تقرير المرصد البرلماني عن عامَيْ 2019 و2020.. برلمان الأزمات
يسعى المرصد البرلماني في المفكرة القانونية في تقريره “أعمال المجلس النيابي لعامي 2019 – 2020” إلى تقييم عمل البرلمان خلال هذين العامين اللذين يعدّان الأصعب في تاريخه، حيث شهدا انهياراً مالياً واقتصادياً وحراكاً قد يكون الأكبر من نوعه، بقي المجلس في الغالب عاجزاً عن التعامل معها بشكل مناسب. فلا هو ارتقب الأزمة قبل حصولها، ولا أبدى حماسة في معالجة مفاعيلها أو في اجتراح حلول لتجاوزها. سنطرح في هذه المقدّمة بعض العناوين العامّة التي تُلخّص حصيلة العمل البرلماني خلال هذه الفترة، على أنْ نُفصّل لاحقاً نتاجه الكمّي في كتاب أوّل ونتاجه النوعي في كتاب ثانٍ.
17/01/2022
يسعى المرصد البرلماني في المفكرة القانونية في تقريره “أعمال المجلس النيابي لعامي 2019 – 2020” إلى تقييم عمل البرلمان خلال هذين العامين اللذين يعدّان الأصعب في تاريخه، حيث شهدا انهياراً مالياً واقتصادياً وحراكاً قد يكون الأكبر من نوعه، بقي المجلس في الغالب عاجزاً عن التعامل معها بشكل مناسب. فلا هو ارتقب الأزمة قبل حصولها، ولا أبدى حماسة في معالجة مفاعيلها أو في اجتراح حلول لتجاوزها. سنطرح في هذه المقدّمة بعض العناوين العامّة التي تُلخّص حصيلة العمل البرلماني خلال هذه الفترة، على أنْ نُفصّل لاحقاً نتاجه الكمّي في كتاب أوّل ونتاجه النوعي في كتاب ثانٍ.
ننشر نسختين عن تقرير المرصد البرلماني لعامي 2019 و2020. تحتوي النسخة الأولى، وهي الأقصر، على القوانين التي صدّقها المجلس، ونضيف على النسخة الثانية مقتراحات القوانين التي لم يمررها.
1- تسفيه الخطر العامّ والصالح العامّ
بدراسة النتاج التشريعي للمجلس يتبدّى أنّه فشل في ارتقاب الانهيار قبل وقوعه وفشل في معالجته من بعدها. وهذا ما نتبيّنه بشكل خاصّ من قصور قانون موازنة العام 2019 الذي أُقِرّ نهاية تمّوز 2019، أي عشيّة الأزمة، كما من قصور قانون موازنة العام 2020 الصادر غداتَها. فقد اشتركت الموازنتان بعناوين يُراد منها الإيحاء بتوفّر نوايا إصلاحية تنسجم مع اشتراطات مؤتمر سيدر أو تعمل على احتواء انتفاضة 17 تشرين وغضبها (بالنسبة إلى موازنة 2020)، وتحديداً الإيحاء بوجود نيّة بتخفيف عجز المُوازنة أو تحريك قطاعاتٍ اقتصادية أو زيادة الشفافيّة. وهي عناوين بقيت في غالبِها ذات بعد رمزي أو مفعول جدّ محدود. ومن الأمثلة الفاقعة على ذلك، الضرائب المضافة في موازنة 2019 التي تمثّلت في فرض رسوم على لوحات السيّارات المميَّزة أو على اللوحات الإعلانية. إلى ذلك، عمدت موازنة 2020 إلى تخفيض العجز بشكل مصطنع وشبه احتيالي من خلال نقل جزء من كلفة خدمة الدين العامّ من الخزينة إلى حسابات مصرف لبنان لإخفاء هذه الكلفة.
ولا ينحصر القصور التشريعي لمعالجة الانهيار في قانونَيْ الموازنة، بل ينسحب على مجالات التشريع الأخرى. ومن الأمثلة الفاقعة على ذلك، تشريع استعمال القنّب الهندي لغايات طبّية مع إبرازه كحلّ أساسي للتنمية، كلّ ذلك ارتجالاً ومن دون أيّ دراسة للمفاعيل المتوخّاة منه. الأمر الثاني الذي أظهر فشلاً تشريعياً كبيراً في مواجهة الأزمة تمثّل في تخلُّف البرلمان عن إقرار قانون الكابيتال كونترول.
ولم تكتفِ الكتل النيابية بتجاهل تحدّيات الأزمة قبل أو بعد وقوعها، بل إنّها عمدت أحياناً إلى استغلال مفاعيلها لتعزيز شبكات الزبائنية التي تُقيمها. فبدل أن يسارع إلى وضع تشريعات تُحسِّن أوضاع السجون وتخفّف من اكتظاظها، بخاصّة في زمن كورونا، وردت إلى الهيئة العامّة مجموعة من القوانين التي تهدف إلى منح العفو العامّ لفئات واسعة مِمَّن هم خارج السجون، بخاصّة فئتَيْ تجّار ومزارعي الموادّ المخدّرة في البقاع والإسلاميين بحجّة كورونا. وبفعل حدّة المساومات السياسية في هذا الشأن، فشلت كتل نيابية مختلفة في تمرير قانون العفو العامّ، إلّا أنّ ذلك لم يدفعها إلى تقديم اقتراحات بديلة تركّز حصراً على تخفيف الاكتظاظ. وإذ قدّم بعض النوّاب اقتراحات في هذا الخصوص، فإنّ رئيس المجلس لم يُبدِ أيّ حماسة لعرضها على نقاش الهيئة العامّة. وبذلك بدت الجهات الداعمة لقانون العفو العامّ، ومنها رئاسة المجلس، كأنّها تتعامل مع جائحة كورونا على أنّها مجرّد حجّة لتمرير قانون عفو عامّ أكثر ممّا هي خطر على حياة السجناء وصحّتهم يفرض التدخّل السريع لتخفيف الاكتظاظ. وهذا ما نتوسّع في عرضه في الكتاب الثاني من هذا التقرير.
وفي الاتّجاه نفسه، استغلّ المجلس أزمة كورونا لتعزيز روابط الزبائنية ومن أبرز الأمثلة على ذلك، إسراع المجلس في تعديل المادّة 32 من قانون موازنة 2020 التي كانت منعتْ أشخاص القانون العامّ من تقديم الهبات، بعد أسابيع من إقرارها. عليه، وبعدما مُنعت هذه الهبات بهدف تعزيز الشفافيّة وحماية المال العامّ، رُفع هذا المنع بحجّة تقديم مساعدات اجتماعية تلبية للحاجات التي فرضتها الجائحة.
يُضاف إلى ذلك أنّ المجلس النيابي استغلّ ضرورة معالجة العجز في الموازنة العامّة لإجراء كمّ من الإعفاءات والتسويات الضريبية، بخاصّة تلك التي ضمّنها في الموازنة العامّة لسنة 2019. وفي حين برّر هذا الاتّجاه بأنّ هذه الإعفاءات تساعد في حثّ المكلَّفين على تسديد المبالغ المستحقّة في ذمّتهم، فإنّ المجلس الدستوري كان قد أوضح في قراره رقم 2/2018 أنّ هذه التسويات إنّما تؤدّي إلى مكافأة المتخلِّفين عن تسديد الضريبة وتشجيع التهرُّب الضريبي، فضلاً عن المسّ بالعدالة الضريبية. وفي الاتّجاه نفسه، ذهب قانون موازنة العام 2020 إلى اعتماد سعر الصرف الرسمي لجباية الضرائب والرسوم الأمر الذي خلق حالة من اللاعدالة الضريبية بين مَن بقيت مداخيله بالليرة اللبنانية وبين مَن يتقاضى مدخوله بالعملات الأجنبية.
2- أزمة شرعيّة البرلمان في ظلّ الحراكات الاجتماعية
لم يسبقْ أن استطاعتْ قوى مجتمعية طوال السنوات الماضية أن تمنع المجلس النيابي من الانعقاد لتمرير مخالفات أو قوانين سيّئة. إلّا أنّ بعد 17 تشرين 2019، تمكّن زخم الحراك الاجتماعي من منع المجلس من الانعقاد في جلستَيْن تشريعيَّتَيْن كانتا حُدِّدتا في 12 و19 تشرين الثاني 2019 ووُضِعتْ على جدول أعمالهما مقترحات تناقض مبادئ المنتفضين، وعلى رأسها قانون العفو العامّ. وإذ أُجِّلت الجلسة الأولى لمدّة أسبوع بسبب “مخاوف أمنية”، فرض المتظاهرون صبيحة موعد الجلسة الثانية طوقاً على جميع مداخل المجلس النيابي منذ ساعات الصباح ما منع وصول النوّاب إليه، ومنع تالياً انعقاد الجلسة، كلّ ذلك وسط إعلان كتل نيابية مقاطعتها الجلسة استجابةً لمطالب الناس.
وعلى وقع الانتفاضة، قدّم نوّاب مستقلّون وكتل نيابية اقتراحات قوانين عدّة إلى المجلس النيابي إثباتاً لتفاعلها الإيجابي مع مطالب الناس، من أبرزها الاقتراحات المقدَّمة لرفع الحصانات الوزارية أو الحصانات عن الموظّفين العامّين أو لتضييق مجال السرّيّة المصرفية. وفور انحسار المظاهرات الشعبية، عبّر نائب رئيس مجلس النوّاب إيلي الفرزلي عن ضيق صدره من هذا التوجّه، الذي وصفه بالشعبوي ويهدف إلى “استرضاء الناس على حساب كرامة المجلس”. وقد سجّل المرصد بشكل خاصّ في هذا الإطار خطاب الفرزلي الذي ألقاه في الجلسة التشريعية في 21 نيسان 2020، لجهة أنّ القوانين المُستمَدّة من خطاب الشعب هي “استرضاء على حساب كرامة المجلس”، ورفض ما أسماه “تزاحماً في تبرئة النفس من دم هذا الصدّيق”. وصرخ بجميع النوّاب وبنبرة حادّة: “اصرخوا ودافعوا عن وجهة نظركم”، وكأنّه يدعوهم إلى التوحّد في وجه الشعب معتبراً أنّ الإسراف في تبرئة الذات هو إسقاط لها، ومؤكّداً أنّه “يؤكل الثور الأبيض يوم يؤكل الثور الأسود” وداعياً إلى التعلّم منه (الفرزلي) كونه “صاحب خبرة” في السلطة السياسية.
وعليه، بدا واضحاً أنّ مجلس النوّاب انحنى بداية أمام عاصفة الحراك الشعبي لينقضّ أعيانُه عليه فور انحساره في خطاب بدا فيه كأنّما النوّاب يستمدّون سلطتهم من أنفسهم وليس من الشعب.
3- ازدواجية البرلمان في مجال المحاسبة: الخطاب شيء والأفعال شيء آخر
خلال هاتين السنتَيْن، برزتْ الشعارات في أوساط البرلمان تؤكّد نيّتَه مكافحة الفساد وإيلاء استقلال القضاء الأولويّة، قبل 17 تشرين 2019 كما بعدها. ويجدر هنا لفت النظر بشكل خاصّ إلى تعهّد رئيس مجلس النوّاب عقدَ جلسات مساءلة شهرية للحكومة في 6 شباط 2019، وإلى مبادرته فوراً بعد انتفاضة 17 تشرين إلى إعلان الأولويّة لإقرار عدد من قوانين مكافحة الفساد أُدرِجَت على جدول أعمال الجلستَيْن التشريعيَّتَيْن في 12 و19 تشرين الثاني 2019.
إلّا أنّه رغم هذا الخطاب ورغم إقرار عدد من القوانين الهامّة لمكافحة الفساد (مثل قانون مكافحة الفساد في القطاع العامّ وقانون الإثراء غير المشروع)، فإنّ واقع الممارسة ذهب غالباً في اتّجاه آخر:
أوّلاً، عقدت الهيئة العامّة للمجلس جلسة يتيمة لممارسة دورها الرقابي في مساءلة الحكومة في نيسان 2019، وهو الأمر الذي يعكس تخلّيها التامّ عن هذا الدور. وقد وجّه خلال هذه الجلسة سبعة نوّاب إلى الحكومة 13 سؤالاً أجابت الحكومة، مُمثَّلةً برئيسها سعد الحريري، بشكل مجتزأ عليها. كما فتح الرئيس برّي المجال للمزيد من الأسئلة المباشِرة المطروحة من قِبل النوّاب ضمن حدود الساعتَيْن المخصَّصتَيْن للمساءلة. وكان من المقرّر أن تُعقد جلسة لمساءلة حكومة حسّان دياب في 13 آب 2020 عقب انفجار المرفأ، إلّا أنّ استقالة الحكومة أطاحت بالجلسة.
ثانياً، تضمّن جدول أعمال الجلستَيْن المقررَّتَيْن في 12 و19 تشرين الثاني 2019 والحاصلتَيْن مباشرة بعد انتفاضة 17 تشرين اقتراحَيْ قانون هما بمثابة نقيض لمكافحة الفساد وهما اقتراح قانون العفو العامّ واقتراح قانون بإنشاء المحكمة المختصّة بالنظر في الجرائم المالية الذي كان سيؤدّي في حال إقراره إلى إنشاء محكمة مُسيَّسة تحت إشراف السلطة السياسية ممثَّلة بالمجلس النيابي.
ثالثاً، رغم الحماسة المعلنة للحدّ من السرّيّة المصرفية انتهت الجلسة التشريعية للنظر في اقتراحات القانون المقدّمة في هذا الخصوص إلى إعادة حصر رفع السرّيّة المصرفية بهيئة التحقيق الخاصّة، بعدما رفض النوّاب منح النيابات العامّة إمكانية رفعها بحجّة أنّ القضاء مُسيَّس وغير مستقلّ. وفي حين بدا من الضروري إجراء تدقيق جنائي على حسابات مصرف لبنان تبعاً للجدل حول حجم الخسائر والهندسات المالية، فإنّ المجلس انتهى إلى قانون يحصر رفع السرّيّة بمدّة زمنية ضيّقة ولحاجات التدقيق فقط، من دون أن يكون من الجائز تجاوز هذه السرّيّة في أيّ ملاحقة قضائية قد تفرضها نتائج التدقيق الجنائي.
رابعاً، امتنع مكتب البرلمان عن وضع أيّ من المقترحات الهادفة إلى تعديل نظامه الداخلي في اتّجاه تعزيز الشفافيّة ومن أبرزها اقتراحات القوانين لجعل جلسات اللجان النيابية علنية.
أخيراً، وفي حين عدّل المجلس النيابي المادّة 419 ليشدّد عقوبة التدخّل لدى القضاة، لا يزال منذ العام 2018 اقتراح قانون استقلاليّة القضاء المُعَدّ من “المفكّرة القانونية” قابعاً لدى لجنة الإدارة والعدل برئاسة النائب جورج عدوان.
4- انحسار العمل البرلماني… بفعل كورونا فقط؟
إثر جائحة الكورونا، نقلت الهيئة العامّة لمجلس النوّاب اجتماعاتها إلى قصر الأونيسكو، بحجّة أنّه يُمكن توفير التباعد الاجتماعي هناك. لم يكن تغيير مكان الانعقاد الأثر الوحيد للجائحة على العمل البرلماني، بل إنّ إنتاجيّة المجلس برمّتها قد انخفضت رغم تفاقم الأزمة واستمرار دورة الانعقاد الاستثنائية للبرلمان بعد استقالة الحكومة في آب 2020. وعليه، تراجع عدد اجتماعات اللجان المعقودة في سنة 2020 بنسبة 30.5% عن سنة 2019. وفي حين شكّل انتشار جائحة كورونا وقرارات الإغلاق العامّ مبرّرات لتخفيض هذه الاجتماعات، يبقى هذا التراجع في الوقت نفسه موضع إدانة في ظلّ أدوار البرلمان الحاسمة في معالجة تداعيات الأزمة التي اشتدّت مظاهرها في 2020، وبخاصّة أنّه كان بإمكان المجلس النيابي إيجاد حلول أو تسهيلات لتجاوز هذه العوائق كتعميم الاجتماعات عن بُعد، إلّا أنّ مكتبه لم يبذلْ أيّ جهد ذي شأن لهذه الغاية. وما يزيد من قابليّة هذا الأمر للانتقاد هو التراجع الواضح في اجتماعات لجنة المال والموازنة، التي انخفضت بنسبة 83.3% عن سنة 2019 رغم دورها المهمّ في إنجاز القوانين الضرورية لمعالجة مفاعيل الأزمة. ولعلّ هذا الانخفاض يجد ما يفسّره في الموقف السلبي الذي أعلنه رئيس اللجنة إبراهيم كنعان، والعديد من أعضائها، ضدّ خطّة التعافي المالية التي أقرّتها حكومة حسّان دياب. كما يُلحَظ التراجع الواضح في اجتماعات لجنة الإدارة والعدل في العام 2020 التي انخفضت بنسبة 19.3% رغم مسؤوليّاتها الأساسية لا سيّما لجهة إنجاز اقتراح قانون استقلاليّة القضاء.
كمّياً أيضاً، يُلحظ بروز انحسار التعاون بين الكتل خلال العام 2020، ففي حين قُدِّم 79% من مجموع الاقتراحات (أي 136 اقتراحاً) من كتلة واحدة (من نائب أو أكثر) في عام 2019، بلغت هذه النسبة 88% (213 اقتراحاً) في عام 2020. وهذا يؤشّر إلى انحسار التعاون بين الكتل ورّبما اتّساع اللاثقة في ما بينها بعد انتفاضة 17 تشرين وحصول الانهيار، ومحاولة الكتل تظهير بعض الانجازات بمفردها والتفاخر بها بعد اهتزاز الثقة الشعبية بهم عقب الانتفاضة، بمعزل عن خواتيمها.