"هيئة مكافحة الفساد" مقيّدة: النظام الداخلي عالق لدى شورى الدولة منذ عام

إيلي الفرزلي

11/03/2023

انشر المقال

صدر قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء هيئة مكافحة الفساد في العام في 14/5/2020 بوصفه حجر الزاوية في منظومة مكافحة الفساد التي كان يفترض أن تبدأ مع توقيع لبنان على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في العام 2006 ثم إقرارها في مجلس النواب رسمياً في العام 2009 (وثيقة دولية ملزمة أقرتها الأمم المتحدة في العام 2003 وتضم أكثر من 187 دولة). علماً أن هذه المنظومة تضم قوانين عديدة منها قوانين: حق الوصول إلى المعلومات، حماية كاشفي الفساد، التصريح عن الذمّة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع، دعم الشفافية في قطاع البترول، استرداد الأموال المتأتية عن الفساد، تعديل قانون السرية المصرفية، الشراء العام، تبادل المعلومات الضريبية.

حجر الزاوية هذا ليوضع موضع التنفيذ الفعلي كان بحاجة إلى تشكيل هيئة مكافحة الفساد، ومن ثم تفعيل عملها. شُكّلت الهيئة في كانون الثاني 2022، لكنها منذ ذلك الحين عاجزة عن أداء وظائفها كاملة، بسبب عدم إصدار النظام الداخلي. فالمادة 9 من القانون تشير إلى أن الهيئة "تضع نظاماً داخلياً يتضمّن القواعد والأصول التفصيليّة التي ترعى تنظيمها وسير العمل لديها وإدارتها المالية في مهلة ثلاثة أشهر من تاريخ صدور مرسوم تعيين أعضاء الهيئة بموجب قرار تنظيمي يصدر عن الهيئة بغالبية ثلثيْ الأعضاء الذين يحقّ لهم التصويت وبعد موافقة مجلس شورى الدولة".

الجزء الأول من المادة أي وضع الهيئة للنظام الداخلي لم يستهلك أكثر من 40 يوماً من المهلة المطروحة. لكن المشكلة أن الشق الثاني منها لم يُنفّذ بعد، إذ لا تزال الهيئة بانتظار موافقة مجلس شورى الدولة عليه. علماً أن المهلة المشار إليها في القانون، تشمل بحسب رئيس الهيئة كلود كرم كل إجراءات الإقرار أي بما فيها موافقة مجلس الشورى. وفيما كان من البديهي أن يستهلك إنجاز النظام الإداري الوقت الأكبر من المهلة المحددة، إلا أنّ ما حصل كان العكس، إذ أن موافقة "الشورى" لا تزال في عالم الغيب بالرغم من مرور نحو سنة على انتهاء المهلة. وبحسب المعلومات، فقد طلب المجلس تحويل النظام المقترح إلى كل من وزارة المالية ومجلس الخدمة المدنيّة لإبداء الرأي، وهو ما حصل فعلاً بالرغم من عدم وجود أيّ موجب قانوني يفرض الأخذ برأي الطرفين. إلا أن "الشورى" ارتأى استشارتَهما انطلاقاً من أن مجلس الخدمة سيكون معنياً باختبارات التأهيل للوظيفة ووزارة المالية ستكون معنية بموازنة الهيئة. لتكون النتيجة أن النظام لا يزال عالقاً حتى اليوم بين وزارة المالية و"الشورى" بعد أن أرسل مجلس الخدمة المدنية ملاحظاته مؤخراً. علماً أن نص القانون الذي ربط النظام الداخلي بموافقة "الشورى" لا بموافقة مجلس الوزراء، شكّل عند إقرار القانون سابقة تهدف إلى التأكيد على الاستقلالية الكاملة للهيئة عن السلطة التنفيذية، إدارياً ومالياً، كما تهدف إلى تحرير الهيئة من أي تأخير قد تسببه الظروف السياسية (تكرر الأمر عند إقرار قانون الشراء العام)، لكن ما حصل أن "الشورى" عاد وأغرق القانون في بيروقراطية وزارة المالية، التي لا تزال تمنع بدء مرحلة التنفيذ الفعلي لعملية مكافحة الفساد. 

هل هذا التأخير متعمّد ويهدف إلى عرقلة عمل الهيئة؟ لا أحد من أعضاء الهيئة ينفي أو يؤكد ذلك، لكنهم يفترضون حسن النية معتبرين أن عوامل عديدة أدّت إلى التأخير، وهي مرتبطة بالوضع العامّ الذي يساهم في عدم انتظام العمل في الإدارات العامة (الإضرابات وقلّة عدد الموظفين والتقنين في الحضور…). 

لكن رغم ذلك، يرى كرم أنه بمعزل عما إذا كان التأخير مقصوداً أو غير مقصود، فإن النظام سيصدر في النهاية والتأخير في إصداره لم يحلْ دون استنفار أعضاء الهيئة واستغلالهم الوقت لتهيئة الأرضية المناسبة لبدء العمل. ويذكّر كرم أن التجارب الدّوليّة تُظهر أنّ بدء عمل هيئات مماثلة قد يحتاج إلى نحو ثلاث سنوات قبل انطلاق الأعمال، فيما يجزم أن الهيئة ستكون جاهزة للعمل في وقت قياسيّ. وتأكيداً على ذلك، يؤكّد نائب رئيس الهيئة فوّاز كبّارة أن الهيئة بدأت بالفعل ومنذ اللحظة الأولى لتعيين أعضائها باستقبال تصاريح الذمة المالية، لأن هذا الموجب مفروض في قانون التصريح عن الذمة المالية وله عواقب تصل إلى إقالة من لم يقدم التصريح خلال مهلة شهرين، علماً أن أعداد هذه التصاريح بالمئات ويمكن أن تصل إلى الآلاف، إذ يفرض القانون على كل العاملين في الشأن العام من الفئة الثالثة وحتى رئيس الجمهورية تقديم تصريح الذمة المالية بعد التعيين أو الانتخاب، ثم كل ثلاث سنوات. كذلك تقوم الهيئة بالتواصل مع الجهات الأجنبية 

في مقابل سعي أعضاء الهيئة لاستغلال الوقت قدر الإمكان لإنجاز ما يمكن إنجازه، فإن مرور سنة من دون إقرار النظام الداخلي لا يزال يكبّل الهيئة، المؤلفة من ستة أعضاء يعينون في مجلس الوزراء لست سنوات غير قابلة للتجديد، ويمنعها من القيام بواجباتها كاملة، كما يؤخر البدء بتشكيل هيكليّتها الإدارية. خاصة أن الهيئة تعمل حالياً بكادر مؤلف من 3 موظفين بالإعارة من وزارة المهجرين يقومون بالأعمال الضرورية كاستقبال المراسلات وتسجيلها، فيما يقوم أعضاء الهيئة أنفسهم بأعمال إدارية ليست من مسؤوليتهم لتسيير العمل قدر الإمكان. علماً أن الكادر الوظيفي الذي تحتاجه، يقدر عددُه ب40 موظفاً أو أكثر على رأسهم أمين عام. 

النائب السابق غسان مخيبر، الذي كان ممّن أعدوا اقتراح القانون، يعتبر أن التأخير مكلف جداً في بلد ينهشه الفساد. وبالتالي كان المفروض استنفار كل الجهات المعنية لتفعيل عمل الهيئة، فيما الواقع يشير إلى أن سنتين مرّتا منذ إقرار القانون من دون تمكنها من القيام بكامل أعمالها، مشيراً إلى أنه بعد إقرار النظام الداخلي ستبدأ مرحلة التوظيف التي تحتاج إلى وقت أيضاً. وهنا يذكّر مخيبر أن الاقتراح الأساسي كان يقضي بأن يتبع موظفو الهيئة لقانون العمل، إلا أن مجلس النواب رفض ذلك وأتبعهم لنظام الموظفين، على اعتبار أنهم موظفون عموميون. وهو ما يعني بالتالي الالتزام بآلية التوظيف الرسمي التي تحتاج إلى وقت طويل أيضاً. 

وللتذكير، فإن تأخير إقرار النظام يعيق الهيئة من القيام بأعمال رئيسية، ليست مستمدة فقط من قانون إنشائها، بل ترتبط أيضاً بالعديد من القوانين التي أعطت دوراً في تنفيذها للهيئة. وعلى سبيل المثال، فإن الهيئة مسؤولة عن:

  • تلقي تصريحات السياسيين والموظفين عن ثرواتهم ومداخيلهم ومصالحهم، ومراقبة هذه التصاريح، ولها تبعاً لرقابتها أن تبادر في الادعاء بجريمة الإثراء غير المشروع. والهيئة هي الجهة الوحيدة التي يحقّ لها الاطلاع على هذه التصاريح، بعدما كان الأمر سابقاً شكلياً ويقتصر على إيداع التصريح في المجلس الدستوري. 
  • حماية كاشفي الفساد وتحفيزهم وفق أحكام قانون حماية كاشفي الفساد.وبالتالي فإن عدم تفعيل الهيئة يعيق ويؤخر إجراءات الحماية هذه، إذ لم يصدر أي قرار حماية بعد. أضف إلى أن الهيئة يحق لها مكافأة كاشفي الفساد مادياً (5% من المبلغ المُسترد لصالح الدولة).
  • تلقي الإخبارات والكشوفات عن الفساد وحماية سريتها.
  • الاستقصاء والتحرّي عن جرائم الفساد، عفواً أو بناءً على ما تتلقّاه من كشوفات، مهما كانت أهميّة مواقع المعنيين بها في الدولة. ولها أن تطلب مساعدة الضابطة العدلية ومعاونيها لجهة الحصول على المعلومات المتوافرة لديها مع الاحتفاظ بسرّيتها.
  • استلام الشكاوى المتعلقة بعدم تطبيق قانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات والتحقيق فيها وإصدار قرارات بشأنها. 
  • إبداء المشورة للسلطات المختصة حول تنفيذ القانون ووضع تقرير سنوي بشأنه ونشره، والمشاركة في تثقيف المجتمع لترسيخ هذا الحق.
  • مكافحة تبييض الأموال، حيث يحق لها التحرك من تلقاء ذاتها، ويحق لها أن تطلب من هيئة التحقيق الخاصة اتخاذ الإجراءات الاحترازية بما فيها تجميد حساب أو حسابات المشكو منه. 
  • بحسب تعديلات قانون السرية المصرفية، صار يحق للهيئة طلب رفع السرية مباشرة ومن دون المرور بهيئة التحقيق الخاصة، كما كان يشير قانون "إنشاء هيئة مكافحة الفساد"، وذلك تبعا لما أكّده النواب في المناقشات النيابية للقانون ولما عاد وأكده المجلس الدستوري في ممارسة صلاحيته التفسيرية له. 

ربطاً بهذه المهامّ وغيرها الكثير، فإن تأخير إقرار النظام الداخلي يعني تلقائياً عدم قدرة الهيئة على استلام أي شكوى لعدم قدرتها على التحقيق بشأنها، كما لا يمكنها تأمين الحماية لكاشفي الفساد، ولا يمكنها حتى التدقيق بالتصريحات التي تصلها أو النظر في شكاوى عدم استجابة الإدارات لطلبات المعلومات، أضف إلى عدم قدرتها على تعيين أو حتى التعاقد مع أي موظف للقيام بالأعمال الإدارية والتقنية المطلوبة، علماً أن الهيئة ستخصص فرعاً لتطبيق كل قانون من القوانين الأساسية، بما يمكنها من تسريع عملية التعامل مع كل الشكاوى والقضايا المطروحة. 

من يتابع نشاط أعضاء الهيئة الستة (القاضي كلود كرم رئيساً، المحامي فواز كبارة نائباً للرئيس، القاضية تيريز علاوي، الدكتور علي بدران، الدكتور كليب كليب، والدكتور جو معلوف) الذين يؤكد العديد منهم للمفكرة أنهم يجتمعون بصورة شبه يومية في الطابق الرابع من المبنى المخصص للهيئة، يدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم مقابل محدودية الأدوات المتوفرة حالياً، إن كانت إدارية أو قانونية أو مالية. وهم إلى حين إقرار النظام، لديهم الكثير من العمل لإنجازه على ما يؤكد كرم، وإن كان الأبرز هو استقبال تصاريح الذمم المالية وتسجيلها وحفظها في خزنة مؤقتة، حيث تشهد هذه الأيام تصريحات من يحالون إلى التقاعد أو من يتم التعاقد معهم من قبل الإدارات المختلفة. إلا أن الهيئة تتولى إرسال واستلام المراسلات، والإعداد لنشر التوعية حول من خلال التواصل مع الجهات المعنية ولاسيما منها الجامعات، والتواصل مع الجهات المتكفّلة بتجهيز المبنى لتحديد حاجات كل قسم. كما تعمل على تحضير التقرير السنوي المفروض قانوناً، أضف إلى إنجازها طباعة كتيّب إرشادي عن كل القوانين التي تُعنى بمكافحة الفساد، بالتعاون مع عدد من الجهات المانحة. يتواصلون مع الجهات الداعمة ويحضرون الأقسام المعنية بكل اختصاص. 

كما أن العائق المالي أساسي أيضاً. فقد أشار القانون في مادته التاسعة إلى وجوب "فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة للهيئة للسنة التشغيلية الأولى بعد دخول هذا القانون حيّز النفاذ، قيمته عشرة مليارات ليرة لبنانية". هذا المبلغ كان يزيد عن 6 مليون دولار عند إعداد قانون الهيئة، لكن عند تشكيلها كانت انخفضت قيمته إلى نحو 200 ألف دولار، علماً أن الهيئة حصلت مؤخراً على 4 مليارات من أصل المبلغ وهو بالكاد يكفي لتسديد رواتب أعضاء الهيئة (يشير قانون إنشائها إلى تقاضيهم رواتب تساوي رواتب أعضاء المجلس الدستوري). وهذه المشكلة يُتوقع أن تستمر في العام 2023، إذ أن الهيئة قدّمت مشروع الميزانية للعام 2023 إلى وزارة المالية في أيار الماضي على تقديرات للنفقات تأخذ بعين الاعتبار ال20 ألف ليرة سعراً للدولار أن سعر الدولار (بناء على طلب وزير المالية)، وهي لم تعد ذات جدوى اليوم بعد ارتفاع سعر الدولار أربعة أضعاف، ما يوجب إعادة النظر بكل النفقات، ولاسيما بالرواتب، بما يضمن جذب الكفاءات للعمل في الهيئة. 

وللمناسبة، تكاد الهيئة، حالياً، تعتمد بشكل كلّي على الدعم المُقدّم من الجهات الدولية التي تُبدي اهتماماً كبيراً بتفعيل عملها، وعلى رأس هذه المنظمات الأمم المتحدة. ولولا الـUNDP (برنامج للأمم المتحدة الإنمائي) والـUNODC (مكتب الأمم المتحدة الإقليمي المعني بالمخدرات والجريمة) اللذّين تكفّلا بتجهيز مقر الهيئة (المبنى السابق لوزارة الثقافة قرب البريستول) expertise france التي أمّنت مولد كهرباء، لكانت الهيئة اليوم عاجزة حتى عن الاجتماع في مقرها. كما يفترض أن يتطور هذا التعاون لاحقاً ليشمل تأمين خبراء لمعاونة الهيئة في إنجاز أعمالها ولتدريب الموظفين.