الحكومة تعترف بجريمة تذويب 30 مليار د.أ من الودائع: تخصيص إيرادات ضريبية لصندوق غير موجود

لين أيوب

21/08/2024

تقدّمت حكومة تصريف الأعمال في 12/8/2024، بمشروع قانون طلبت إحالته إلى مجلس النواب، يرمي إلى تخصيص بعض الإيرادات الضريبية لتمويل صندوق استرجاع الودائع المزمع انشاؤه. وبموجب المشروع، “يُطلب” من الإدارة الضريبية المختصة التدقيق في تصاريح المكلفين المقترضين لدى المصارف الذين أعادوا تسديد موجباتهم وديونهم بسعر صرف وبقيمة مختلفة عن القيمة الفعليّة لدينهم وحققوا من خلال فروقات الصرف والتسديد أرباحاَ. وفي حال تبين للإدارة ما يوجب تعديل التصريح أو فرض ضريبة إضافية، تصدر التكاليف اللازمة وتبلّغها للمكلف. وقد استثنى المشروع من استدراك الضرائب المتوجبة القروض السكنية والاستهلاكية الفردية وقروض التجزئة الشخصية التي لا تزيد قيمتها بتاريخ منحها عن 100 ألف دولار. وتخصص هذه الإيرادات التي ستحصلها الدولة لتمويل صندوق استرجاع الودائع المنوي انشاؤه في سياق اقتراح قانون إعادة التوازن المالي أو أي صندوق آخر مخصصّ لذات الغاية. 

هذا وقد أشارت الحكومة بحسب ما ورد في الأسباب الموجبة لمشروع القانون إلى فئتين من المقترضين ممن حققوا أرباحا من خلال إيفاء قروضهم خلال الأزمة المالية. الفئة الأولى تتكوّن من مقترضين سددوا مستحقاتهم “بتغطية من السلطة الناظمة (العبارة للحكومة)… بقيمة أدنى بكثير من قيمتها الحقيقة وذلك من خلال شراء ذمم دائنة في المصارف من مودعين محجوزة ودائعهم وبالتالي تحقيق أرباح باهظة على حساب هؤلاء وسواهم من المودعين”، ممّا “أذاب نحو ثلاثين مليار د.أ. من ودائع الناس ورؤوس أموال المصارف”. أما الفئة الثانية فتتكوّن من مقترضين سددوا قروضهم بالعملة الأجنبية وذلك بالليرة اللبنانية على أساس تعاميم مصرف لبنان أي وفق سعر الصرف المحدد منه في تعاملاته مع المصارف (أي 1507 ليرة للدولار الواجدة) رغم تهاوي سعر الصرف ليتعدى مائة ألف ليرة للدولار الواحد. وعليه، رأى الاقتراح أن هاتين الفئتين حققتا أرباحا كبيرة على حساب المودعين و“رؤوس أموال المصارف” على نحو أدى إلى ضرب مبدأي العدالة والمساواة المصانيْن دستوريا. 

إلى ذلك، أكّدت الأسباب الموجبة على أنّ قانون ضريبة الدخل كرّس المبدأ المتعارف عليه على أن لا يبقى دخل أو ربح غير خاضع للضريبة ما لم يكنْ هنالك من استثناء وإعفاء صريحين وفقا للأصول. ومن هذه الجهة، هدفت الأسباب الموجبة إلى تجنب الانتقادات التي كانت وجهت سابقا لفرض ضريبة على أرباح صيرفة على خلفية عدم جواز فرض ضريبة بصورة رجعية، مذكرة أن الضريبة مستحقة فعليا وأن جلّ ما يهدف إليه مشروع القانون هو تحصيلها. 

وأخيرا، ورغم تذكير الأسباب الموجبة بمبدأ شمول الموازنة أي وجوب إيداع أي إيراد في موازنة الدولة من دون تخصيصه لإنفاق محدد، فإنها عادت واعتبرت أن لها أن تدخل استثناء على هذا المبدأ عملا بما يسمى بالضرائب المخصصة earmarked taxes. ولئن خلصت الأسباب الموجبة إلى ضرورة تخصيص الضريبة المستوفاة لتسديد خسائر المودعين، فإن مشروع القانون انتهى إلى تخصيصها لغرض تمويل “صندوق استرجاع الودائع”، علما أن هذا الصندوق غير موجود وقد وردت فقط نيّة إنشائه في بعض اقتراحات القوانين التي لم تدرس بعد.  

وعليه، يستدعي هذا المشروع الملاحظات الآتية:

1- صياغة مبهمة وغير قانونية

بداية، وقبل أن نبدي ملاحظاتنا على مضمون المشروع، تجدر الإشارة إلى العديد من الهفوات التشريعية التي تشوبه وعدم الوضوح الذي يعتريه. 

فمن جهة أولى، تستهلّ الحكومة مشروع القانون بأن “تطلب” من الإدارة الضريبية مراجعة وتدقيق تصاريح المكلفين. وإيراد عبارة “يطلب” يثير أسئلة كثيرة كونه يخلو من الصيغة الملزمة. فكأنما القانون يطلب أو يتمنى ولا يفرض. 

ومن جهة ثانية، فإن مشروع القانون يخلو من الوضوح في تحديد الربح الخاضع للضريبة، حيث وصفه بأنه الربح الذي حققه المقترضون الذين سددوا ديونهم بسعر صرف وبقيمة مختلفة عن القيمة الفعلية، من دون أي تعريف أو تحديد. وفيما تحدثت الأسباب الموجبة عن فئتين من المقترضين الذين حققوا أرباحا مماثلة، فإن العبارات الواردة في مشروع القانون أتت مبهمة من دون ذكر أي منهما أو شروط تحقق الضريبة. فما هو سعر الصرف الفعلي؟ وكيف يحدد في ظل اعتماد مصرف لبنان ومعه الحكومة مروحة واسعة من أسعار الصرف. 

وأخيرا، يتفاقم اللغط في مشروع القانون من خلال تخصيص الضريبة المزمع استيفاؤها لتمويل صندوق استرجاع الودائع. ولكن عن أيّ صندوق نتحدّث؟ هنا لا تجد الحكومة حرجا في تضمين المشروع ما مفاده أنه صندوق غير موجود وحرفيا أنه الصندوق “المنوي إنشاؤه من قبل السلطة التنفيذية في سياق اقتراح قانون إطار لإعادة التوازن للانتظام المالي في لبنان أو أي صندوق آخر مخصص لهذه الغاية”. يفهم من ذلك أن ثمة مشروع قانون يقوم على تخصيص ضريبة لصندوق ما يزال غير موجود يفترض أن يتم إنشاؤه في قانون آخر! وهذه قمة العبث.

2- مشروع يخلو من الأحكام الزاجرة

رغم أن مشروع القانون أكّد توجّب الضريبة وتاليا حصول تهرب ضريبي من خلال عدم التصريح عنها، فإنه اكتفى بتكليف الإدارة الضريبية درس ملفاتهم من دون أن يضع أي موجب تصريح خلال مهلة معينة على المقترضين. وهو في الآن نفسه، خلا من أي آليات عقابية أو زجرية خاصة لإلزام هؤلاء في تسديد الضرائب المتوجبة عليهم.  

3- تحويل وجهة المحاسبة من المسؤولين عن الأزمة إلى المستفيدين منها… و”بالمفرق”

يسعى مشروع القانون هذا إلى الإضاءة على فئة أخرى استفادت من الأزمة، وهي فئة المقترضين الذين سدّدوا قروضهم خلالها مستفيدين مما أسماه “الثغرة المالية”. ويأتي مشروع القانون هذا بعدما كان قانون الموازنة العامة 2024 فرض من قبل ضريبة على فئتين أخريين استفادتا من الأزمة هما الفئة التي استفادت من عمليات صيرفة والفئة التي استفادت من سياسات الدعم (أبطل المجلس الدستوري فرض ضريبة على هذه الفئة)، كل ذلك في ظل تعتيم رسمي وحكومي كامل على الفئات المسؤولة عن الأزمة وفي مقدمتها المصارف والمستفيدين من التحويلات إلى الخارج. وعدا عن كون المعالجة تأتي هنا بالمفرق، فكأننا أمام مسعى لتحويل وجهة المحاسبة من المسؤولين عن الأزمة إلى المستفيدين منها. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو أن الأسباب الموجبة ذهبت هنا أيضا إلى تصوير أصحاب الرساميل في المصارف بمثابة ضحايا للعمليات التي يهدف المشروع إلى إخضاعها للضريبة. 

وأبعد من ذلك، يلحظ أن المشروع لم يترافق مع أي خطوات محسوسة لمحاسبة المسؤولين عن “الثغرة المالية”، رغم طابعها المدمر والكارثي وفق ما جاء بوضوح كلي في أسبابه الموجبة.   

4- مخالفة مبدأيْ الشمول والشيوع لغايات غير معروفة

أخيرا، ولئن بررت الأسباب الموجبة تخصيص الضريبة المزمع استيفاؤها، فإن تخصيصها تم لتمويل صندوق غير موجود كما سبق بيانه، والأهم لغايات مجهولة. بمعنى أن الإشكالية تتأتى ليس فقط من تمويل صندوق لم ينشأ بعد، بل أيضا من تمويل صندوق لا نعلم أصول إنشائه ولا كيفية صرف أمواله أو المستفيدين منها. فكأنما التخصيص يحصل لتمويل نفقات غير معلومة. وما يزيد من مشاعر القلق إزاء مجهولية المستفيدين من التخصيص هو أن الأسباب الموجبة أوردت صراحة ضمن الجهات المتضررة من عمليات تسديد القروض أصحاب المصارف، فاتحة بذلك الباب أمام تخصيص عائدات الصندوق لتسديد تعويضات لهم.   

 

للاطّلاع على مشروع قانون الحكومة الرامي إلى تخصيص بعض الإيرادات الضريبية لتمويل صندوق استرجاع الودائع