استحقاقات دستورية في زمن الحرب: الموازنة وانتخابات مكتب المجلس واللجان النيابية
12/10/2024
يغيب مجلس النواب كليا عن مشهد الحياة العامة في لبنان ليس فقط من خلال فشله بانتخاب رئيس للجمهورية أو تشكيل حكومة جديدة تتمتع بصلاحيات كاملة، لكن أيضا باستنكافه عن القيام بدوره التشريعي أو السياسي من أجل مواكبة الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد نتيجة العدوان الإسرائيلي المتفاقم الذي بلغ مرحلة الحرب الشاملة منذ أيلول المنصرم.
لكن انكفاء مجلس النواب عن القيام بدوره البديهي سيصطدم في الأيام المقبلة باستحقاقين دستوريين لا يمكنه التنصل منهما يتعلقان بإقرار الموازنة العامة من جهة وانتخاب أعضاء مكتب المجلس واللجان النيابية من جهة أخرى. لذلك كان من الضروري استعراض مآلات هذه الاستحقاقات الدستورية وتحديد تداعياتها المحتملة على عمل مؤسسات الدولة.
أولا: إحالة الموازنة في موعدها الدستوري
للسنة الثانية على التوالي عمدت الحكومة إلى إحالة الموازنة العامة خلال المهلة الدستورية. فقد أقر مجلس الوزراء في 23 أيلول 2024 مشروع قانون موازنة عام 2025 الذي أحيل إلى مجلس النواب بموجب المرسوم رقم 14076 بتاريخ 4 تشرين الأول 2024.
وبغضّ النظر عن مضمون هذه الموازنة ومدى قدرتها على الاستجابة لحاجات المجتمع الملحة في ظروف الحرب التي يمرّ بها، وفي حال وضعنا جانبا أيضا أن هذه الموازنة أحيلت من دون مشروع قانون قطع الحساب الذي يتوجب التصويت عليه في مجلس النواب وإصداره قبل الموازنة عملا بالمادة 87 من الدستور، يتبين أن مشروع الموازنة أقر وأحيل ضمن المهل التي يفرضها الدستور في مواده المختلفة. فالمادة 83 من هذا الأخير تفرض سنويا على الحكومة التقديم لمجلس النواب "في بدء عقد تشرين الأول موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة" أي أن العبرة من هذه المادة تكمن لا في إقرار مشروع قانون الموازنة في مجلس الوزراء بل في إحالته إلى مجلس النواب. كذلك الأمر بالنسبة إلى المادة 32 من الدستور التي تنص على أن العقد العادي الثاني للبرلمان يبدأ "يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول وتخصص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل أي عمل آخر" ما يعني أن هذا العقد سيفتتح حكما هذا العام في 22 تشرين الأول المقبل[1]، وبالتالي لا بد من إحالة مشروع موازنة 2025 قبل هذا التاريخ.
ومن المفترض أن يكون مجلس النواب قد استلم الموازنة عملا بالمرسوم رقم 14076 المذكور أعلاه ما يسمح له بالمباشرة بدراستها في لجنة المال والموازنة في أول الأمر قبل عرضها على الهيئة العامة لإقرارها. والواقع أن إحالة مشروع موازنة 2025 ضمن المهلة الدستوريّة إنما يفتح المجال لتطبيق المادة 86 من الدستور التي باتت شروط تطبيقها متوفرة في المبدأ، وهو أمر نادر إذا ما قيس بعشرات السنوات الماضية التي شهدت على تأخر كبير في إحالة الموازنة، لا بل إقرارها أيضا في مجلس النواب خارج المهل الدستورية. وعليه، سيكون بإمكان السلطة التنفيذية إصدار الموازنة بمرسوم من دون موافقة مجلس النواب، في حال لم يتمكّن هذا الأخير من إقرارها طيلة العقد المخصص لدرسها (من تشرين الأول إلى نهاية السنة) وفي العقد الاستثنائي الذي يستمرّ لنهاية كانون الثاني من السنة الجديدة، والذي يتم تخصيصه للانتهاء من دراسة وإقرار الموازنة.
ولا شك أن هذه الصلاحية تصبح أكثر أهمية في الظروف الحالية التي توجب وجود موازنة عامة تسمح للدولة بالإنفاق من أجل الدفاع عن المجتمع وتعزيز عمل المؤسسات الرسمية. ففي حال بقيت اللجان النيابية معطلة عن العمل، وفي حال استمر مجلس النواب بتقاعسه عن الاجتماع وعدم إقرار القوانين الملحة لتأمين استمرار الحياة الوطنية خلال الحرب، يصبح تطبيق المادة 86 من الدستور الحلّ الأخير لتأمين الحدّ الأدنى من العمل المنتظم لإدارات الدولة ومرافقها العامة.
ثانيا: انتخابات مكتب المجلس واللجان
تنص الفقرة الثانية من المادة 44 من الدستور على ضرورة انتخاب أمينين للسرّ"عند افتتاح عقد تشرين الأول من كل عام"، بينما تنص المادة 3 من النظام الداخلي لمجلس النواب على ضرورة انتخاب ثلاثة مفوضين أيضا عند إفتتاح عقد تشرين أي في الجلسة ذاتها التي يتمّ فيها انتخاب أمناء السرّ. كذلك تنص المادة 19 من النظام الداخلي على التالي: "في بدء دورة تشرين الأول من كل سنة يعمد المجلس إلى انتخاب لجانه الدائمة".
وهكذا يتبيّن أن مجلس النواب ملزم بالانعقاد في 22 تشرين الأول المقبل من أجل استكمال عضوية مكتبه عبر انتخاب أمناء السر والمفوضين ومن أجل تجديد انتخاب اللجان النيابية. فصحيح أن رئيس مجلس النواب هو الذي سيوجه الدعوة إلى النواب، لكنه ملزم عملا بتلك النصوص بتحديد نهار 22 تشرين الأول كموعد لانعقاد مجلس النواب إذ الخيار الوحيد المتروك له هو تحديد ساعة الاجتماع بينما نهار الاجتماع جرى تحديده مسبقا بقوة النص الدستوري وأحكام النظام الداخلي.
لكن السؤال الذي بات يتردد هو معرفة مصير هذه الجلسة الحكمية في حال لم يتمكن مجلس النواب من الاجتماع بسبب الظروف الأمنية التي يمرّ بها لبنان اليوم. والحقيقة أن الجواب على هذا السؤال يوجب التمييز بين انتخاب أمناء السر من جهة وانتخاب المفوضين واللجان النيابية من جهة ثانية. فأمناء السر يتم انتخابهم وفقا لأحكام المادة 44 من الدستور، بينما المفوضين واللجان تنتخب عملا بالنظام الداخلي الذي يقره مجلس النواب منفردا ويحق له تعديله متى شاء.
ففي حال فشل مجلس النواب لأسباب قاهرة عن الاجتماع في 22 تشرين الأول المقبل لا بد من معرفة مصير أعضاء مكتب المجلس الذين يتوجب انتخابهم سنويا (أمينا السر وثلاثة مفوضين) ومصير اللجان النيابية التي تخضع أيضا لمبدأ التجديد السنوي.
بالحقيقة، واجه مجلس النواب هذه الإشكالية خلال الحرب الأهلية سنة 1978 في لبنان عندما طلب رئيس المجلس كامل الأسعد رأي ادمون رباط عن "وضع اللجان ورئاسة المجلس في حال استحالة اجتماع مجلس النواب لانتخاب الرئاسة وأعضاء اللجان نظرا للحالة الأمنية أو العوائق الأخرى". ولا شك أن المسألة كانت أشد خطورة حينها كون رئيس مجلس النواب ونائبه كانا ينتخبان لولاية من سنة واحدة فقط تجدد في افتتاح عقد تشرين من كل عام، بينما اليوم بعد تعديلات 1990 بات الرئيس ونائبه ينتخبان لكامل ولاية البرلمان.
وقد خلص رباط في جوابه بتاريخ 16 أيلول 1978 إلى اعتبار أن نظرية الظروف الاستثنائية وضرورة تأمين استمرارية المصالح العامة تسمح ببقاء رئيس المجلس ومكتبه ولجانه "في هيئتها الحاضرة وذلك شريطة أن يتوفر الإثبات الرسمي عن طريق دعوة النواب، مرّتين أو أكثر، إلى حضور الجلسة، اللهم إلا إذا كانت الظروف من الشدّة لدرجة أنه لا يمكن التخيل حتى إمكانية توجيه هذه الدعوة وعقد الجلسة".
لكن مجلس النواب سيتمكن من انتخاب أعضاء مكتبه في 17 تشرين الأول 1978 ولن تطرح المشكلة مجددا إلا سنة 1988 عندما عجز البرلمان عن انتخاب أعضاء المكتب في بداية عقد تشرين الأول، لا بل أن مجلس النواب لن يتمكن من الاجتماع إلا في 5 تشرين الثاني 1989 من أجل تجديد انتخاب مكتبه أي بعد تأخير ملحوظ كون جلسة الانتخاب كان يجب دستوريا أن تعقد في 17 تشرين الأول 1989.
وانطلاقا من هذا المبدأ الذي يرفض شلّ عمل السلطة التشريعية وتوقف عمل اللجان النيابية، كان من الجائز تمديد عمل هذه الأخيرة لا سيما وأن وجودها ينبع بالكامل من النظام الداخلي إذ لا نصّ دستوري في لبنان يتعلق باللجان النيابية أو يحدد ولايتها أو كيفية انتخابها. وهذا ما حصل بالفعل سنة 2019 مع اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد السلطة السياسية إذ لم يتمكن مجلس النواب من الاجتماع في الموعد الدستوري ما دفع بمكتب المجلس إلى اتخاذ القرار التالي: "وبما أن الظروف الاستثنائية الحاضرة، ولا سيما الأمنية منها حالت دون انعقاد المجلس لإتمام عملية انتخاب اللجان، وبناء على سوابق اعتمدها المجلس النيابي، واستشارة قانونية من الدكتور إدمون رباط، الذي قضى باعتبار اللجان النيابية قائمة بجميع أعضائها، وفقاً لقاعدة استمرارية المؤسسات حتى يتم إنتخابها، تقرر اعتبار اللجان النيابية الحالية قائمة بجميع أعضائها الحاليين".
لكن هذا الحل الذي تم اعتماده يمكن انتقاده في نقطتين:
- أن التمديد للجان النيابية على الرغم من ضرورته لا يجب أن يحول دون انتخاب لجان جديدة في أول جلسة يتمكّن مجلس النواب من عقدها عند زوال الظرف الاستثنائي، وهذا الذي لم يحدث سنة 2019 إذ تم اعتبار أن التمديد للجان هو لسنة كاملة ولم يتم انتخاب لجان جديدة إلا في تشرين الأول من سنة 2020.
- إن بقاء اللجان يتمّ استنادا إلى مبدأ استمرارية السلطات العامة ولا يحتاج إلى "قرار" من مكتب المجلس الذي يكتسي قراره في الحقيقة الطابع الإعلاني وليس الطابع الإنشائي إذ لا يحق له اعتبار أن اللجان أصبحت بحكم منعدمة الموجود.
ولا شكّ أن هذه النقطة الأخيرة تصبح أكثر وضوحا عند طرح قضية التمديد لأعضاء مكتب المجلس، أي أمناء السر والمفوضين، الذين يشكلون غالبية أعضاء هذا المكتب (خمسة من أصل سبعة مع الرئيس ونائب الرئيس). فهل يحق لمكتب المجلس الذي اتّخذ قرارا بالتمديد للجان النيابية أن يمدّد لنفسه؟ إذ أن مكتب المجلس سنة 2019 لم يتخذ قرارا صريحا بالتمديد لنفسه على الرغم من انتهاء ولاية خمسة من أعضائه، وهو لا يستطيع أن يتخذ هكذا قرار كون ذلك يخالف مباشرة المادة 44 من الدستور التي تفرض التجديد السنوي لأمناء السر. لذلك يمكن الاستنتاج أن استمرار مكتب المجلس سنة 2019 بالقيام بدوره كانت نتيجة الظرف الاستثنائي عملا برأي رباط ما يعيد طرح الاشكالية ذاتها المتعلقة بالتمديد للجان النيابية. فاستمرار أمناء السر والمفوضين في مواقعهم كان يجب أن يقتصر على فترة الظرف الاستثنائي بحيث يعمد مجلس النواب إلى انتخابهم مجددا في أول جلسة يتمكن من عقدها عند عودة الحياة الطبيعية على أن تنتهي ولايتهم في بدء عقد تشرين الأول المقبل، وهذا ما حصل سنة 1989 كما مرّ معنا سابقا. لكن ذلك لم يحدث سنة 2019 إذ جرى التمديد لأمناء السر والمفوضين لسنة كاملة من دون وجود أي قرار صريح بذلك، ومن دون أن يعمد مجلس النواب لاحقا إلى مناقشة هذا الأمر والتصديق أقله على هذا التمديد.
لكن كل هذا التعليل لا ينطبق إلا في حال وجود ظروف استثنائية حقيقية تمنع مجلس النواب من الاجتماع بشكل مطلق، ما يعني أن رئيس المجلس ملزم بتوجيه الدعوة في 22 تشرين الأول المقبل ولا يمكن التمديد لأعضاء المكتب أو اللجان إلا في حال فشل المجلس من الاجتماع على الرغم من دعوته من رئيس المجلس. وقد منح رباط في رأيه وإن بشكل محدود جدا إلى رئيس المجلس صلاحية تفسير مدى خطورة الوضع عند قوله بأن دعوة مجلس النواب واجبة إلا في حال كانت الظروف من الشدة لدرجة يستحيل حتى توجيه الدعوة لمعرفة رئيس المجلس النواب المسبقة بعدم قدرة النواب على الحضور. ولا شك أن هذا الواقع غير متحقق اليوم كون نواب كثر من كتل مختلفة يبدون رغبتهم بحضور جلسات مجلس النواب ويصرون على ضرورة دعوته للقيام بدوره الدستوري.
مع الإشارة أن رباط كان قد كرر موقفه في استشارة ثانية بتاريخ 5 تشرين الأول 1987 إذ اعتبر "إن الرئاسة والمكتب مضطران إلى أن يبقيا مستمرين في تعاطي شؤون المجلس على الرغم من انقضاء مهلة السنة التي تمّ من أجلها انتخابهما، وذلك عملا بمبدأ استمرارية الدولة ومؤسساتها وإداراتها كافة. ويقتضي عليهما عندئذ المثابرة على دعوة النواب، مرة أولى وثانية وثالثة إلى ما لا نهاية من الأيام والمواعيد" ما يؤكد أن التمديد لا يمكن أن يتم تلقائيا لسنة كاملة بل فقط حتى يتمكن المجلس من الاجتماع لانتخاب أعضاء مكتبه واللجان.
وفي ملاحظة ختامية لا بد من التذكير باستحقاق دستوري منسي يتعلق بالفقرة الأخيرة من المادة 44 من الدستور التي أضيفت سنة 1990 والتي تسمح لمجلس النواب "ولمرة واحدة، بعد عامين من انتخاب رئيسه ونائب رئيسه، وفي أول جلسة يعقدها، أن ينزع الثقة من رئيسه، أو نائبه بأكثرية الثلثين من مجموع أعضائه بناء على عريضة يوقعها عشرة نواب على الأقل". لذلك كان من المفيد اليوم التذكير بهذه الصلاحية لا سيما وأن السيد نبيه بري قد جرى انتخابه للمرة السابعة كرئيس لمجلس النواب بتاريخ 31 أيار 2022، ما يعني امكانية تنحيته بعد 31 أيار 2024 في أول جلسة يعقدها المجلس. وبما أن آخر جلسة عقدها البرلمان كانت بتاريخ 15 أيار 2024 ما يعني أن الجلسة الحكمية المقبلة بتاريخ 22 تشرين الأول ستكون أول جلسة يعقدها المجلس بعد سنتين من انتخاب رئيسه ما يفتح المجال لتطبيق المادة 44 من الدستور والتصويت على تنحية هذا الأخير.
إن الاستحقاقات الدستورية التي يواجهها لبنان تضع السلطة السياسية أمام مسؤولياتها إذ لم تعد هذه الأخيرة تستطيع المراوغة وهدر الوقت أملا يتحقيق مكاسب سلطوية في المستقبل على حساب الدولة والمجتمع. فالأزمة الوطنية الكبرى التي يمرّ بها لبنان تفرض بشكل ملح العودة إلى العمل الطبيعي والمنتظم للمؤسسات الدستورية. إن المقاومة الحقيقية للعدوان تتم عبر تحصين المجتمع من خلال وجود دولة تحشد جميع الموارد والإمكانات التي تتيح لها الدفاع الفعلي عن كرامة المواطنين بالأفعال وليس بالشعارات التي تختفي مع سقوط أول قذيفة.
[1] يفتتح عقد تشرين الأول عملا بالمادة 32 من الدستور في أول ثلاثاء يلي الخامس عشر من تشرين الأول، وبما أن الخامس عشر يقع هذه السنة نهار ثلاثاء فإن بدء العقد سيكون في الثلاثاء الذي يليه مباشرة أي في 22 تشرين الأول 2024. وقد سبق وأن صادف وقوع 15 تشرين الأول يوم الثلاثاء أكثر من مرة في الأعوام 1985 و 1968 و 1963 و 1946 ما أدى إلى افتتاح العقد بعد أسبوع أي في 22 تشرين الأول من هذه الأعوام.