اقتراح إحياء خدمة العلم والتدريب العسكري: الانصهار الوطنيّ في ظل حراك لمأسسة الطائفة العلوية

نيقولا غصن

16/05/2024

انشر المقال

تقدم النائب حيدر ناصر بتاريخ 8 أيّار 2024 باقتراح معجل مكرر يرمي إلى "تشريع التدريب العسكري وخدمة العلم". وقد نصّ الاقتراح في البند الأول من مادته الوحيدة على إلغاء القانون رقم 665 الصادر سنة 2005 الذي يلغي خدمة العلم وإعادة العمل "بقانون خدمة العلم رقم 38 تاريخ 06/12/1972 وتعديلاته وكافة القرارات الصادرة عن قيادة الجيش السابقة للقانون رقم 665 تاريخ 12/04/2005". كذلك نصّت الفقرة الثانية على إعادة العمل "بقانون التدريب العسكري في معاهد التعليم تاريخ 8 كانون الأول 1953" على أن يتم بحسب البند تخفيض "خدمة المواطنين الذين خضعوا لدورات التدريب العسكري المبينة من سنة إلى ستة أشهر". ويفوض الاقتراح في بنده الأخير وزارتيْ الدفاع والتربية الوطنية بإصدار المراسيم التطبيقية لتنظيم خدمة العلم والتدريب العسكري.

ويبرر النائب ناصر اقتراحه بأنّ ثمّة ضرورة في إعادة العمل بالتدريب العسكري وخدمة العلم نظرًا "لوطأة الظروف الاقتصادية القاهرة، وحالة التفلت الأمني الناشئ عن الأزمات الإقليمية والأخطار الدائمة التهديد للجمهورية اللبنانية" والتي، بحسب مقدم الاقتراح، تجعل من "متحدات المجتمع اللبناني منفصلة عن بعضها البعض معاشًا وقيمًا" ما يؤدّي إلى تحويل المجتمع اللبناني إلى "مجموعة متحدات يلتقون فقط في حمل الجنسية اللبنانية دون أن يكون لهذه الجنسية كينونةً في وجدان المواطنين". وتعتبر الأسباب الموجبة بأن "التحديات الكبرى التي تحيط بالوطن اللبناني، ودعوات التطرف والكراهية تشكل تهديدًا جديًّا لا يمكن مجابهته بالقوى الزجرية (...) إنما يجب أيضًا وجود الوازع الأخلاقي المعنوي".

بالإضافة إلى هذه الاعتبارات، تشير الأسباب الموجبة إلى "نقص العديد في القوى العسكرية وحالات الفرار والأزمة الاقتصادية الحالّة بالبلاد، وحالة التفلت الأمني التي تلقي بثقلها على كاهل المؤسسة العسكرية" الذي "يستدعي رفد هذه المؤسسة بعديد يناسب حاجاتها الملحّة، دون أن تتكبد خزينة الدولة أعباء إضافية"، وتختم بالتشديد على الضرورة الملحة للتصدي إلى موضوع التدريب العسكري والخدمة العسكرية "لأن الأجيال التي تنشأ بعيدًا عن عقيدة التلاحم الوطني ستكبر وتكبر معها الإشكالات الناتجة عن غياب التربية الوطنية".

 

إن هذا الاقتراح يستدعي الملاحظات التالية:

لغط حول القانون الذي يرمي الاقتراح إعادة العمل به

إن الاقتراح في بنده الأول ينقل تاريخ قانون خدمة العلم بشكل خاطئ. إذ إنه ينص على إعادة العمل بالقانون "رقم 38 تاريخ 06/12/1972"، بينما تاريخ إصدار القانون الفعلي هو 06/12/1975.

لكن إذا ما تركنا هذا الخطأ جانبًا، يبقى من المستغرب أن يعمد الاقتراح إلى إعادة إحياء قانون 1975 كون النص المعمول به والذي كان ينظم خدمة العلم قبل 2005 موجود في الباب الخامس من المرسوم الاشتراعي رقم 102 الصادر سنة 1983 (قانون الدفاع الوطني). لا بل أن المادة 158 من هذا الأخير نصت صراحة على إلغاء قانون خدمة العلم لسنة 1975، ما يعني أن إلغاء القانون رقم 665 الذي يلغي المواد المتعلقة بخدمة العالم في قانون الدفاع الوطني سيعيد إحياء هذه المواد بالذات من دون الحاجة إلى إعادة العمل بقانون 1975 الذي جاء قانون الدفاع الوطني ليحلّ محله. لذلك كان من الاجدى بصاحب الاقتراح وتفاديًّا للغط الحاصل عدم التطرق إلى قانون سنة 1975 والاكتفاء بإلغاء القانون رقم 665 بالإضافة إلى النص صراحة على إعادة العمل بأحكام الباب الخامس من قانون الدفاع الوطني كي يعاد العمل بخدمة العلم.

وما يؤكد هذا الأمر هو أن الاقتراح ينص على إعادة العمل بالمراسيم التطبيقية وقرارات قيادة الجيش الصادرة بموجب قانون خدمة العمل قبل الغائه، علما أن هذه المراسيم والقرارات اتخذت سندا لقانون الدفاع الوطني لسنة 1983 وليس عملا بقانون 1975 الملغى. وهكذا يكون الاقتراح قد أعاد إحياء قانون 1975 من جهة لكنه أيضا أعاد العمل من جهة أخرى بمراسيم وقرارات اتخذت عملا بمواد موجودة في قانون الدفاع الوطني ما يعني أنه في حال تم تبني الاقتراح سوف يعاد العمل بنصين مختلفين هما قانون 1975 والباب الخامس من قانون الدفاع الوطني الذي كما ذكرنا ألغى في المادة 158 قانون خدمة العلم لسنة 1975.

وتظهر المشكلة بشكل أوضح عند المقارنة بين النصين. إذ أنّ قانون الدفاع الوطني استعاد حرفيّا الغالبية العظمى من قانون 1975 لكنه يختلف عنه في عدد محدود من المواد. فعلى سبيل المثال، نصّت المادة 12 من قانون 1975 على منع "كلّ لبناني أتمّ السابعة عشرة ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره من مغادرة الأراضي اللبنانية ما لم يرخص له بذلك" من قيادة الجيش في وزارة الدفاع بينما لا يحتوي قانون الدفاع الوطني لسنة 1983 على هكذا نص لكنه يكتفي بإلزام الخاضعين لموجب خدمة العلم الراغبين في مغادرة البلاد "للإقامة في الخارج سنة وما فوق أن يودع عنوانه قبل سفره وزارة الدفاع الوطني" والأمن العام والدائرة القنصلية التابع لها عند وصوله إلى بلد المقصد.

وهكذا يتبين أن الاقتراح يؤدي إلى وضع قانوني مستغرب إذ يعيد العمل بنصين مختلفين على الرغم من تناولهما للموضوع نفسه ما قد يخلق تضاربا بين أحكامهما هذا فضلا عن إعادة العمل بقانون بينما النص الذي يلغيه في المادة 158 من قانون الدفاع الوطني لا يزال قائما.

والإشكالية نفسها تطرح بخصوص التدريب العسكري في المدارس كون المادة 35 من قانون 1975 نصت صراحة على إلغاء قانون التدريب العسكري الصادر سنة 1953 ما يعيدنا إلى اللغط القانوني نفسه كون الاقتراح يعيد إحياء نصّين في حين أن النص الأحدث (قانون 1975) كان قد هدف إلى إلغاء واستبدال النص الأقدم (قانون 1953)، ما يعني أن نيّة المشترع اعتبرت حينها أنه يمكن الاكتفاء بخدمة العلم من دون الإبقاء أيضا على التدريب العسكري في المدارس.

 

محاربة الطائفية بعسكرة الشباب

جاء الاقتراح الحالي بعد تقديم النائب حيدر ناصر لاقتراحين الهدف من أولهما إنشاء حي جبل محسن في مدينة طرابلس بينما الهدف من ثانيهما إنشاء بلدية في قرية "ضهور الهوا". وقد ظهر جليا أن  النائب ناصر  كان يرمي إلي تعزيز مشاركة الطائفة العلوية في إدارة شؤونها المحلية عبر تأمين التمثيل الصحيح لجهة عدد المخاتير في جبل محسن ولجهة إنشاء بلدية ضهور الهوا التي يقطنها غالبية من العلويين. 

وهكذا يتبين أن الاقتراح الحالي جاء كي يعيد التوازن بالنسبة لمقدم الاقتراح بين اعتبارات الدفاع عن حقوق الطائفة وحسن تمثيلها وبين نبذ الطائفية والتشرذم في المجتمع اللبناني والدفع إلى تغليب الوحدة الوطنية والتلاقي بين اللبنانيين على اختلاف مشاربهم الطائفية.

ويظهر ذلك في الحقل المعجمي الذي تستخدمه الأسباب الموجبة التي تشدد على اللحمة والتلاقي بين "مكونات" المجتمع اللبناني وأهمية العيش الواحد بين "متّحدات" الشعب اللبناني التي باتتْ منفصلة عن بعضها البعض بسبب الأزمة الاقتصادية والتفلت الأمني.

فالاقتراح الحالي يعيد تكرار الصورة النمطية التي يرددها الخطاب العام حول الجيش ودوره في تعزيز الوعي الوطني كبوتقة للانصهار والتلاقي بين اللبنانيين المختلفين طائفيا، وكأن التنوع الطائفي هو مشكلة تعيق اكتمال المواطنة لا بد من تخطيها عبر "صهر" اللبنانيين ودمجهم قسريا من خلال عسكرة حياة الشباب وإرغامهم على التواجد سويا داخل الجيش.

ولا شكّ أن هذه النظرة تعود إلى ما قبل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. إذ أعلن رئيس الحكومة صائب سلام  أمام مجلس النواب في جلسة 17 تشرين الأول 1970 لدى تلاوة البيان الوزاري عن نيّة حكومته بالتقدم من مجلس النواب بمشروع قانون خدمة العلم من أجل تعزيز قدرات الجيش البشرية وتعزيز معنوياته. وقد استمرّ الجدال حول هذا المشروع لسنوات طويلة إذ لم يتم إقراره إلا بعد خمس سنوات في جلسة 2 كانون الأول 1975 وبمادة وحيدة أي بعد اندلاع ما بات يعرف اليوم بالحرب الأهلية في 13 نيسان 1975 وذلك نظرا لأهميته ومن أجل "خلق رفقة السلاح بين الشباب اللبناني بدلا من أن يتوزع هذا الشباب على تيارات غريبة عن هذا البلد وتيارات تعمل دائما وستبقى تعمل من اجل تهديم وتخريب هذا البلد" وفقا لما أعلنه النائب بشير الأعور في الجلسة نفسها.

من هنا وفي الظروف الحالية يُطرح السؤال حول مدى ملاءمة التدريب العسكري وخدمة العلم مع الهدف المنشود من قبل مقدم الاقتراح، إذ هو يتوخى أسلوب الفرض والإرغام المتمثل بالحياة العسكرية من أجل تعزيز الوحدة الوطنية. فالفرز الطائفي الذي يشير إليه الاقتراح لا يمكن مواجهته من خلال مؤسسة الجيش عبر خدمة العلم أو التدريب العسكري في المدارس مع الإبقاء على التهميش الكامل لمنطق الدولة في سائر المشاكل التي يواجهها المجتمع اللبناني وفي ظل سيطرة نظام سياسي قائم على التحريض الطائفي وإضعاف عمل المؤسسات الرسمية.

صحيح  أن التدريب العسكري في المدارس أو الخدمة قد يكونان مدخلا لتعزيز اللحمة الوطنية، لكن نجاحهما مشروط بقيام دولة القانون واستقامة العدالة وصون حقوق المواطنين وحسن عمل مؤسسات الدولة، كي لا تكون خدمة العلم فسحة من الزمن منفصلة تمامًا عن الواقع، وكي لا تتحول هذه التجربة التي يمرّ بها الشباب اللبناني إلى عالم مثالي (مفروض بالقوة) ما يلبث أن يخرج منه المواطنون ليعودوا إلى نظام تهيمن عليه الزعامات الطائفية حيث لا يتمكن الأفراد من تحصيل حقوقهم إلا عبر الاستتباع والخضوع للمنطق الزبائني.

ومن الملاحظات المعبرة أن خدمة العلم تستهدف أساسا وبشكل إلزامي الذكور من اللبنانيين بينما اللبنانيات عملا بالمادة الرابعة من قانون 1975 (أو 104 من قانون الدفاع الوطني) "يخضعن لهذه الخدمة عند الاقتضاء بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء تحدد فيه شروط ومجال استخدامهن"، ما يعني أن خدمة العلم للبنانيات ليست إلزامية إلا في حال صدور مرسوم بذلك. وهكذا يتبين أن الوحدة الوطنية التي يريد الاقتراح تعزيزها تقتصر على الذكور وكأن المرأة لا دور لها في الحياة العامة. كأنما يكفي تأمين التوافق الذكوري كي يصبح المجتمع بحالة وئام إذ إن المرأة تكون دائما تابعة وفقا لهذا المنطق إلى ما يقرره الرجال.

إن عسكرة حياة الشباب لتعزيز الوعي الوطني تنسحب عملا بهذا الاقتراح على الحياة المدرسيّة عملا بقانون التدريب العسكري المعاد العمل به. قانون التدريب العسكري الصادر سنة 1953 يستهدف إلزاميا الذكور من "طلبة صفي "البكالوريا" من مرحلة التعليم الثانوي وطلبة الصفوف المقابلة لها في مراحل التعليم الأخرى وطلبة الصفين الأخيرين من المدارس الصناعية والزراعية والمهنية والمسلكية وما شابهها، على أن لا يقلّ سنّ الطالب عن الخمس عشرة سنة (المادة 2) وذلك بهدف "إعداد الطلاب للحياة العسكرية وتحضيرهم للعمل في وحدات الجيش أو في بعض مصالحه عند الحاجة" (المادة الأولى) بينما "تخضع الطالبات لتدريب الدفاع السلبي" من دون تعريف ما هو الفرق بين التدريب العسكري والدفاع السلبي، على أن تتولى قيادة الجيش في وزارة الدفاع الوطني "التدريب العسكري المحض" الذي يشمل استعمال السلاح والمعدات العادية والفنية.

 

غموض الاقتراح وتداعياته المالية غير المدروسة

لم يلحظ الاقتراح دراسة للأثر المالي لإعادة العمل بخدمة العمل لما فيها من أعباء مالية على خزينة الدولة إذ بموجب المادة 114 من قانون الدفاع الوطني "يتقاضى المجنّد خلال مدة خدمته تعويضا شهريا رمزيا مقطوعا يحدد بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء" هذا فضلا عن النفقات المترتبة على "التغذية والسكن واللباس" التي ستزداد بشكل كبير من دون معرفة مدى توفر الإمكانية المادية في ظل الأزمة المالية الكبيرة التي تعاني منها كافة مؤسسات الدولة ومن بينها الجيش.

وما يفاقم من هذا الخلل هو أن الاقتراح بإعادة العمل بالأحكام القانونية التي ترعى خدمة العلم يكون قد فرض على جميع اللبنانيين الذكور الذين أتموا الثامنة عشرة من عمرهم هذه الخدمة مجددا من دون تحديد إذا ما كان ذلك يشمل جميع اللبنانيين الذين لم يقوموا بهذه الخدمة منذ إلغائها سنة 2005 أو أن هذا الواجب سوف يتم تطبيقه انطلاقا من تاريخ معين بحيث لا يخضع له مثلا إلا اللبنانيون الذين أتمّوا الثامنة عشرة بعد هذا التاريخ. فالاقتراح بصيغته الحالية يفهم منه أنّه قابل للتطبيق على جميع اللبنانييّن الذين أتموا الثامنة عشرة من عمرهم ما يطرح تساؤلات حول قدرة الجيش لوجستيا على استيعاب هذا الكم الهائل من المجندين الجدد.

والمستغرب أن الاقتراح ينص على إعادة العمل من جهة بالمراسيم والقرارات التطبيقية لخدمة العلم لكنه من جهة ثانية ينص أيضا في بنده الأخير على تفويض وزارة الدفاع الوطني إصدار المراسيم التطبيقية لتنظيم خدمة العلم. ففي حال وضعنا جانبا الخطأ الدستوري في الصياغة كون وزير الدفاع يتولى فقط اقتراح المراسيم بينما إصدار هذه الأخيرة هو من صلاحيات رئيس الجمهورية فقط، يبقى أن الحاجة للحظ إصدار المراسيم من قبل الاقتراح منتفية أصلًا نظرًا لأن القانون المُعاد العمل به يمنح السلطة التنفيذية صلاحية إصدار تلك المراسيم التنظيمية، هذا فضلا عن التضارب بين الاقتراح والقوانين المعاد العمل بها التي تحتوي على أحكام مختلفة في هذا الشأن إذ تنص على أن المراسيم التنظيمية في بعض المجالات المتعلقة بخدمة العلم والتدريب العسكري تصدر بعد موافقة مجلس الوزراء أي أن الاقتراح يضع آلية تطبيقية تخالف تلك الملحوظة في قانون 1975 وقانون 1953.

 

في الخلاصة، يعبر مقدم الاقتراح عن التناقض الدائم في الخطاب السياسي اللبناني الذي يدافع عن حقوق الطوائف من جهة ويدين الطائفية من جهة أخرى. ولا شك أن الاقتراح الحالي يجد أن الحل للمشكلة الطائفية يقوم على فرض التعايش بين اللبنانيين لا سيما الذكور منهم عبر إلزامهم بالتدريب العسكري في المدرسة ومن ثم عبر دمجهم من خلال خدمة العلم في الجيش. وهكذا يظهر أن الاقتراح يتبنى مقاربة أمنية وعسكرية للوحدة الوطنية، أي أنه في المحصلة النهائية يمكن اختصار هذا القانون بمقولة "الجيش هو الحل".

 

للاطّلاع على الاقتراح المعجل المكرر الذي يرمي إلى "تشريع التدريب العسكري وخدمة العلم"