أخطاءٌ مُزمنة في أصول انتخاب رئيس الجمهورية: والنتيجة فيتوات متبادلة وتعطيل
26/08/2022
مع قرب انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، ينطلق مجدّدًا النقاش حول أصول انتخاب خليفة له، من دون أن تجد بعض القوى السياسية حرجًا في استخدام فزّاعة الفيتوات والتعطيل لمنع وصول مرشّح لا تريده، ومعها فزاعة الفراغ المؤسساتي الذي ما لبث يتوسع ويتمدد، في اتّجاه نسف ما تبقّى من مقوّمات الدّولة أو من احتمالات نهوضها. بهذه المناسبة، ننشر مطالعة بالغة الأهمية للباحث الدستوري وسام اللحام تصحيحًا لمغالطات مزمنة ومدمرة في مقاربة هذه الأصول وتفسير الدستور، آملين أن تجد هذه المطالعة الحيّز الذي تستحقّه في النقاش العامّ وبخاصة في خطاب القوى الممثلة في المجلس النيابي (المحرر).
في كل مرة يحين فيها موعد انتخابات رئاسة الجمهورية تُثار نفس الإشكاليات حول الغالبية المطلوبة من أجل انتخاب الرئيس الجديد ومسألة النصاب الضروري لجلسة الانتخاب هذه. وينحصر الخلاف في نقطة هي ظاهريًا بسيطة تتعلق بتفسير المادة 49 من الدستور التي تنص على التالي: "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي". فهل يجب أن يُنتخب في الدورة الأولى رئيس الجمهورية بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء مجلس النواب المكون اليوم من 128 عضوا (أي 86 نائبا) أم انه ينتخب بغالبية الثلثين من الحضور فقط، أي النواب الذين يشاركون في الجلسة فعليا بغض النظر عن العدد القانوني للنواب؟
وإذا كانت هذه الإشكالية لم تبرز بوضوح خلال الانتداب الفرنسي والفترة الأولى من الاستقلال كون النواب كانوا يشاركون دائمًا بغالبيتهم الساحقة في جلسة الانتخاب، ما يعني أنّ طريقة احتساب الغالبية لم تكن تطرح نظرًا لعدم إثارتها أي مشكلة تطبيقية. لكن هذا الواقع سيتبدل خلال سنوات الحرب مع تفاقم الانقسام السياسي واستخدام مسألة الغالبية والنصاب كوسيلة ضغط بين مختلف الأطراف المتحاربة لتحقيق مصالحهم السياسية.
وقد استقرّت الممارسة منذ هذه الفترة على أنّ رئيس الجمهورية يُنتخب بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء مجلس النواب وأنه ثمة ضرورة تاليًا في توفير نصاب يتألف من الغاليبة ذاتها من أجل عقد جلسة الانتخاب. وهذا ما حصل خلال انتخاب الياس سركيس في سنة 1976 عندما انتظر مجلس النواب لأكثر من ساعتين كي يتأمن هذا النصاب (67 نائبا من أصل 99) من أجل الشروع في انتخاب رئيس الجمهورية. وقد تكرر هذا الأمر أيضا ضمن أجواء أكثر حدّة في سنة 1982 عند انتخاب بشير الجميل بحيث انتظر مجلس النواب مجددا لأكثر من ساعتين بغية تأمين نصاب الثلثين المذكور. هذا علما أنّ الياس سركيس فاز من الدورة الثانية كونه نال فقط 63 صوتا من أصل 99 في الدورة الأولى أي ما دون غالبية الثلثين التي تم احتسابها انطلاقا من مجموع أعضاء مجلس النواب. وكذلك الأمر بالنسبة لبشير الجميل الذي نال في الدورة الأولى 58 صوتا فقط ليفوز في الدورة الثانية بحصوله على 57 صوتا أي أكثر من الغالبية المطلقة التي إحتسبت أيضا انطلاقا من مجموع أعضاء مجلس النواب.
وقد تأكّد هذا الأمر في الماضي القريب مع انتخاب كلّ من ميشال سليمان سنة 2008 وميشال عون سنة 2016 بعد فترة من الفراغ الرئاسي بسبب عدم تأمين نصاب الثلثين كي تعقد الجلسة. وفي حين فاز ميشال سليمان من الدورة الأولى، لم يتمكن ميشال عون من الفوز إلا في الدورة الثانية كونه نال 84 صوتا فقط في الدورة الأولى أي أقلّ من غالبية الثلثين التي احتسبت على أساس العدد القانوني للنواب أي 86 نائبا من أصل 128 كما مرّ معنا، بينما نال 83 صوتا في الدورة الثانية أي أكثر من الغالبية المطلقة من مجموع أعضاء مجلس النواب (65 صوتا).
وقد أضيفت في السنوات الأخيرة إشكالية جديدة باتت تتكرّر باستمرار وهي تتعلق بجواز التشريع عندما تبدأ المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية، إذ بات هذا الموضوع يثير جدلًا دستوريًا وفقًا للأهواء السياسية للجهات التي تسيطر على مجلس النواب.
سيعالج هذا المقال تلك الإشكاليات وسيعمد إلى تفكيكها محاولا تقديم تحليل جديد لا سيما في مسألة كيفية انتخاب رئيس الجمهورية. فالمواقف حول هذه القضية باتتْ معروفة، والآراء الدستورية باتت تتكرر باستمرار من دون أيّة إضافة حقيقية. لذلك يطمح هذا المقال إلى إعادة إطلاق النقاش بعيدا عن التشويش السياسي الذي يهيمن على الفضاء العام في لبنان بسبب تحكّم أحزاب السّلطة بمفاصل الحياة الدستورية لعشرات السنوات.
أولا: تجربة الجمهورية الفرنسية الثالثة وانعكاساتها اللبنانية في زمن الانتداب
لا بدّ لنا من أجل فهم النص الأصلي للمادة 49 من الدستور كما وُضعت في سنة 1926 من العودة إلى الجمهورية الثالثة الفرنسية (1875-1940) التي أخذ لبنان عنها خلال الانتداب ليس فقط دستوره بل نظامه القانوني برمته. فقد نصّت المادة 49 في أول صيغة لها على التالي:
"ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجموع أصوات (suffrages) الشيوخ والنواب ملتئمين في مجمع نيابي ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي".
فعندما كان البرلمان يتألّف من مجلس للشيوخ ومجلس النواب، كان يتوجب أن يجتمع الشيوخ والنواب سويّا في مجمّع انتخابي من أجل انتخاب رئيس الجمهورية. ونصّ المادة واضح إذ هو يقول ينتخب رئيس الجمهورية بغالبية الثلثين من "أصوات الشيوخ والنواب" وليس من مجموع أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس النواب كما يرد في مواد أخرى.
ويجد هذا النص مصدره في المادة الثانية من القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 25 شباط 1875 التي تعلن التالي:
« Le Président de la République est élu à la majorité absolue des suffrages par le Sénat et par la Chambre des députés réunis en Assemblée nationale ».
من الملاحظ أن الغالبيّة المطلوبة في النص الفرنسي لانتخاب رئيس الجمهورية هي الغالبية المطلقة من الأصوات بينما في لبنان هي غالبين الثلثين. لا بل أن النصّ اللبناني بترجمته العربية أكثر وضوحا كونه يقول أن الانتخاب يتمّ من قبل الشيوخ والنواب الملتئمين سويّا في جلسة مشتركة بينما النص الفرنسيّ يقول ان الانتخاب يتمّ من قبل مجلسيْ الشيوخ والنواب ملتئمين في جمعية وطنية. فالمادة 49 القديمة من الدستور اللبناني كانت تتكلم بصراحة عن أصوات الشيوخ والنواب وليس أصوات مجلسيْ الشيوخ والنواب، الأمر الذي قد يثير التباسًا إذ هل تحتسب الغالبية المطلقة المطلوبة في فرنسا انطلاقا من مجموع أعضاء الجمعية الوطنية، أي فعليا الغالبية المطلقة من مجموع أعضاء مجلسيْ الشيوخ النواب، أم يتمّ الاكتفاء بغالبية أصوات الشيوخ والنواب الذين شاركوا في الجلسة؟
لكن هذه الإشكالية سرعان ما تتبدّد في الحقيقة لأنّ النص الفرنسي يقول أن الانتخاب يتمّ انطلاقا من الأصوات (suffrages) وهو النصّ المتبع دائما في فرنسا من أجل احتساب الغالبية ليس من مجموع أعضاء المجلس بل من الذي صوّتوا فعليا وفقا لما يشرحه العلامة أوجين بيار[1] مع عدم أخذ الأوراق البيضاء والملغاة بعين الاعتبار.
وكان تطبيق هذا النص واضحا، ففي انتخابات رئاسة الجمهورية الفرنسية التي حصلت في 13 حزيران 1924، وهو الموعد الأقرب لتبني الدستور اللبناني في أيار 1926، نقرأ في المحضر الرسمي لجلسة الانتخاب التالي:
"عدد المقترعين: 860
عدد الأوراق البيضاء أو الملغاة: 7
عدد الأصوات المعبر عنها (suffrages exprimés): 853
الغالبية المطلقة: 427".
فمن أصل جمعية وطنية تتألف من 895 عضوا (314 شيخا و581 نائبا) احتسبت الغالبية المطلقة انطلاقا من عدد الذين صوتوا فعليا (أي 853) دون المتغيبين أو الأوراق البيضاء والملغاة. إذ انه لو كان من المفترض احتساب الغالبية المطلقة من مجموع أعضاء الجمعية الوطنية لكانت تلك الغالبية ثابتة دائما على رقم 448 ولا تتأثر بالغائبين أو الأوراق البيضاء والملغاة. وقد فاز "غاستون دوميرغ" من الدورة الأولى بحصوله على 515 صوتًا أي أكثر من 427 صوتًا التي تشكّل الغالبية المطلقة المطلوبة من أصوات المقترعين.
وعندما تمّ إلغاء مجلس الشيوخ في لبنان في سنة 1927، جرى تعديل المادة 49 التي باتت تنصّ على التالي: "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجموع أصوات مجلس النواب ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي". فهذا النصّ الجديد يكرّر مجدّدا أنّ الانتخاب يتمّ انطلاقا من الأصوات وليس من مجموع أعضاء مجلس النواب.
لكن الالتباس سيحصل فعليّا مع تعديل الدستور في سنة 1929 عندما تمّ جعل ولاية رئيس الجمهورية ست سنوات وليس ثلاث سنوات فقط كما كان في سنة 1926. فقد تمّ تعديل المادة 49 التي هدفتْ فقط إلى زيادة ولاية رئيس الجمهورية لكن النصّ العربي بات على الشكل التالي: "ينتخب رئيس لجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي"، بينما استمرّ النص الفرنسي باعتماد الصيغة القديمة أي أن الرئيس يُنتخب بغالبية الثلثين من أصوات مجلس النواب.
وهكذا بات النصّ العربي مثيرًا للالتباس كونه يكتفي بالإشارة إلى انتخاب رئيس الجمهورية من مجلس النواب. فهل عبارة "مجلس النواب" هنا يجب أن تُفهم كما في السابق أي أصوات النواب الذين شاركوا بالجلسة، أو أنّ النص بات يحتمل تفسيرًا مغايرًا ينطلق من مجموع أعضاء مجلس النواب؟
والذي يزيد الأمر غموضًا هو غياب أي نقاش في محضر جلسة التعديل يشرح لنا معنى هذا الاختلاف الذي طرأ على النص. فهل يُعقل أن تعديلا بهذه الأهمية يؤدّي إلى اختلاف في طريقة انتخاب رئيس الجمهورية لم يثِر اهتمام النواب ولم تشرحه الحكومة عندما أعدّت مشروع التعديل ليس فقط في الأسباب الموجبة لكن أيضا خلال المناقشة أمام البرلمان.
وبالحقيقة، إنّ فهم هذا التعديل يتطلّب منّا مُراجعة النظام الداخلي لمجلس النواب الذي أُقرّ في سنة 1930 من قبل مجلس النواب ذاته، أي بعد سنة واحدة فقط من تبنّيه لتعديلات 1929. فقد نصّ النظام الداخلي في مادته الخامسة على الآتي: "تُعتبر الأوراق الانتخابية الخالية من الأسماء والممضاة من واضعيها أو الحاوية إشارة معينة ملغاة. إنّ الاعضاء الممتنعين عن الاشتراك في التصويت لا يدخلون في حساب الأكثرية وكذلك الأوراق الخالية من الأسماء والمشار إليها في الفقرة الأولى تحسب مُلغاة ويكتفي بعدد الأوراق المقبولة في حساب الأكثرية".
فهذه المادة هي بكل بساطة تطبيق حرفيّ للتجربة الفرنسية. إذ عندما يكون الموضوع يتعلق بإجراء انتخابات، تحتسب الغالبية وفقا للأصوات الفعليّة دون المُمتنعين أو الأوراق البيضاء أو الملغاة، ما يعني أن غالبية الثلثين في الدورة الأولى ليست ثابتة ولا هي تحتسب بالتالي انطلاقا من العدد القانوني للنواب لكن فقط من عدد النواب الذين أدلوا بصوت صحيح خلال جلسة الانتخاب. فهل يعقل أن النواب الذين تبنّوا النصّ العربي بصيغته الحالية في سنة 1929 والذين أدركوا أنّهم يريدون جعل انتخاب رئيس الجمهورية يُحتسب على اساس العدد القانوني من النواب، عبر تعديل لم يشرحه أحد لا من قريب أو بعيد، هم نفسم من تبنّى في سنة 1930 هذا النص في النظام الداخلي الذي يخالف مباشرة نيتهم المفترضة سنة 1929؟
إن المادة الخامسة من النظام الداخلي الصار في 1930 تجزم بأنّ ما حدث سنة 1929 لم يكن يقصد منه إدخال أي تعديل في طريقة انتخاب رئيس الجمهورية لا بل أن كلمة "أصوات" سقطتْ سهوًا وهي ظلّتْ موجودةً في النص الفرنسيّ لهذه المادة المعدلة. لا بل أنّ الترجمة الانجليزية للدستور التي تمّ توزيعها على أعضاء مجلس عصبة الأمم بتاريخ 26 آب 1930 وفقًا لمراسلة رسميّة أبلغتْها الحكومة الفرنسية إلى أمين عامّ العصبة بتاريخ 11 حزيران 1930 أوردتْ النص التالي للمادة 49:
“The Chamber of Deputies shall elect the President of the Republic by secret ballot and by a two-thirds majority of the votes”
وهكذا يعيد النص الانجليزي التأكيد على النقطة ذاتها، أي أن رئيس الجمهورية ينتخب بغالبية الثلثين من أصوات مجلس النواب.
كررت المادة الرابعة من النظام الداخلي الذي أقرّ في سنة 1953 المبدأ الذي نصّ عليه نظام 1930 فنصت على التالي: "لا تدخل الأوراق البيضاء أو الملغاة في حساب الأكثرية". وهو النص الذي ورثه النظام الداخلي الحالي المقرّ في سنة 1994 في المادة 12 منه عندما أعلنت التالي: "لا تدخل في حساب الأغلبية في أيّ انتخاب يجريه المجلس الأوراق البيضاء أو الملغاة".
فهذه المادة التي تجد أصلها في النظام الداخلي لسنة 1930 الذي بدوره يستند إلى التجربة الفرنسية خلال الجمهورية الثالثة هي في حقيقة الأمر نصّ تمّ نسيانه مع الوقت، الأمر الذي ظهر جليًّا عندما لم يتمكّن النواب خلال جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب في 31 أيار المنصرم من فهمها بهدف تطبيقها.
ثانيا: القاعدة العامّة نجدها في المادة 79 القديمة
في حال وضعْنا جانبًا كلّ النقاط التي عالجْناها في القسم الأول من هذا البحث، فلنحاول مجدّدا فهم طريقة انتخاب رئيس الجمهورية انطلاقا من نصّ الدستور كما تمّ وضعه في سنة 1926.
عندما كان البرلمان يتألف من مجلسين للشيوخ والنواب كان تعديل الدستور يتطلّب، كما في فرنسا حينها، اجتماع الشيوخ والنواب في جلسة مُشتركة تُعرف بالمجمّع النيابيّ (Congrès). فتعديل الدستور كما انتخاب رئيس الجمهورية يحتاج إلى التئام المجمّع النيابيّ، وهو الأمر الذي تم عند انتخاب شارل دباس كأول رئيس للجمهورية في أيار 1926 وكذلك عندما تمّ تعديل الدستور أوّل مرة في سنة 1927. فما هي شروط عقد جلسة للمجمّع النيابي، إذ لا يعقل أن هكذا اجتماعًا يتمّ من دون وجود أحكام دستورية ترعاه؟
وبالفعل، نصّت المادة 79 من الدستور في صيغتها الأولى على التالي: " لا يكون التئام المجمّع النيابي قانونياً ما لم تجتمع فيه الغالبية المطلقة من كل من المجلسين وتصدر قراراته بثلثي أصوات الحاضرين من الأعضاء إلا في ما استثنته المادة التاسعة والأربعون والمادة السابعة والسبعون"·
تعتبر هذه المادة في الحقيقة المفتاح الذي يسمح لنا بفهم غاية النصوص الدستورية المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية. فهي تنص أنّ نصاب المجمّع النيابي هو الغالبيّة المطلقة من المجلسيْن أي من مجموع العدد القانوني للشيوخ والنواب بينما تتخذ قراراته بغالبية ثلثيْ أصوات الحاضرين. وهذا النص واضح فهو يعتبر أن غالبية الثلثين تحتسب فقط انطلاقا من الشيوخ والنواب الذين حضروا الجلسة وهذا الأمر منطقيّ كون نصاب المجمع النيابي هو الغالبية المطلقة من عدد الأعضاء القانوني بينما اتخاذ القرارات يتمّ بغالبية الحضور.
لكن المادة 79 القديمة تستثني المادة 49 والمادة 77 لكن هذا الاستثناء يشمل فقط القسم الثاني من المادة المتعلق بكيفية اتخاذ القرارات وليس قسمها الأول المتعلق بالنصاب، وهذا ما يظهر بوضوح في النص الفرنسي الذي جاء على الشكل التالي:
« Le Congrès ne peut valablement se constituer que lorsque la majorité absolue des membres de chaque Chambre se trouve réunie. Les résolutions sont prises à la majorité absolue des voix sauf l’exception prévue aux articles 49 et 77 ».
ففي حين أنّ المادة بنصها العربي هي جملة واحدة، نلاحظ أنّ النص الفرنسي يتألّف من جملتيْن بحيث توجد نقطة تنهي الجملة الأولى المتعلقة بالنصاب، ما يعني أن الاستثناء الوارد في الجملة الثانية يعود حصرا لمسألة كيفية اتخاذ القرارات ولا يشمل نصاب المجمع النيابي الذي يحتسب على أساس الغالبية المطلقة من مجموع الشيوخ والنواب. فالنصاب المطبّق من أجل انتخاب رئيس الجمهوريّة في المجمع النيابيّ حدّدته المادة 79 بالغالبية المطلقة فقط ولا يمكن بالتالي أن ينتخب رئيس الجمهورية بغالبية الثلثين من مجموع الشيوخ والنواب.
لكن المادة 77 التي استثنتْها المادة 79 جاءتْ كي تخالف مسألة النّصاب أيضًا بطريقةٍ واضحةٍ جدًّا لكن غير مباشرة. فقد نصّت على الآتي: "عندما يتّفق المجلسان على الموادّ المُراد تنقيحُها يلتئمان في مجمع نيابي للتناقش في التعديلات المقترح إجراؤها ولا تعتبر مقرراته قانونية إلا بعد أن يوافق عليها واحد وثلاثون عضواً".
فهذه المادة المتعلقة بتعديل الدستور تعلن أنّ المجمّع النيابي الذي يتوجّب عليه إقرار التعديلات الدستورية يجب أن يوصت بغالبية 31 صوتا. فإذا عرفْنا أنّه في سنة 1926 كان مجلس النواب يتألّف من 30 عضوًا بينما مجلس الشيوخ كان يضمّ 16 شيخًا أدركنا أنّ المُجمّع النيابي كان يتكوّن من 46 عضوًا وأنّ غالبية الثلثيْن من هذا العدد هي 31. لذلك تكون المادة 77 نصّت على عددٍ محدّدٍ لتعديل الدستور لا يقبل أيّ شكل من أشكال الاجتهاد لأنّه ليس عددًا يحتسب وفقا لنسبة تتبدّل مع عدد الأعضاء كالربع والثلث والنصف والثلثين.
بينما الأمر يختلف مع المادة 49 القديمة التي تستثنيها أيضا المادة 79 التي نصت على التالي: "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجموع أصوات الشيوخ والنواب ملتئمين في مجمع نيابي ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي". فالاستثناء الذي تشير اليه المادة 79 هنا لا يتعلق بالنصاب وهو لا يمكن أن يكون أصلا لأن المادة 49 تتكلم فقط عن الأصوات. ولا يمكن أن يكون هذا الاستثناء يشير إلى غابية الثلثين من الأصوات في الدورة الأولى كون المادة 79 أيضا تنصّ على أنّ قرارات المجمّع النيابيّ تحتاج إلى ثلثيْ أصوات الحاضرين، أي الغالبيّة نفسها. الاستثناء يُشير بالحقيقة إلى الغالبية المطلوبة في الدورة الثانية وهي الغالبية المطلقة من الأصوات التي تعتبر أقلّ من غالبية الثلثين من الأصوات المطلوبة في الدورة الأولى.
وهكذا يظهر لنا أنّ المادة 49 كما تم فهمها سنة 1926 وكما شرحناه انطلاقا من المادة 79 تفرض انتخاب رئيس الجمهورية انطلاقا من عدد الأصوات وليس مجموع الأعضاء لا بل أن النصاب حدّدته المادة 79 بالغالبية المطلقة ما يعني أن رئيس الجمهورية لا يمكن أن ينتخب بغالبية الثلثين من مجموع الأعضاء بل من أصوات الحاضرين.
ثالثا: في مناقشة رأي إدمون رباط
إن كل الحجج التي تقول بأنّ انتخاب رئيس الجمهورية يتمّ بغالبية الثلثيْن من مجموع أعضاء مجلس النواب تعود كلها تقريبا إلى رأي إدمون رباط الذي دافع عن هذه الفكرة سنة 1970. ويستند رباط في موقفه هذا إلى مجموعةٍ من الحجج نردّ عليها باقتضاب في الفقرات اللاحقة.
يقول رباط أن "اللغة العربية أصبحت لغة لبنان الرسمية الوحيدة فيكون النص العربي للمادة 49 النصّ المعوّل عليه وحده دون النصّ الفرنسيّ الذي أصبح لاغيًا"[2]. والمقصود هنا أنّ النص الفرنسي الذي يذكر انّ الانتخاب يتمّ انطلاقًا من الأصوات لا يعتدّ به اليوم بل يجب الاكتفاء بالنص العربيّ الذي يقول بانتخاب رئيس الجمهورية من مجلس النواب.
ولا شكّ أنّ هذه الحجة ضعيفة كونها لا تغيّر شيئًا طالما أنّ الهدف من تفسير النصّ هي معرفة نيّة المشترع التي كانت سائدة في سنة 1926. فاعتماد النصّ العربي فقط لا يغيّر نية المشترع الددستوري التي كانت سائدةً عندما تمّ تبنّي النصّ مع تعديلاته اللاحقة هذا فضلا عن أن حتى النصّ العربيّ غير واضح كون اعتبار المادة 49 من الدستور أن رئيس الجمهورية تنتخب بغالبية الثلثين من مجلس النواب يحتاح إلى تأويل: فهل يعني "مجلس النواب" كلّ أعضاء المجلس أم مجلس النواب الملتئم في جلسة الانتخاب أي من الأعضاء الذين يشاركون فقط في الجلسة؟ لا بل أنّ رباط يرتكب خطأً إذ يقول انّ هذا النصّ العربيّ قائمٌ منذ تعديل 1927 والصواب كما مرّ معنا أنّ هذا النص العربيّ بصيغته الحاليّة اعتُمد في سنة 1929.
يقول رباط أن المادة 75 من الدستور تعتبر "أنّ المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابيّة لا هيئة اشتراعيّة ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر"، ما يدفعه إلى الاستنتاج أن مجلس النواب الذي ينتخب رئيس الجمهورية لا يجب أن تطبّق عليه المادة 34 من الدستور التي تقول أن نصاب المجلس هو الغالبية المطلقة من أعضائه لأن ذلك يخصّ فقط الجلسات التشريعية وليس الجلسلت الانتخابية. وهذا أيضا استنتاج لا يمكن التسليم به لأنّ الدستور عندما أراد النصّ على نصاب خاص أو غالبية تصويت خاصّة أشار إلى ذلك صراحة هذا فضلًا على أنّ الجلسات الانتخابية وفقا للتجربة الفرنسية التي شرحناها تكون أكثر تساهلا في كيفية احتساب الغالبية بينما تتشدد في المواضيع التي تتعلق مثلا بتعديل الدستور أو اتّهام رئيس الجمهورية.
ويعتبر رباط في النهاية أنّ المصلحة الوطنيّة تفرض انتخاب رئيس الجمهورية بغالبيّة كبيرة، إذ لا يعقل أن ينتخب الرئيس بنصاب عادي وأن يكون بالتالي ممثلا لأقلية من الشعب[3]. وهذا أيضا رأي، بغضّ النظر عن صوابيّته، لا يستند إلى أي حجة قانونية فعلية بل هو عبارة عن حكم قيمي يعتبر أنه من الأفضل انتخاب رئيسي الجمهورية بغالبية كبيرة بدل غالبية متواضعة. وحتى هذه المفاضلة لا يمكن التسليم بها اليوم بعدما تبيّن أن مسألة غالبية الثلثيْن المفروضة (كنصاب وغالبية تصويت في الدورة الأولى) باتتْ الوسيلة الأنجع لتعطيل انتخاب رئاسة الجمهورية وفقًا لمصالح الأحزاب السياسية المسيطرة على مجلس النواب، وما يرافق ذلك من خللٍ في عمل المؤسسات، وتراجعٍ كبيرٍ في الحياة الطبيعية للدولة على كافة المستويات.
ورباط نفسه يبرّر تفسيره بضرورة الحفاظ على المصلحة الوطنية من خلال احتكامه إلى ما يطلق عليه التفسير العلمي للنصّ الذي يعتبر أن الغاية من القانون هي خدمة المجتمع وتذليل التناقضات فيه، لأن القانون هي مؤسّسة اجتماعية من أجل تلبية حاجات المجتمع وبالتالي يتوجّب الابتعاد عن التفسير الشكلي الحرفي للنصوص وفقا للطريقة التي كانت سائدة قديمًا. وقد استشهد رباط بالكاتب الفرنسي الشهير "جيني" الذي ابتكر هذه الطريقة العلمية الجديدة في التفسير من أجل دعم موقفه بخصوص الغالبية المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهورية.
لكن هذه الحجة التي تتحرّر من النص يمكن توجيهها اليوم ضد تفسير رباط نفسه، كون مصلحة المجتمتع باتتْ بأمسّ الحاجة إلى تأمين العمل المنتظم لمؤسسات الدولة من دون لعبة التعطيل التي امتهنتها القوى السياسية خلال السنوات الماضية ونتائجها الكارثية اليوم التي لا تحتاج إلى برهان.
ومن دون الدخول في تفاصيل فكر "جيني"، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ رباط لم يفهمْ حقيقةً نظريّة هذا الأخير بل هو اختزلها بشكل سريع. فجيني يتبنّى مسلمات مدرسة التفسير التقليدية إذ يقول ان المفسّر يجب أن يعود إلى النصّ القانونيّ وعليه معرفة نيّة المشترع ودراسة الأعمال التمهيديّة ونقاشات النواب من أجل تحديد إرادة المشترع[4]. فجيني لم يقلْ فقط بالتحرّر من النص من أجل تفسيره وفقا لحاجات المجتمع بل هو قال أنّه في حال كان النصّ يفتقر إلى الوضوح ولا يمكن معرفة نيّة المشترع التاريخية حين تمّ تبنيه كون هذه النية لا تستطيع أن تشمل وقائع الحياة بمجملها التي لا يمكن للنص أن يشملها لحظة اقراره. عندها فقط، يجب البحث عن الحلّ ليس عبر اتباع الوسائل التقليدية للتفسير (القياس ومقارنة النصوص من الناحيتين اللغوية والمنطقية) بل عبر البحث خارج المصادر الشكلية للقانون أي عبر العودة إلى واقع الحياة والظواهر الاجتماعية التي تتألف منها.
وبما أن نية المشترع كانت واضحة وفقًا لما أسهبْنا في شرحه أعلاه لا سيما في النظام الداخلي لسنة 1930 والمادة 79 القديمة من الدستور، هذا فضلا عن التجربة الفرنسية التي استلهم منها لبنان تلك القواعد في الظرف التاريخي الذي كان سائدًا حينها خلال الانتداب الفرنسي، فإنّ استشهاد رباط بفكر "جيني" هو دليل عليه وليس معه، لأن إرادة المشترع كانت واضحة والالتباس الوحيد يعود لتعديل 1929 الذي نجد تفسيرًا منطقيًا ووافيًا لتمريره من دون مناقشة في النظام الداخلي للمجلس النيابي في 1930.
رابعا: التشريع خلال المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية
مسألة جديدة يتمّ طرحها عند خلو سدّة الرئاسة تتعلق بجواز ممارسة مجلس النواب لصلاحياته التشريعية في ظلّ شغور رئاسة الجمهورية. فقد انقسمتْ الأحزاب السياسية وفقًا لمصالحها بين من يعتبر أنّ مجلس النواب يحتفظ يصلاحياته التشريعية ومن يعتبر أن ذلك لا يجوز كون مجلس النواب يصبح بحكم الدستور هيئة انتخابيّة وبالتالي يتوجب عليه الشروع فورًا بانتخاب رئيس الدولة من دون الاهتمام بأي موضوع آخر.
فمع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية اميل لحود في تشرين الثاني 2007، لم يعقد مجلس النواب أي جلسة تشريعية حتى تمّ انتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية في أيار 2008. وقد أُثير الموضوع مجدّدا مع انتهاء ولاية ميشال سليمان في سنة 2014 من دون انتخاب خلفٍ له ضمن المهلة الدستوريّة ما أدى إلى حصول فراغ رئاسيّ طويل استمرّ حتى 31 تشرين الأول 2016 مع انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية.
لكن القوى السياسية، رغم تضارب مواقفها حول هذا الموضوع، توافقت على عقد جلسة تشريعية في 5 تشرين الثاني 2014 أقرّت خلالها قانون التمديد لمجلس النواب كي تستمرّ ولايته حتى 2017 إضافة إلى قوانين أخرى. وقد حاول البعض تبرير هذه الجلسة بتشريع الضرورة منعًا لنهاية ولاية مجلس النواب القريبة دون إجراء انتخابات نيابية. علما أن النائب نقولا فتوش الذ ي تبرّع بإقتراح قانون التمديد مرفقًا إياه بدراسة قانونية دفاعا عن هكذا خطوة رفض نظرية تشريع الضرورة قائلًا: "هل المجلس عندما يجتمع يشرّع فقط تحت وطأة الضرورة؟ بالله عليكم، أوجدوا لي نصًّا في الدستور يتكلم عن التشريع الضروريّ" ويضيف "أريد أن أقول فقط إنّ حق التشريع هو حق من حقوق السيادة (...). فله الحقّ أن يُشرع بكل شيء في أي ظرف ومكان. إذاً أي حديث عن تشريع الضرورة، فهو غير كاف".
وهكذا سيغيب مجلس النواب لأكثر من عامّ كي يجتمع بتاريخ 12 تشرين الثاني 2015 في جلسة تشريعية كي يقرّ مجموعةً متنوعةً من القوانين من بينها قوانين مكافحة تبييض الأموال التي التزم عبرها لبنان أن يجعل تشريعاته متلائمة مع التشريعات الأميركية في هذا المجال. وقد تكرّر الكلام خلال هذه الجلسة بأنّ الأولوية يجب أن تكون لانتخاب رئيس الجمهورية وليس للتشريع إلا اذا كان التشريع يهدف إلى إعادة تكوين السلطة (تبنّي قانون انتخابات جديد) أو للضرورة.
ويستند الذين يدافعون عن فكرة عدم جواز التشريع خلال الفراغ الرئاسي إلى المادة 75 من الدستور المعطوفة على المادة 74 منه إذ تنص هذه الأخير على التالي: "إذا خلتْ سدّة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون"، بينما تنص المادة 75 على التالي: "إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يُعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر".
وفقا لهذا الرأي، عند خلوّ رئاسة الجمهورية، يجب على المجلس أن يجتمع فورًا ويتحوّل حينها إلى هيئة انتخابية فقط لا يحقّ لها التشريع. ولا شكّ أن هذا التفسير هو تأويلٌ مبالغُ فيه يتسرّع جدا في الوصول إلى استنتاجات لم يلحظْها النصّ أو لم يتخيّلها حتى.
فكما هو متوقع، تجد المادة 74 مصدرها في القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 25 شباط 1875 خلال الجمهورية الثالثة لا سيما المادة السابعة منه[5]. بينما لا يوجد مثيل للمادة 75 في القوانين الدستورية الفرنسية للجمهورية الثالثة لكن نجدها في مراجع الفقه الدستوري التي كانت متداولة حينها. فها هو "أوجين بيار" في تعليقه على المادة السابعة يقول:
« Il doit être procédé immédiatement au vote. L’Assemblée Nationale est en ce cas un simple collège électoral qui ne peut se livrer à aucun débat »[6].
ويكرر الأمر نفسه "موريس هوريو" الذي يقول أن الجمعية الوطنية (الاجتماع المشترك لمجلسي الشيوخ والنواب) الملتئمة لانتخاب رئيس الجمهورية لا يحقّ لها التباحث في أي أمر ولا إلقاء الخطب ولا حتى تناول المرشّحين إذ يتوجّب فقط انتخاب الرئيس[7].
فكي نفهم الغاية من نص المادة 75 من الدستور اللبناني علينا أن نتذكّر أن مجلس النواب عند خلوّ رئاسة الجمهورية عليه أن يجتمع فورًا أي أنه قد يجتمع خارج الدورات العادية لمجلس النواب التي يحقّ له خلالها ممارسة صلاحياته التشريعية. فعندما تقول المادة 75 أن المجلس هو هيئة انتخابية فهي تقصد أن المجلس الذي سيجتمع فورًا وفي أيّ وقت من السنة لا يمكن أن يستغلّ هذا الاجتماع خارج الدورات من أجل التشريع.
وهذا ما تعلنه المادة الرابعة من القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 16 تموز 1875 التي تنصّ أن كل جلسات التي يعقدها مجلس الشيوخ أو مجلس النواب خارج دورات الانعقاد هي غير شرعية باستنثاء الاجتماع الفوري من أجل انتخاب رئيس الجمهورية.
لذلك يتبيّن لنا أن منع التشريع يتعلق فقط بالجلسة التي يعقدها مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية وليس بكل الجلسات التي يمكن لمجلس النواب أن يعقدها خلال الفراغ الرئاسي. صحيح، لم يتوقع الدستور أن يمتدّ الفراغ إلى سنين إذ انه افترض أنه بمجرد حصول الخلوّ، سيعمد مجلس النواب إلى انتخاب الخلف. وهذا ما يشرحه "جوزيف بارتيليمي" إذ يعتبر أن الاجتماع الفوري لا يمكن أن يتمّ باللحظة ذاتها بل أن ذلك يجب أن يفهم بأن رئيس الجمهورية الجديد يجب أن ينتخب خلال مهلة تمتدّ من يوم إلى ثلاثة أيام[8]. وكلّ تفسير مخالف لا يمكن القبول به إطلاقا كونه يؤدي إلى افتراض أن الدستور أراد منع التشريع خلال الشهور الطويلة التي يستغرقها الفراغ الرئاسي وهو الأمر الذي لا يمكن التسليم به كمجرد استنتاج منطقي ينبع من هذه النصوص الدستورية.
علاوةً على ما تقدم، فإنّ مسألة التشريع خلال وجود حكومة مستقيلة هي التي تطرح الإشكاليات الدستورية أكثر بكثير من خلوّ سدة الرئاسة. فالحكومة المسؤولة أمام مجلس النواب يحقّ لها التقديم بمشاريع قوانين والدفاع عنها وكما رفض اقتراحات القوانين والتعديلات التي يتقدّم بها النواب، أي أن مشاركتها في العمل التشريعي هي ضرورية وينبع من مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها. لكن هذا الواقع لا ينطبق إطلاقا على رئيس الجمهورية إذ هو غير مسؤول أمام مجلس النواب وهو لا يحضر أصلُا جلسات هذا الأخير ولا يناقش القوانين خلال إقرارها أمام النواب. فغياب رئيس الجمهورية لا تأثير دستوري له على عمل مجلس النواب الذي يحتفظ بحقّه كاملا في التشريع خلال الدورات العادية أو الاستثنائية.
خلاصة
إن النقاش الدستوري في لبنان تهيمن عليه أحزاب السلطة التي تتلاعب به وفقًا لمصالحها. ففرض غالبية الثلثيْن من مجموع أعضاء مجلس النواب يهدف فعليًا إلى منح تلك الأحزاب وسيلة تعطيل تسمح لها بأخذ مؤسّسات الدولة رهينة اعتباطيّتها. كذلك الأمر بالنسبة لمنع التشريع خلال خلوّ سدّة الرئاسة كون الحقيقة الكامنة وراء ذلك لا علاقة لها بالدستور بل هي عبارة عن تحريض طائفيّ قوامُه أن فراغ رئاسة الجمهورية التي تعود في الممارسة إلى شخصيّة ميسيحيّة يجب أن يؤدي إلى تعطيل مجلس النواب واتّباع الإجماع من أجل اتخاذ أي قرار للحكومة بهدف شل رئاسة مجلس النواب التي تعود لشخصية شيعية ورئاسة الحكومة التي تعود لسخصية سنية. فالتعطيل هو نتيجة التوازن السياسي بين مختلف أركان نظام الزعماء وليس نتيجة النصّ الدستوريّ، وكلّ محاولة لإيجاد مسوغ دستوري لهذا التعطيل هي في حقيقة الأمر مناورة لتمويه المصالح السياسية وتقديمها برداءٍ قانونيّ مجرّدٍ وموضوعيّ من أجل الاستمرار في خداع الرأي العام.
[1] ‘La majorité absolue se calcule d’après le nombre des votants. On entend par votants ceux qui ont réellement exprimé un suffrage, en conséquence le chiffre de la majorité absolue ne doit pas être établi d’après le nombre de membres qui ont matériellement pris part au scrutin, mais d’après le chiffre des suffrages exprimés si faible qu’il soit’ (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 462).
[2] ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 672.
[3] المرجع السابق، ص. 677.
[4] « Interpréter la loi revient simplement à chercher le contenu de la volonté législative à l’aide de la formule qui l’exprime » (François Gény, Méthode d’interprétation et source en droit privé positif, LGDJ, Paris, 1919, Tome premier, p. 265).
[5] "En cas de vacance par décès ou pour toute autre cause, les deux chambres procèdent immédiatement à l'élection d'un nouveau Président".
[6] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 354.
[7] « Cette assemblée nationale est la même que celle qui assure la révision de la constitution, mais, ici, elle ne foncti