أيّ صلاحيات لمجلس النواب في زمن الانتخابات الرئاسية؟

وسام اللحام

16/10/2022

انشر المقال

بمناسبة دعوة الهيئة العامة لمجلس النواب إلى الانعقاد يوم الثلاثاء القادم الواقع في 18 تشرين الأول، ومع احتمال إطالة مدة الفراغ في رئاسة الجمهورية، يناقش وسام اللحام في هذا المقال الصلاحيات التشريعية للمجلس ومدى تأثرها في خلو سدة الرئاسة أو حلول استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية (المحرر).  

برزت في السنوات الماضية إشكالية دستورية جديدة تطرح عند كل استحقاق رئاسي وتتعلق بجواز ممارسة مجلس النواب صلاحياته التشريعية خلال المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية أو في ظل شغور رئاسة الجمهورية إذا لم يتمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس جديد قبل نهاية ولاية الرئيس الحالي. فقد انقسمت الأحزاب السياسية وفقا لمصالحها بين من يعتبر أن مجلس النواب يحتفظ يصلاحياته التشريعية وبين من اعتبر أن ذلك لا يجوز كون مجلس النواب يصبح بحكم الدستور هيئة انتخابية وبالتالي يتوجب عليه الشروع فورا بانتخاب رئيس الدولة من دون إمكانية الاهتمام بأي موضوع أخر.

فمع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية إميل لحود في تشرين الثاني 2007، لم يعقد مجلس النواب أي جلسة تشريعية حتى تم انتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية في أيار 2008. وقد أثير الموضوع مجددا مع انتهاء ولاية ميشال سليمان سنة 2014 من دون انتخاب خلف له ضمن المهلة الدستورية ما أدّى إلى حصول فراغ رئاسي طويل استمر حتى 31 تشرين الأول 2016 مع انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. لكن القوى السياسية، رغم تضارب مواقفها حول هذا الموضوع، توافقت على عقد جلسة تشريعية في 5 تشرين الثاني 2014 أقرّت خلالها قانون التمديد لمجلس النواب كي تستمر ولايته حتى 2017 إضافة إلى قوانين أخرى. وقد حاول البعض تبرير هذه الجلسة بما أسمته "تشريع الضرورة" منعا لنهاية ولاية مجلس النواب القريبة دون اجراء انتخابات نيابية أو التمديد له. آنذاك، قدّم النائب نقولا فتوش اقتراح قانون لتمديد ولاية أعضاء المجلس النيابي مرفقا إياه بمطالعة قانونية دفاعا عن حق المجلس بالتشريع ورفضا لنظرية تشريع الضرورة. وقد خاطب فيها زملاءه: "هل المجلس عندما يجتمع يشرع فقط تحت وطأة الضرورة؟ بالله عليكم، أوجدوا لي نصاً في الدستور يتكلم عن التشريع الضروري". كما أضاف: "أريد أن أقول فقط إنّ حق التشريع هو حق من حقوق السيادة (...). فله الحق أن يُشرع بكل شيء في أي ظرف ومكان. إذاً أي حديث عن تشريع الضرورة، فهو غير كافٍ".

وهكذا سيغيب مجلس النواب لأكثر من عام كي يجتمع بتاريخ 12 تشرين الثاني 2015 في جلسة تشريعية كي يقرّ مجموعة متنوعة من القوانين من بينها قانون مكافحة تبييض الأموال وقوانين أخرى كان لبنان التزم بها بهدف مواءمة تشريعاته مع التزاماته الدولية في هذا الشأن. وقد تكرر الكلام خلال هذه الجلسة بأن الأولوية يجب أن تكون لانتخاب رئيس الجمهورية وليس للتشريع إلا اذا كان التشريع يهدف إلى إعادة تكوين السلطة (تبني قانون انتخابات جديد) أو للضرورة.

ويستند الذين يدافعون عن فكرة عدم جواز التشريع خلال الفراغ الرئاسي إلى المادة 75 من الدستور المعطوفة على المادة 74 منه إذ تنص هذه الأخيرة على التالي: "إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو أيّ سبب آخر، فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون"، بينما تنص المادة 75 على التالي: "إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر".

وفقا لهذا الرأي، عند خلو رئاسة الجمهورية، يجب على المجلس أن يجتمع فورا ويتحوّل حينها إلى هيئة انتخابية فقط لا يحق لها التشريع. ولا شكّ أن هذا التفسير هو تأويل مبالغ فيه يتسرع جدا في الوصول إلى استنتاجات لم يلحظها النص ولم يتخيلها حتى.

فكما هو متوقع، تجد المادة 74 مصدرها في القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 25 شباط 1875 خلال الجمهورية الثالثة لا سيما المادة السابعة[1]. بينما لا يوجد مثيل للمادة 75 في القوانين الدستورية الفرنسية للجمهورية الثالثة لكن نجدها في مراجع الفقه الدستوري التي كانت متداولة حينها[2]. وفي هذا الاتجاه، يفيد العلامة "موريس هوريو" Maurice Hauriou أن الجمعية الوطنية (الاجتماع المشترك لمجلسي الشيوخ والنواب) الملتئمة لانتخاب رئيس الجمهورية لا يحقّ لها التباحث في أي أمر ولا إلقاء الخطب ولا حتى تناول المرشّحين إذ يتوجب فقط انتخاب الرئيس[3].

فكي نفهم الغاية من نصّ المادة 75 من الدستور اللبناني علينا أن نتذكر أن مجلس النواب عند خلو رئاسة الجمهورية عليه أن يجتمع فورا، أي أنه قد يجتمع خارج الدورات العادية لمجلس النواب التي يحق له خلالها ممارسة صلاحياته التشريعية. فعندما تقول المادة 75 أن المجلس هو هيئة انتخابية، فهي تقصد أن المجلس الذي سيجتمع فورا وفي أي وقت من السنة لا يمكن أن يستغلّ هذا الاجتماع خارج الدورات من أجل التشريع.

وهذا ما تعلنه المادة الرابعة من القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 16 تموز 1875 التي تنصّ على أن كل الجلسات التي يعقدها مجلس الشيوخ أو مجلس النواب خارج دورات الانعقاد هي غير شرعية باستثناء الاجتماع الفوري من أجل انتخاب رئيس الجمهورية.

لذلك، يتبيّن لنا أن منع التشريع يتعلق فقط بالجلسة التي يعقدها مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية وليس بكل الجلسات التي يمكن لمجلس النواب أن يعقدها خلال الفراغ الرئاسي. صحيح، لم يتوقّع الدستور أن يمتدّ الفراغ على سنين إذ انه افترض أنه بمجرد حصول خلو رئاسة الجمهورية سيعمد مجلس النواب إلى انتخاب رئيس جديد. وهذا ما يشرحه "جوزيف بارتيليمي" Joseph- Barthélemy إذ يعتبر أن مفهوم "الاجتماع الفوري" لا يستفاد منه أنه يتمّ باللحظة ذاتها لخلو الرئاسة بل أنه يجب أن ينتخب رئيس الجمهورية الجديد خلال مهلة تمتد من يوم إلى ثلاثة أيام[4]. وكل تفسير مخالف لا يمكن القبول به إطلاقا كونه يؤدي إلى افتراض أن الدستور أراد منع التشريع خلال الشهور الطويلة التي قد يستغرقها الفراغ الرئاسي وهو الأمر الذي لا يمكن التسليم بها كمجرد استنتاج منطقي ينبع من هذه النصوص الدستورية.

وقد تنبه "ليون دوغي" Léon Duguit لهذه الإشكالية فعالجها بإسهاب معتبرا أن الجمعية الوطنية لا وجود لها إلا عندما يجتمع النواب والشيوخ سويا ويعلن رئيس الجلسة أن الجمعية الوطنية باتت بحكم المنعقدة إذ عندها فقط يمكن الحديث عن تحول هذا الاجتماع إلى هيئة انتخابية ينحصر دورها بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ويضيف "دوغي" أنه خارج هذا الاجتماع يظل البرلمان محتفظا بصلاحياته التشريعية ويحق بالتالي لمجلسي الشيوخ والنواب الاجتماع من أجل إقرار القوانين شرط أن يتم ذلك ضمن العقود الدستورية التي تسمح بذلك. وقد اعتبر "دوغي" بشكل واضح أنّ الحكومة يمكن لها أن تتقدم بكل أنواع الاقتراحات، وأن تشارك في اجتماعات المجالس النيابية لأنّ منع التشريع عند خلو رئاسة الجمهورية هو غير مقبول كون الظرف قد يحتّم إقرار قوانين طارئة وبالتالي لا يجوز تكبيل يد السلطة ومنعها من القيام بدورها[5]. ويعلّق "دوغي" على كلمة "فورا" التي تحتّم اجتماع الجمعية الوطنية فور حصول الشغور فيقول أنه لا يجوز الاستنتاج أنها تعني منع البرلمان من ممارسة صلاحياته التشريعية منذ لحظة حصول الفراغ حتى انتخاب الرئيس الجديد[6].

إن اعتباطية التأويلات الدستورية التي تطلقها أحزاب السلطة تظهر في النتائج النهائية التي تترتب عليها. ففي حال كان مجلس النواب يتحول إلى هيئة ناخبة دائمة يمتنع عليه التشريع يتوجب علينا الافتراض أيضا أنه يمتنع عليه ممارسة كل صلاحياته الأخرى، فهو لا يحق له مراقبة الحكومة ولا عقد جلسات لمساءلة الوزراء، ما يعني أن الحكومة تصبح مطلقة الحرية خلال هذه الفترة لأن البرلمان أصبح هيئة ناخبة فقط، وهو أمر لا يمكن القبول به إطلاقا.

وقد تفرّع عن هذه الإشكالية مسألة أخرى روّج لها الإعلام في لبنان تتعلق بتحول مجلس النواب إلى هيئة انتخابية دائمة منذ اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء ولاية رئيس الجمهورية وفقا لتفسير مغلوط للمادة 73 من الدستور التي تنص على التالي: "قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدّة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناء على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد، وإذا لم يدعَ المجلس لهذا الغرض فإنه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس".

وقد طرح البعض، من بينهم رئيس مجلس النواب، فكرة مفادها أنّ المجلس في آخر عشرة أيام من ولاية رئيس الجمهورية يصبح حكما هيئة انتخابية لا يجوز لها التشريع فقط خلال هذه الفترة، وبعد حصول الفراغ يستعيد مجلس النواب صلاحياته التشريعية.

ولا شكّ أن هذا التفسير ينطلق من موقف سياسيّ لا علاقة له إطلاقا بالمنطق الدستوري السليم. فعلى حدّ علمنا، لم يتمّ طرح هذه الإشكالية خلال كل تجربة الجمهورية الثالثة الفرنسية ولم يعالجها أيٌّ من الفقهاء الدستوريين الكبار وهي لا تجد أي سند دستوري لها سوى التأويلات التي تطلقها الأحزاب السياسية خدمة لمصالحها، ومن ثم يقوم بعض القانونيين والصحافيين الذين يهتمّون بالمسائل الدستورية بالترويج لها وإطلاق تحليلات هي في الحقيقة عبارة عن أراء متناقضة تساهم في التشويش على الرأي العام عبر إعادة إنتاج خطاب السلطة ذاته. فقد بات جليّا أنّ الصراع السياسي في لبنان بات دائما يجد في الجدل الدستوري وسيلته الفضلى من أجل التستّر على مصالح الأحزاب الحاكمة وتقديمها بلبوس المسائل الدستورية الموضوعية، بينما حقيقة الأمر أن هذه الأحزاب ستعمد إلى تأويل كل النصوص الدستورية فقط كي تخدم مصالحها الآنية، وهي لن تتورّع عن مخالفة هذا التأويل عندما تجد أنّ التسوية السلطوية مع خصومها السياسيين تحتم ذلك.

فالسلطة السياسية هي التي باتت تنتج الأزمات الدستورية، وهي باتت أيضا تبني على هذا الأزمات إشكاليات دستورية إضافية تعمد إلى إشاعتها بين الناس، ومن ثم يقوم الإعلام بتكرارها غير متنبّهٍ أنه أصبح مجرد وسيلة تردّد خطاب السّلطة وتحوّل الدستور إلى وجهة نظر سياسية كي يقتنع الجميع أنّ الدستور لا يستطيع أن يحسم أيّ خلاف سياسي بشكل ديمقراطي يحترم عمل المؤسسات، بل أن ذلك يتطلب تسوية بين أركان السلطة إذ أنّ التوافق هو وحده السبيل إلى إعادة الحياة إلى "طبيعتها". 

وتعتبر فكرة عدم جواز التشريع خلال الأيام العشرة الأخيرة من ولاية رئيس الجمهورية خير مثال على هذه الظاهرة. فعدم جواز التشريع خلال الفراغ الرئاسي هو طرح تروّج له الأحزاب المسيحية كي تبتزّ سائر أطراف النظام خدمة لمصالحها، فيردّ عليها رئيس مجلس النواب بحلّ مبتكر يوافق فيه على تعليق التشريع لكن فقط خلال عشرة أيام ومن بعدها يتمكن رئيس المجلس من استعادة دوره في النظام السياسي عبر تحكمه بعمل مجلس النواب التشريعي. لكن بدل أن يقول ذلك صراحة يكتفي بالقول أن مجلس النواب يستعيد صلاحياته التشريعية.

وهكذا يتين لنا أن التفسير الدستوري الحقيقي لا يجب أن ينجر وراء المواقف التي تطلقها أحزاب السلطة، ولا يجب أن يقبل بأن يقوم بتكرار خطاب السلطة التي تحاول دائما فرض أدبياتها وجدول أعمالها على المجتمع. فالدستور لا يمكن له أن يعطي الحل لأطراف لا تريد منه سوى توفير الذرائع القانونية لها كي تبرر مصالحها السلطوية وتستمر في خداع المجتمع.


[1] "En cas de vacance par décès ou pour toute autre cause, les deux chambres procèdent immédiatement à l'élection d'un nouveau Président".

[2] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 354: « Il doit être procédé immédiatement au vote. L’Assemblée Nationale est en ce cas un simple collège électoral qui ne peut se livrer à aucun débat ».

[3] « Cette assemblée nationale est la même que celle qui assure la révision de la constitution, mais, ici, elle ne fonctionne pas comme assemblée législative constituante, mais comme collège électoral, et cela entraîne des différences de procédure : d'abord, la réunion en assemblée n'est pas précédée d'une délibération séparée des Chambres, qui serait sans objet; ensuite, l'assemblée, une fois réunie, n'étant ici qu'un collège électoral, ne délibère pas, aucun discours ne doit être prononcé, môme sur les candidatures, il ne doit être procédé qu'à des scrutins, ainsi qu'il est de règle dans toutes les assemblées électorales » (Maurice Hauriou, Précis élémentaire de droit constitutionnel, Recueil Sirey, Paris, 1930, p. 125).

[4] « Cet adverbe immédiatement n’est d’ailleurs pas entendu avec la rigueur mathématique : il est observé, lorsque les Chambres se réunissent de un à trois jours après la cessation des fonctions » (Joseph- Barthélemy, Précis de droit constitutionnel, Dalloz, paris, p. 302.)

[5] « En droit, il n’y a assemblée nationale constituée pour élire le président et, par conséquent, corps électoral présidentiel que du moment où les députés et sénateurs étant réunis à Versailles, le président de l’assemblée a prononcé la formule: « Je déclare l’assemblée nationale constituée.» Jusque-là il y a des chambres législatives. Si elles sont en session, elles peuvent s’assembler suivant le droit commun, recevoir et voter des propositions. II y a un gouvernement parfaitement régulier, qui peut faire des propositions de toute espèce, qui peut prendre part aux délibérations du parlement (…) en fait, il est inadmissible que les chambres ne puissent pas pendant la durée de la vacance, recevoir et voter des propositions. Il peut y avoir là une période de crise grave, exigeant le vote de mesures législative d’une extrême urgence; et l’on ne saurait admettre que les pouvoirs soient en quelque sorte désarmés » (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel,  Tome 4, paris, 1924, p. 565-566).

[6] « De ce mot immédiatement, employé par la loi constitutionnelle, il ne faut point conclure, à mon avis, que, du moment où la vacance se produit Jusqu’à l’élection du nouveau président, les chambres cessent d’être assemblées législatives pour devenir corps électoral et ne puissent recevoir ni  voter une Proposition ». (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel,  Tome 4, paris, 1924, p. 565).