية أو اقتصادية، فإنه تضمّن علاوة على ذلك أحكاماً هجينة تجعل منه من دون أي مبالغة أسوأ المقترحات المقدّمة حتى الآن وأكثرها ظلما بحق المودعين وتماهياً مع المصارف.
فقد تمّ حذف أيّ حقّ مُكتسب للمودع بسحب مبالغ ماليّة من حسابِه بالعملة الأجنبية (وذلك بخلاف الصيغة التي وضعتها لجنة المال والموازنة) تاركا تحديد إمكانية إجراء أي سحوبات لإرادة مصرف لبنان وحده والتعاميم الصادرة عنه. كما أدخل المقترح شروطا شبه تعجيزية لإجراء تحويلات إلى الخارج ضمن الاستثناءات التي عدّدها على سبيل المثال وليس الحصر. ورغم وروده من فريق رئيس الحكومة، فإنه عجّ بالصلاحيات الممنوحة لمصرف لبنان وحاكمه في موازاة تجريد الحكومة من أي صلاحية (ما عدا صلاحية تمديد العمل بالقانون والتي تمارسها الحكومة بناء على توصية حاكم مصرف لبنان واقتراح وزير المالية) بعدما كانت تخلت عن مسؤوليتها في وضع خطة اقتصادية شاملة خلافا لتوصيات صندوق النقد الدولي.
وعليه، يظهر التدقيق في أحكام هذا المقترح أنّ الهدف الأساسيّ منه ليس تقييد السحوبات والتحويلات من الحسابات المصرفية، بل قبل كل شيء تشريع كل الممارسات الحاصلة من قبل بتقييد هذه العمليات من دون أي مسوغ قانوني، وذلك بصورة رجعية. ومؤدّى ذلك هو تعزيز صلاحيات حاكم مصرف لبنان وتحصينه بمعيّة المصارف إزاء الخضوع للمساءلة القضائية.
وهذا ما نتبيّنه من خلال تحرير مصرف لبنان والمصارف بما يتصل بتنفيذ هذا القانون من الخضوع للقضاء العادي من خلال إنشاء محاكم استثنائية سيكون لها وحدها صلاحية النظر بأي نزاع ينشأ عنه.
وهذا أيضا ما نتبينه بشكل خاص من المادة 8 من المقترح التي أعلنت تطبيق القانون بصورة فورية (وتاليا رجعية) "على التحاويل التي لم تُنفّذ بعد كما … على الدعاوى والمنازعات في الداخل والخارج التي لم يصدر فيها حكم مبرم وغير قابل لأيّ طريق من طرق المراجعة وذلك خلال مدّة نفاذه"، كل ذلك بعد التشديد في المقترح بأن أحكام هذا القانون هي استثنائية ومن النظام العام وتطغى على كل نصّ يتعارض معها.
يستدعي هذا التطوّر التشريعي الملاحظات الآتية:
أولا، تعزيز صلاحيات حاكم مصرف لبنان
يمنح المقترح صلاحيات واسعة لمصرف لبنان وبخاصّة لجهة منحه سلطة استنسابيّة في كل ما يتصل بالسحوبات من الحسابات المصرفية والتحاويل إلى الخارج. وفي حين استعاد المقترح الكثير من هذه الصلاحيات من الاقتراح الصادر عن لجنة المال والموازنة (إنشاء “وحدة مركزيّة التحاويل” داخل مصرف لبنان تتولّى مهمّة مراجعة القرارات الصادرة عن المصارف بشأن طلبات التحاويل، تحديد سقوف السحوبات والتحاويل إلى الخارج وتعديلها، ربط تمديد أو تقصير مدة العمل بالقانون المحدّدة بسنة)، فإنه أضاف إليها تشريع آلية تحديد سعر الصرف من خلال نظام "صيرفة" الذي يتحكم به المصرف المركزي وهو السعر الذي يفترض أن تجري على أساسه جميع السحوبات للحِسابات بالعملات الأجنبية بالليرة اللبنانية. إلى ذلك، أناط المقترح بالمصرف المركزي صلاحية تحديد "الشروط والحدود" للاستثناءات على منع التحويل للخارج.
ويأتي توسيع هذه الصلاحيات قبل انتهاء التدقيق الجنائي وفي ظل كل الشبهات التي تحوم حول الحاكم بارتكاب عمليات تبييض أموال وتحرّك جهات قضائية محلّية ودولية عدّة لملاحقته.
ثانيا، تقييد حقوق المودعين من دون منحهم أي حقّ مُكتسب
في حين يلتقي المقترح مع الاقتراح السابق في تقييد حقوق المودعين، فإنه يعمد عمليا إلى تجريد هؤلاء من أيّ حق مكتسب أو ضمانة، وضمنا من الحقوق المكتسبة القليلة التي كان الاقتراح السابق في نسخته المعدلة من لجنة المال والموازنة قد ضمنتها ومنها تحديد حد أدنى للسحوبات من حسابات العملة الأجنبية. ويلحظ هنا تأكيد المقترح على أن السحب يجري بالليرة اللبنانية حصراً وفق سعر منصة صيرفة ضمن سقف السحوبات الذي يضعه مصرف لبنان، بما يفتح الباب أمام إجراء عمليات قصّ الشعر من دون مراعاة الاختلاف في أوضاع المودعين.
فضلا عن ذلك، فإنّ المقترح يؤدّي عملياً إلى إلغاء القانون الوحيد الذي منح المودعين حقاً مكتسباً بإجراء تحاويل إلى الخارج وهو القانون المتّصل بالدولار الطلابي، على أساس المادة 8 منه التي اعتبرت أن أحكامه "تطغى على كل نص يتعارض معه". وعليه، يصبح التحويل للخارج لغايات التعليم مجرد إمكانية خاضعة لموافقة مسبقة من المصرف ومصرف لبنان ضمن الآليات المستحدثة في هذا المقترح. أكثر من ذلك، فإنّ المادة الثامنة تؤكد تطبيق المقترح على جميع الدعاوى القائمة والتي لم تصدر فيها أحكام مبرمة، أي أنّها ستكون بمفعول رجعي سيؤدي حكماً لخسارة ذوي الطلاب دعاويهم القائمة بحق المصارف غير الممتثلة لهذا القانون.
ويتبدّى تجريد المودعين من أي حق مكتسب أو ضمانة أكثر وضوحا بما يتصل بالتحويلات إلى الخارج المستثناة والتي يُسمح بالقيام بها. فالمقترح أحاطها بشروط تعجيزية يرتقب أن تحرم الغالبية الكبرى للمودعين من إمكانية المطالبة بها حتى. ومن أبرز هذه الشروط التعجيزية التي تم إضافتها هو حرمان المودعين الذين لهم حسابات في الخارج أو حسابات الأموال الجديدة (fresh money) من إمكانية إجراء أي حوالة. فعلى المودع الذي اضطرّ لفتح حساب "فريش" في الفترة الماضية للقيام بعمليات مصرفية بشكل طبيعي، أن ينسى فكرة إمكانية استعمال حسابه القديم لإجراء أي تحويل ولو توفرت لديه إحدى حالات التحويل القابلة للترخيص.
وما يزيد من قضم حقوق المودعين هو أن المقترح وضع سقفاً موحّداً للسحوبات والتحاويل الاستثنائية الشهرية. أي أنّه وعلى فرض تمّ السماح لمودع بتحويل أموال إلى إبنه الذي يُكمل تعليمه في الخارج، فإنّ ذلك سيُحسم من سقف المبلغ المسموح له أن يسحبه شهرياً من حسابه. أي أنّه سيكون على العائلة المفاضلة بين إرسال الأموال إلى أبنائها في الخارج أو التمكّن من إجراء سحوبات لمواجهة مستلزمات الحياة في الداخل.
ثالثا، تقويض حق التقاضي أمام محاكم محايدة ومستقلة
ذهب المقترح في ثلاثة اتجاهات تؤدي عمليا إلى تقويض مبدأ فصل السلطات وتحصين المصارف إزاء المساءلة مع تجريد المودعين من حق اللجوء إلى محكمة مستقلة ومحايدة. وقد تحقق ذلك من خلال 3 توجهات:
الأول، تجريد المحاكم العادية من صلاحياتها بالنظر في الدعاوى المقامة ضدّ المصارف على خلفية الإخلال في هذا القانون وإعلان عدم اختصاصها للبتّ بأي دعوى مستقبلية طوال مدّة نفاذه. وقد تمّ ذلك تبعا لنقل هذه الصلاحية إلى الهيئة المصرفية العليا والتي سيكون لها وحدها اختصاص النظر في مخالفات المصارف لهذا القانون. وتزيد قابلية نقل هذه الصلاحية إلى الهيئة المصرفية العليا للانتقاد حين نتبيّن كيفية تكوينها. فعدا عن أن حاكم مصرف لبنان هو الذي يرأسها، فإنها تضمّ إليه أحد نوّابه الذي يختاره الحاكم بنفسه وعضوا آخر تعينه جمعية المصارف إلى جانب المدير العام لوزارة المالية وقاضٍ يعيّن بمرسوم بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى (وهو حاليا النائب العام المالي علي إبراهيم). أكثر من ذلك، حصر المقترح طرق اللجوء إلى الهيئة المصرفية العليا في الإحالات الصادرة عن لجنة الرقابة على المصارف. وعليه، يؤدي المقترح في حال إقراره إلى حرمان المودعين من إمكانية مراجعة القضاء لإعلان توقف المصارف عن الدفع ليس فقط بفعل تقييد حقوقهم بموجبه بل أيضاً من خلال نقل صلاحية النظر في توقف المصارف من هيئة قضائية إلى الهيئة المصرفية العليا والتي ليس للمودع اللجوء مباشرة إليها.
ويخشى أن يؤدي نقل الصلاحية على هذا الوجه إلى مواصلة جرم الإفلاس الاحتيالي أو التقصيري من دون عقاب بسبب تضارب المصالح في تكوينها ونفوذ حاكم المصرف المركزي فيها.
الثاني، إنشاء محاكم استثنائية جديدة بموجب نصوص غامضة تخلو من أي ضمانات لاستقلاليّتها. وهذا ما ورد تحديدا في المادة 6 من المقترح والتي تنص على أنّه يحق للعميل الاعتراض على رفض طلبه بالتحويل "أمام محكمة خاصة يقوم مجلس القضاء الأعلى بتشكيلها بصورة استثنائية لمدة نفاذ هذا القانون في كل قضاء". يلحظ أن النصّ يُبقي المعلومات حول هذه المحاكم واستقلاليتها ومواردها مبهمة تماما، بما قد يعيق تماما تشكيلها وسير عملها. وإذ يعبّر المقترح من هذه الزاوية عن توجّس واضعيه من المحاكم العادية من خلال تجريدها من صلاحيتها، ثمة خشية مشروعة أن يكون في صدد نقل هذه الصلاحية منها إلى محاكم وهمية قد لا تنوجِد أبدا. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو وضع أصول استثنائية لعمل هذه المحاكم أبرزها عدم قابلية قراراتها لأي طريق من طرق المراجعة.
الثالث، وهو إعطاء مفعول رجعي للأحكام المقترحة المتصلة بالتحاويل غير المنفذة أو التي هي موضوع نزاع أمام المحاكم في الداخل أو الخارج (مادة 8 المذكورة أعلاه). وعليه، وفي حين دفع تقييد أموال المودعين لدى المصارف العديد منهم إلى تقديم دعاوى ضدّ المصارف وجمعيّة المصارف ومصرف لبنان في لبنان والخارج، فإن المقترح الحالي جاء ليفرض مآلها بما يتماشى مع أحكامه وليمنح بذلك حماية إضافية وبصورة رجعية لمصرف لبنان والمصارف المدّعى عليها.
ومن أبرز الدعاوى التي قد تتأثر بأحكام هذا المقترح في حال إقراره الدعاوى المتصلة بالدولار الطلابي والتي صدر فيها عدد هامّ من الأحكام التي ما تزال غير مبرمة، وأيضا الدعاوى العالقة أمام المحاكم الأجنبية والتي ستسارع المصارف إلى مطالبتها بتطبيقها تمهيدا لردّ الدعاوى على اعتبار أنها "أحكام … من النظام العام وتطغى على كل نصّ يتعارض معها". فكأنما هذا المقترح يهدف ليس فقط إلى تشريع تقييد حقوق المودعين مستقبلا، بل وهذا هو الأهم تغطية مجمل الانتهاكات الحاصلة ضد حقوق هؤلاء في الماضي. ويجدر التركيز هنا إلى الاستعمارية القانونية المعتمدة في هذه المادة من خلال فرض تطبيق أحكامها على النزاعات القضائية العالقة في الخارج. وهذا ما يفسّر اعتقاد الكثيرين بأن تقديم هذا المقترح والاستعجال في إنجازه إنما يأتي استباقا للحكم الذي يرتقب صدوره قبل 21 كانون الأول 2021 عن محكمة بريطانية في القضية المقامة من المواطن بلال خليفة ضد مصرف لبنان والمهجر.
وبفعل هذه الاتجاهات الثلاثة، من شأن المقترح أن يؤدي في حال إقراره إلى حرمان المودعين من حقوقهم بالتقاضي أمام مرجع محايد ومستقل، وذلك خلافا للمادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
رابعاً، مخالفات على العمل التشريعي
إذ تقاعس المجلس النيابي في إقرار قانون الكابيتال كونترول طوال السنتين المنصرمتين، وجد النواب أنفسهم أول من أمس أمام مقترح هبط عليهم بما يشبه الباراشوت وبصورة غير رسميّة من دون أن يحمل توقيع أيّ نائب ومن دون أن يكون مُحالا بمرسوم من الحكومة. ورغم اعتراض النواب على تقديمه على هذا الوجه بالأولوية بالنسبة إلى صيغتي الاقتراح السابق واللتين وضعتْهما لجنتا المال والموازنة والإدارة والعدل، فإنّ الفرزلي أصرّ على ضرورة مناقشته دون سواه. وهذا مأ أيّده رئيس المجلس النيابي نبيه بري بعد دقائق من رفع الجلسة بحيث دعا اللجان المشتركة للاجتماع مجددا يوم الإثنين المقبل. وما يزيد من استعجال برّي لإقرار هذا المقترح مدعاة للاستغراب هو أنه ذهب في اتجاه معاكس لما كان دأب عليه طوال السنتين الماضيتين. وليس أدلّ على ذلك من تصريحه الشهير في 14/4/2020 عندما قال "اقرأوا الفاتحة على الهيركات وترحّموا عليه، كما ترحّمتم على الكابيتال كونترول".
مخالفة تشريعية أخرى تتأتّى من عدم استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى بالتعديلات الكثيرة المقترحة والمتعلقة بالقضاء وذلك خلافا للمادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المجلس الدستوري كان اعتبر في قراره رقم 23/2019 حول قانون موازنة عام 2019 أن موجب استطلاع رأي المجلس في مشاريع القوانين والأنظمة المتعلّقة بالقضاء يشكّل صيغة جوهرية تدخل ضمن الضمانات القضائية المكتوبة في المادة 20 من الدستور وأيضا ضمن مبدأ استقلال السلطات الدستورية وتعاونها، المنصوص عليه في الفقرة (ه) من مقدّمة الدستور وصولا إلى اعتبار أي تجاوز لها بمثابة مخالفة دستورية.
خلاصة:
بالخلاصة، وبعد انقضاء أكثر من سنتين من الأزمة ترك خلالها لمصرف لبنان والمصارف أن تتحكّم في حقوق المودعين من دون أي مسعى من المجلس النيابي لإيجاد أي حلّ عقلاني وعادل، ها هي رئاسة المجلس تتحمس أخيرا بمعية رئيس الحكومة لتمرير مقترح قانون يزيد مصرف لبنان والمصارف تسلطا ويزيد المودعين إجحافا والأهم يجرد القضاء من أي دور. حماسة تقول الكثير عن أولويات المجلس ومشاغله. فلنراقب.