أول جلسة ثقة في البرلمان الحالي: التذكير ببعض الأصول الدستوريّة

وسام اللحام

20/02/2025

انشر المقال

بعد تشكيل الحكومة وإقرارها لبيانها الوزاري دعا الرئيس نبيه بري مجلس النواب إلى جلسة في 25 شباط من أجل مناقشة هذا البيان ومنح الحكومة الثقة. وقد طرح البعض تساؤلات حول الأصول التي يفرضها الدستور بخصوص جلسة الثقة لناحية النصاب والغالبية المطلوبة لذلك. وعليه، بدا من الضروري شرح هذه النقاط قبل موعد الجلسة.

ولا بدّ أولا من تسجيل مفارقة معبّرة كون حكومة نواف سلام هي أول حكومة جرى تشكيلها في ظلّ ولاية مجلس النواب الحالية. فقد انقضى أكثر من نصف ولاية البرلمان المنتخب في أيار 2022 مع وجود حكومة نجيب ميقاتي التي تولّت تصريف الأعمال طيلة هذه الفترة، وهي حكومة أبصرت النور في ظلّ الولاية النيابية السابقة (2018-2022)، الأمر الذي يعكس حجم الأزمة السياسية التي مرّ بها لبنان وكيفية عمل السلطة السياسية بمختلف أطرافها المسيطرة على مؤسسات الدولة.

إذ أن الثقة تشكل حجر الزاوية في النظام البرلماني لكونها ترسي قاعدة مسؤولية الحكومة السياسية أمام مجلس النواب خلافا للنظام الرئاسي الذي لا يخضع مسؤولية السلطة التنفيذية السياسية للبرلمان. وينطلق النظام البرلماني من مسلّمة مفادها أن الحكومة لا يمكن لها أن تحكم إلا إذا تمتّعت بثقة الأمة التي تتجسّد في مجلس النواب عملا بمبادئ الديمقراطية التمثيلية ونظرية السيادة الوطنية.

لم يكن الدستور اللبناني قبل تعديله سنة 1990 يفرض على الحكومة مهلة زمنية محدّدة من أجل طلب ثقة مجلس النواب بعد تشكيلها. فقد نصت المادة 66 القديمة من الدستور على مسؤولية الحكومة الجماعية والوزراء الإفرادية أمام البرلمان على أن يتمّ إعداد "بيان خطة الحكومة ويعرض على المجلس بواسطة رئيس الوزراء أو وزير يقوم مقامه". لكن الممارسة في لبنان، عملًا بالتقليد البرلماني المتّبع في الجمهورية الثالثة الفرنسية (1875-1940)، دفعت بالحكومات المتعاقبة منذ 1926 إلى طلب ثقة مجلس النواب ضمن فترة زمنية قصيرة تعقب تأليفها.

هذا وقد كرست تعديلات 1990 عملا بوثيقة الوفاق الوطني هذه الممارسة إذ باتت الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور تفرض على الحكومة أن " تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوما من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها"، وهو الموعد الذي احترمتْها جميع الحكومات علما أن المهلة تحتسب من تاريخ صدور مرسوم تشكيل الحكومة إلى تاريخ إحالة البيان الوزاري إلى مجلس النواب وليس تاريخ انعقاد جلسة الثقة كون تحديد هذا الموعد هو من صلاحيات مكتب المجلس ولا شأن للحكومة به.

ولا ينصّ الدستور في صيغته[1] الحالية على أيّة شروط خاصة تتعلق بنصاب الجلسة والأغلبية المطلوبة لمنح الحكومة الثقة ما يعني أن النصاب الواجب توفره هو النصاب العادي الذي يتألف من الغالبية المطلقة من مجموع أعضاء مجلس النواب (65 نائبا) وأن الأكثرية المطلوبة لمنح الحكومة الثقة هي غالبية الحضور فقط. وهذا ما يذهب إليه إدمون رباط عندما يقول في معرض مناقشته لهذه المسألة أن الحكومة تنال الثقة "أغلبية أصوات نواب المجلس الحاضرين وبشرط اكتمال نصابهم المحدد في المادة 34 من الدستور"[2] وهو النصاب العادي كما ذكرنا، مع الإشارة إلى أن المادة 36 من الدستور تفرض "الاقتراع على مسألة الثقة" عبر "المناداة على الأعضاء بأسمائهم وبصوت عالٍ" من أجل احترام مبدأ علنيّة الجلسة وكي يتمكّن الناخب من مراقبة النواب ومحاسبتهم انطلاقا من موقفهم من الحكومة.

وتضيف المادة 37 من الدستور شرطا في حال كانت المبادرة بطرح الثقة تنطلق من النواب إذ تفرض مرور خمسة أيام على الأقل بين التقدّم رسميّا بطلب نزع الثقة والتصويت عليه، وذلك كي تتمكن الحكومة من تحضير الدفاع عن نفسها والتنسيق مع النواب المؤيّدين لها.

وقد طرحت مسألة النصاب الضروري في جلسة الثقة خلال جلسة 23 تموز 1959 عندما تمّ التصويت على الثقة في ظلّ فقدان النصاب الأمر الذي دفع الرئيس عادل عسيران إلى الإعلان عن التالي:

"حضرات النواب المحترمين، حسب التصويت الذي جرى حصلت الحكومة على ثقة أربعة وعشرين نائباً وحجبها عنها ثمانية نواب، هذا التصويت قلناه كما حصل والرئاسة تعتبر أن هذا التصويت ملغى وسيصوت على الثقة في أول الجلسة المقبلة لأنه ليس من نصاب قانوني".

وبالفعل سيتم عقد جلسة أخرى لمجلس النواب في 30 تموز 1959 من أجل إعادة التصويت على الثقة مجددا، الأمر الذي يبرهن أن النصاب العادي هو فقط المطلوب لدستورية الجلسة.

إن صمت الدستور عن تحديد كيفية منح الثقة سمح للنظام الداخلي لمجلس النواب بالتوسع في هذه المسألة عبر تحديد تفاصيل جديدة كون المادة 85 منه نصت على التالي: " يجري التصويت على الثقة بطريقة المناداة بالأسماء وذلك بالجواب بإحدى الكلمات التالية: ثقة، لا ثقة، ممتنع. لا يدخل عدد الممتنعين في حساب الأغلبية" مع الإشارة إلى أنّ هذه المادة وردت لأول مرة بحرفيتها في المادة 83 من النظام الداخلي لسنة 1953.

وهكذا يتبين أن الغالبية المطلوبة لمنح الحكومة الثقة عملا بالنظام الداخلي ليست حتى غالبية الحضور لكن فقط غالبية النواب الذين صوتوا بمنح الثقة أو رفضها من دون الممتنعين، علما أن هذا الأمر لم يثر إشكاليات في السابق كون الحكومات في لبنان كانت دائما تنال الثقة بغالبية واضحة إذ يتوجب فقط أن يكون عدد الذين منحوا الثقة أكبر من الذين حجبوها كي تعتبر الحكومة حائزة على ثقة المجلس. فآلية التصويت على الثقة تشبه انتخاب رئيس مجلس النواب إذ يتم احتساب الغالبية انطلاقا من أصوات المقترعين من دون الأوراق البيضاء والملغاة.

وهذا ما كان يتمّ تطبيقه خلال الجمهورية الثالثة في فرنسا إذ صوّت مجلس النواب مثلا في جلسة 22 كانون الثاني 1920[3] على منح الثقة للحكومة التي نالتْ تأييد 272 نائب ومعارضة 23 بينما امتنع 300 عن التصويت فما كان من رئيس المجلس إلا وأن أعلن أن عدد الأصوات التي تأخذ في الحسبان من أجل معرفة النتيجة هو 295 (272+23) وأن الغالبية المطلوبة لنيل الثقة هي 148 أي أول رقم صحيح بعد نصف عدد الذين صوتوا مع أو ضد الثقة من دون الممتنعين.

وقبل 1990 كان يتم تشكيل الحكومات أحيانا خارج دورات انعقاد مجلس النواب ما يوجب إصدار مرسوم بدعوة مجلس النواب إلى عقد استثنائي من أجل منح الحكومة الثقة أما اليوم بعد تعديل الدستور بات مجلس النواب عملا بالفقرة الأخيرة من المادة 69 من الدستور يعتبر حكما في دورة انعقاد استثنائية عند استقالة الحكومة حتى نيل الحكومة الجديدة الثقة. فبمجرد حصول حكومة نواف سلام على الثقة، تنتهي الدورة الاستثنائية ويفقد مجلس النواب حقه بممارسة صلاحياته التشريعية والرقابية إذ هو لن يستعيدها إلا مع بدء العقد العادي الأول في النصف الثاني من شهر آذار. 

وعلى الرغم من أن البيان الوزاري الذي تنال الحكومة عليه الثقة لا يتمتع القوة القانونية، لكنه يشكّل ركيزة الشرعية السياسية التي تعمل بموجبها السلطة التنفيذية. فمع تشكيل حكومة نواف سلام، تكون الحياة الدستوريّة قد استعادتْ مسارها السليم. ومع نيل هذه الأخيرة للثقة، يكون لبنان قد خرج من حقبة تصريف الأعمال الطويلة والإشكاليات الدستورية الحقيقية أو المفتعلة التي دارت حول أصول عمل الحكومة وجواز التشريع في ظل الشغور الرئاسي. وإذا كانت عودة الانتظام الشكليّة للمؤسّسات هو شرط لا بدّ منه من أجل أيّ إصلاح حقيقي لكنه يظلّ غير كاف كون ذلك مرهونًا بالقرارات التي تتّخذها الحكومات والسياسات العامة التي سيدافع عنها مجلس الوزراء في المستقبل القريب لا سيما وأن البيان الوزاري الذي أعدته الحكومة لم يتضمن برنامج عمل تفصيليّا بل كان أشبه بعناوين عريضة لا تسمح بفهم أهداف الحكومة الحقيقية.

 


[1]  من المفيد الإشارة أن المادة 69 القديمة من الدستور قبل الغائها سنة 1929 كانت تنص على التالي: "لا يصدر قرار عدم الثقة بأحد الوزراء ما لم يكن ثلاثة أرباع المجلس على الأقل حضوراً· أما إذا طرح الوزير نفسه مسألة الثقة فيكتفى بوجود الأكثرية العادية".

[2] ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 791.

[3] Adhémar ESMEIN, Eléments de droit constitutionnel français et comparé, Tome 1, Paris, 1921, p. 269.