أبعد من قضية المطران الحاج، حين ألغى إميل إدة حصانات رجال الدين

وسام اللحام

22/07/2022

انشر المقال

تطرح مسألة توقيف المطران موسى الحاج نقطة قانونية بالغة الأهمية تتعلق بحصانة رجال الدين الجزائية. فبمعزل عن ملابسات هذه القضية والتحريض الذي رافقها ودون التطرق إلى الظروف التي رافقتها ومدى صوابية المواقف منها، كان من الضروري توضيح مسألة الحصانة الجزائية التي يتمتع بها رجال الدين المسيحيّون، والأساقفة تحديدا لا سيما بعد القرار الذي أصدره قاضي التحقيق الأول العسكري بالانابة فادي صوان بتاريخ 5 أيار 2022 والذي أعلن فيه عدم اختصاص القضاء العسكري بملاحقة المطران الحاج عملا بقوانين الكنائس الشرقية التي تحصر حق محاكمة الأساقفة بالحبر الأعظم. وكانت هذه المسألة قد طُرحت من قبل في معرض قضية منصور لبكي، وتحديدًا تبعًا للقرار الذي أصدره قاضي التحقيق في جبل لبنان بيتر جرمانوس بردّ دعوى مقدمة إليه بشأن الاتهامات الموجهة إلى لبكي بحجة أن جلّ ما تتضمنه يخرج عن صلاحية القضاء الجزائي ويدخل في صلاحية المحاكم الكنسية كل ذلك سندا لقوانين الكنيسة والدستور من دون أي تحديد. وقد وثقت المفكرة القانونية آنذاك أن الهيئة الاتهامية في جبل لبنان عادت وأبطلت هذا القرار.

ان المسألة المطروحة هي بالغة الأهمية كونها تتعلق بسيادة الدولة التشريعية وعلاقة نظامها القضائي بالطوائف الدينية المعترف بها رسميا. لذلك كان لا بد من معالجة هذا الموضوع من الناحية القانونية الصرفة ومن دون الدخول في نفاصيل ملاحقة المطران الحاج والظروف المحيطة بها.

نص القانون 1060 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الذي أصدره قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في 18 تشرين الأول 1990 على التالي: "للحبر الروماني دون سواه الحقّ في محاكمة: 1) البطاركة؛ 2) الأساقفة في الدعاوى الجزائية...".

وهكذا يكرس هذا القانون مبدأ تقليديا دارت حوله نزاعات تاريخية كبرى بين الكنيسة الكاثوليكية والدول الأوروبية عبر قرون طويلة. وقد استند قاضي التحقيق العسكري إلى هذا المبدأ ليعلن عدم صلاحيته للنظر في قضية جزائية تتعلق بأسقف من أساقفة الطوائف الكاثوليكية في لبنان.

ولا شك أن هذا القرار القضائي يؤدي فعليا إلى إعلان سمو التشريعات الطائفية على قوانين الدولة اللبنانية كونه يجعلها نافذة بمجرد صدورها عن السلطة الطائفية المختصة الأمر الذي يتطلب منا معالجة هذه النقطة بغية تبيان مدى صوابيتها على ضوء التشريعات اللبنانية النافذة.

تمتعت الطوائف المسيحية واليهودية خلال السلطنة العثمانية بامتيازات عديدة ارتبطت بنظام الملل الذي كان سائدا حينها. ومن بين تلك الامتيازات الحصانة التي كان يتمتع بها رجال الدين إذ ينقل لنا رستم بن سليم باز في شرحه لقانون أصول المحاكمات الحقوقية العثمانية أن "نظارة العدلية الجليلة" (أي وزارة العدل) أصدرت "تحريرات تتضمن كيفية جلب خدم الدين إلى المحكمة وهذه خلاصتها: "إن الكهنة والرهبان يدعون لأجل دعاوى الحقوق والجنحة أو لأجل الشهادة في دعاوى الجزاء على الإطلاق بواسطة السلطة الدينية التي يرتبطون بها ومهل الحضور تحسب من حين تبليغ أوراق الطلب إلى تلك السلطة"[1].

وإن كان هذا الامتياز العام لا يشرح لنا تفاصيل امتيازات الطوائف في السلطنة العثمانية لكن المؤرخ الشهير "للقانون الماروني" ابراهيم عواد يعطينا لائحة أكثر تفصيلا بحضوص حصانة رجال الدين الموارنة فيكتب أن من بين تلك الامتيازات صلاحية البطريرك الماروني بالتثبّت من الجرم المنسوب إلى الأساقفة وفي حال اقتناعه يحكم بتجريده من ملابسه الكهنوتية ويأمر بتسليمه إلى السلطة الزمنية التي تطبق عليه حينها العقوبات النصوص عليها في القوانين العادية[2].

شهد هذا الواقع تطورا قانونيا مهما في سنة 1930 بعدما أصبح اميل اده رئيسا لمجلس الوزراء في سنة 1929. فقد أراد إميل إده إصلاح المحاكم الدينية عبر تبنّي تشريع حديث يحدّ من صلاحياتها الموروثة من الحقبة العثمانية.

وبالفعل، صدر المرسوم الاشتراعي رقم 6 في 3 شباط 1930 المتعلق بالتنظيم القضائي وقد تضمن أحكاما تتعلق بالأحوال الشخصية للطوائف إذ نصت المادة 33 منه على التالي: " تختص المحكمة البدائية بالنظر في جميع المنازعات التي كانت حتى الآن من اختصاص المحاكم الشرعية أو المذهبية ويستثنى منها المنازعات التي تركت صلاحية النظر فيها بوجه التخصيص لتلك المحاكم بمقتضى هذا المرسوم الاشتراعي". أي أن المواضيع التي لا يحدّدها حصرًا هذا المرسوم الاشتراعي تخرج حكما عن اختصاص المحاكم الشرعية وتصبح من صلاحيات المحاكم العادية بالنسبة للمسيحيّين. وتعدّد المادة 34 المواد التي تدخل في اختصاص الحاكم المسيحية وتحصرها في التالي: الخطبة، عقد الزواج، بطلان الزواج أو فسخه وانحلاله، البنوة، الحضانة، فرض النفقة، الجهاز والبائنة، تعيين الوصي وبعض النقاط المتعلقة بالأوقاف.

وقد أثار هذا المرسوم الاشتراعي اعتراض رجال الدين المسيحيين إذ انه "أصاب كل الإصابة في جنب غير المسيحيين، وأخطأ وقصّر كثيرا في جنب المسيحيين الذين لم يبقَ لهم، وهم الأكثرية، من مواد شرائعهم المذهبية إلا النزر القليل، مضيّقا  صلاحية المحاكم المذهبية المسيحية وموسعا كل التوسيع  صلاحية المحاكم المذهبية المسلمة"[3].

ويعيد رئيس مدرسة القديس بطرس في بسكنتا بطرس حبيقة التذكير بامتيازات الرؤساء الروحيين في عهد الدولة العثمانية فيذكر من بينها التالي: "1) أن لا تُسمع الشكاوى على الإكليريكيين إلا بإذن البطريرك؛ 2) أن يحاكموا في الدعاوي الجزائية أمام البطريرك؛ 3) للبطريرك وحده أن يحاكم الأساقفة؛ 4) في الدعاوى الجزائية يحاكم الإكليريكي إن أسقفا أو كاهنا في المحاكم المدنية بعد أن تنزعه السلطة الدينية من درجته..."[4] 

ويكشف الكاتب نفسه أن بطريرك الروم الكاثوليك كيرلس التاسع المغبغب وجه رسالة إلى رئيس الجمهورية شارل دباس مطالبا اياه بتعديل المرسوم الاشتراعي رقم 6 "لأن فيه مذلة للسلطة المسيحية"[5].

لا بل أكثر من ذلك، ينشر لنا الكاتب أيضا مشروع نظام الأحوال الشخصية الذي كانت قد تقدمت به السلطات الدينية المسيحية للمفوض السامي الفرنسي الجنرال "فيغان" إذ نص في مادته 120 المقترحة على التالي: "يجب أن يُستدعى رجال الإكليروس للمثول أمام قضاة الاستنطاق (أي قاضي التحقيق) وسائر المحاكم بواسطة الرئيس الروحي"[6]، الأمر الذي كان الهدف منه تأكيد الامتيازات التي كانت تتمتع بها الطوائف الدينية خلال الحكم العثماني.

في مطلق الأحوال، لم تدفع معارضة المرجعيات الدينية المسيحية بالسلطة السياسية إلى الرضوخ، بل ظل المرسوم الاشتراعي رقم 6 نافذا مكرسا حق الدولة بتحديد صلاحيات الطوائف في مجال الأحوال الشخصية. فاعتراض المرجعيات الدينية على هذا المرسوم الاشتراعي الذي عبر عنه بشكل قوي الخوراسقف حبيقة يعني بكل بساطة أن حصانة رجال الدين التي كانت قائمة سابقا قد ألغيت عملا بهذا التشريع الجديد الذي حصر صلاحيات السلطات الطائفية في المواضيع التي ذكرناها أعلاه.

بعد الاستقلال، عمدت السلطة السياسية إلى تعزيز صلاحيات الطوائف الدينية. وقد تم ذلك بالنسبة للمسيحيّين مع قانون "تحديد صلاحيات المراجع المذهبية للطوائف المسيحية والطائفة الاسرائيلية" الذي صدر في 2 نيسان 1951 والذي وسع اختصصات هذه الطوائف بشكل كبير محاولا منحها قدر الإمكان الصلاحيات ذاتها العائدة للمحاكم الإسلامية.

وهكذا يتبين لنا أنّ هذا القانون تبنّى اتجاها معاكسا للمرسوم الاشتراعي رقم 6 الصادر عن حكومة إميل إدّه سنة 1930 والذي أدى إلى تقليص صلاحيات المحاكم الروحية. لكن من خلال مراجعتنا لمواد هذا القانون، يتبين لنا أن توسيع صلاحيات الطوائف المسيحية لم يشمل إطلاقا المواضيع الجزائية ما يعني أن الحصانة التي كان يتمتع بها سابقا رجال الدين ما زالت ملغاة.

 وهذا ما يظهر جليا في المادة عشرين من القانون المذكور، إذ بعد تعداد المواد السابقة للمواضيع التي تدخل في اختصاص المراجع المذهبية (الزواج وصحته وفسخه وبالبنوة وشرعية الأولاد والتبني وفرض النفقة والوصاية على القاصر والأوقاف) تنص المادة 20 على التالي: "يعود للمراجع المذهبية وحدها حق رؤية الدعاوى المتعلقة بالعقائد الدينية أو بمنازعات رجال الإكليروس والرهبان والراهبات والحاخامين المتعلقة بحقوق درجاتهم ووظائفهم الدينية وواجباتهم فيها والخلافات التي تتكون فيما بينهم وإنزال العقوبات التي تفرضها القوانين الدينية دون أدنى مساس بحقوق السلطة العامة المعينة بالقوانين المدنية والجزائية".

وهكذا يتبين لنا أن السلطات الدينية مختصة فقط بإنزال العقوبات الدينية من دون أي يكون لها أي اختصاص في المسائل التي تدخل في صلاحيات القضاء الجزائي، ما يعني أن التشريع اللبناني أكد على سمو الدولة في علاقتها مع الطوائف لناحية شمول ولايتها لرجال الدين لناحية العقوبات الجزائية.

لذلك لا يصح إطلاقا الادّعاء بأنّ محاكمة الأساقفة الكاثوليك هي صلاحية من اختصاص الحبر الأعظم وحده دون الدولة كون ذلك يخالف أولا القوانين اللبنانية النافذة ويمسّ من سيادتها التشريعية، وكون ثانيا الاختصاص الجزائي لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يدخل في الأحوال الشخصية للطوائف التي يعترف بها الدستور، لأن ذلك سيؤدي إلى وجود تشريعات جزائية مختلفة يتم تطبيقها في الدولة الواحدة ما يخالف أحكام المادة الثامنة من الدستور اللبناني التي تنصّ أنه لا يمكن "تحديد جرم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى القانون" أي عملا بتشريع يقره مجلس النواب وليس بنص جزائي تصدره السلطات الدينية.

 وهذا ما أكّدته الهيئة العامة لمحكمة التمييز بقولها "أن صلاحية القضاء بين الأفراد تعود أساسا للقضاء العدلي وأن التكليف الذي أعطاه المشترع بموجب قانون 2 نيسان 1952 للقضاء المذهي هو بمثابة تنازل من قبل الدولة عن بعض صلاحياتها، فيجب فهم هذا التنازل بشكل حصري وضيق" (قرار رقم 8 تاريخ 23/1/1998). زبدة هذا القرار أنه لا يمكن إطلاقا التوسع في تفسير صلاحيات الطوائف لجهة توسيع اختصاصها ليشمل أيضا حصانة رجال الدين الجزائية كون ذلك يشكل مخالفة واضحة للطبيعة الاستثنائية للقوانين الطائفية.


[1]  سليم بن رستم باز اللبناني، شرح قانون المحاكمات الحقوقية الموقت، المطبعة الأدبية، بيروت، 1895، ص. 52.

[2]  « Le patriarche peut faire arrêter les évêques en cas de besoin. Dans le cas où un crime  commis par un évêque a été constaté par le Patriarcat, le patriarche dégrade l’évêque coupable et le livre alors dépouillé de l’habit sacerdotal au juge séculier qui lui inflige les peines de droit commun. » (Ibrahim Aouad, Le droit privé des maronites, Librairie Orientale Paul Guenther, Paris, 1933, p. 26).    

[3]  الخورأسقف بطرس حبيقة، الأحوال الشخصية في الجمهورية اللبنانية، بحث قانوني تاريخي مذهبي اجتماعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1931، ص. 19.

[4]  المرجع السابق، ص. 14.

[5]  المرجع السابق، ص. 23.

[6]  الخورأسقف بطرس حبيقة، الأحوال الشخصية في الجمهورية اللبنانية، الجزء الثاني، رد على نقد، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1931، ص.50.