السلطة الخفية تحت المجهر (4): اقتراح غير مدروس لإرساء "التشريع المدروس"

وسام اللحام

04/01/2023

انشر المقال

تنشر المفكرة القانونية تعليقات مرصدها البرلماني حول بعض الاقتراحات التشريعية. بينت في مقال سابق بروز ظاهرة تقديم اقتراحات تعديلية للنظام الداخلي، حيث قدمت 5 اقتراحات في هذا الخصوص, ننشر هنا تعليقنا  على اقتراح تقدّم به النائب فريد البستاني من أجل تعديل المادة 49 من النظام الداخلي القديم وقد حلّ محلها المادة 41 من النظام الحالي (المحرر). 

تقدم النائب فريد البستاني في 14 تشرين الثاني 2022 باقتراح من أجل تعديل المادة 49 من النظام الداخلي لمجلس النواب بحيث لا يتم الاكتفاء بوضع تقرير يتضمن مختلف الآراء والمواقف التي تم التعبير عنها خلال مناقشة مشروع أو اقتراح قانون في اللجنة المختصة، بل أيضا دراسة حول الأثر التشريعي أو الأثر المالي للقانون وذلك بعد استطلاع رأي هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل على أن تتم إحالة كل ذلك لاحقا إلى الهيئة العامة من أجل مناقشته قبل إقراره.

وقد جاءت الأسباب الموجبة لتشرح الغاية من هذا الاقتراح إذ اعتبرت أن "تحقيق القوانين لأهدافها يستوجب قياس أثرها التشريعي وذلك عبر إجراء دراسة تكون بمثابة أداة تنظيمية تمكن الجهات التشريعية والتنفيذية من افتراض نتائج ومنافع القوانين قبل إصدارها". وتضيف الأسباب الموجبة أن خلق تشريعات ذات جودة وكفاءة عالية يستوجب تحديد المشكلة التي يريد القانون معالجتها بوضوح مع تحديد الآثار الاقتصادية والاجتماعية والمالية والبيئية المترتبة عليها في حال إقراره على أن يتم أيضا وضع خطة زمنية لمتابعة تنفيذ القانون وتقييمه بشكل دوري.

جراء ما تقدم يتبين لنا أن هذا الاقتراح يستدعي ملاحظات عدة، أبرزها الآتية: 

اقتراح يعدّل نظاما داخليا لم يعد موجودا 

لا شك أن الملاحظة الأولى التي تفرض نفسها هي الخطأ الذي وقع فيه الاقتراح الذي يطلب بتعديل المادة 49 من النظام الداخلي القديم الذي أقر سنة 1982 وجرى تعديله في 6 حزيران 1991 بينما النظام الداخلي الحالي تم إقراره في 18 تشرين الأول 1994. فالمادة 49 من النظام الداخلي لسنة 1982 كانت تنص على التالي: "يجب أن يتضمن تقرير اللجنة مختلف وجهات النظر والآراء التي عرضت في اللجنة" بينما النظام الحالي تنص المادة 49 منه على التالي: " ينعقد مجلس النواب في دورات عادية واستثنائية وفقاً لأحكام الدستور" ما يعني أن المادة 49 اليوم لا علاقة لها بموضوع الاقتراح الذي أخطأ في تحديد المادة المعمول بها حاليا وهي المادة 41 التي تكرر حرفيا نص المادة 49 القديمة وفقا للتالي: "يجب أن يتضمن تقرير اللجنة مختلف وجهات النظر والآراء التي عرضت في اللجنة" أي أن المادة 49 من النظام الداخلي القديم لسنة 1982 باتت المادة 41 اليوم.

فرض التشريع "المدروس" من دون آليات تحقيقه 

لا شك أن اقتران مقترحات القوانين بدراسة حول الأثر التشريعي والمالي هو أمر يسمح لمجلس النواب بتكوين صورة أفضل عن الموضوع المدروس قبل التصويت عليه ما يساهم بتفعيل العمل التشريعي وإقرار قوانين أكثر وضوحا من حيث تشخيص المشاكل التي ينبغي معالجتها وتحديد الأهداف التي يريد القانون تحقيقها.

ويستشهد الاقتراح في أسبابه الموجبة بالتجربة الفرنسية التي تفرض تقديم دراسة حول الأثر التشريعي للبرلمان قبل الشروع في مناقشة وإقرار القوانين. وعلى الرغم من أن الغاية التي يتوخاها الاقتراح هي مهمة وتستحق المناقشة لكن التعديل المقترح يفشل على أكثر من صعيد بسبب طبيعته المبهمة وافتقاره إلى الدقة القانونية.

فالتجربة الفرنسية صحيح انها تفرض تقديم دراسة حول الأثر التشريعي لكنها تحصر ذلك في مشاريع القوانين التي تتقدم بها الحكومة بينما تبقى اقتراحات القوانين التي يتقدم بها النواب حرة من هذا الشرط. فالحكومة التي من المفترض أن تحدد السياسة العامة للدولة تستطيع من خلال سلطتها على أجهزة وإدارات هذه الأخيرة إعداد الدراسات المطلوبة كي تبين الأثر المالي والتشريعي للقوانين التي تتقدم بها بينما النائب العادي لا يملك مثل تلك الإمكانيات ولا يعقل بالتالي حرمانه من حقه الديمقراطي بوصفه منتخبا من الشعب باقتراح القوانين في حال لم يكن بمقدوره إعداد مثل هكذا دراسات. فالاقتراح بعدم تمييزه بين مشاريع واقتراحات القوانين يكون قد قيّد فعليا صلاحيات النائب الدستورية باقتراح القوانين عبر فرض أعباء قد تتخطى بأشواط إمكانيات النائب الفردية.  

علاوة على ذلك، الاقتراح لم يلحظ أي استثناء. فعلى سبيل المثال، المادة 11 من القانون العضوي الفرنسي ذاته تستثني المشاريع المتعلقة بتعديل الدستور وقانون الموازنة العامة من موجب إعداد دراسة حول الأثر التشريعي والمالي كما يلحظ استثناءات مهمة عندما يكون مشروع القانون يتعلق بإجازة إبرام معاهدات أو اتفاقيات دولية.  

كما يتسم نص الاقتراح بالغموض كونه يشير إلى أن تقرير اللجنة يجب أن يتضمن دراسة الأثر التشريعي أو المالي دون تحديد صراحة من سيتولى إعداد هذه الدراسة: فهل النائب مقدم الاقتراح تقع عليه هذه المهمة، وهو الأمر المنطقي الذي يتبادر إلى الذهن في أول الأمر، أو أن اللجنة هي التي ستتولى ذلك؟ وكيف يمكن للجنة أن تقوم بهذه الدراسة وهل هي تملك الإمكانيات المطلوبة لذلك خاصة إذا كان النص المقترح عبارة عن مشروع قانون تقدمت به الحكومة إذ من المفترض أن الجهة المسؤولة عن القانون هي التي يتوجب عليها الدفاع عنه وتبيان تأثيره على كافة الصعد.

النظام الداخلي للمجلس النيابي غير ملزم للحكومة أو أي من الإدارات العامة 

من جهة أخرى، يفشل هذا الاقتراح في فهم طبيعة النظام الداخلي لمجلس النواب إذ أنه يطلب استطلاع رأي هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل ما يفهم منه أن الهيئة يتوجب عليها إبداء رأيها في الدراسة المرفقة بالقانون حول الأثر التشريعي أو المالي للقانون. فالحكومة تملك الصلاحيات القانونية التي تسمح لها باستشارة الهيئة كونها جزءا من إدارات الدولة بينما النائب لا يملك مثل تلك الصلاحية ولا يمكن منحه مثل تلك الصلاحية في النظام الداخلي لمجلس النواب الذي لا يعتبر قانونا ولا يملك قوة الإلزام بالنسبة لأجهزة السلطة التنفيذية.  

ويتجلى ذلك بشكل واضح في النظام الفرنسي كون الموجب الذي يفرض على الحكومة تقديم دراسة حول الأثر التشريعي يجد سنده ليس في النظام الداخلي لكن في القانون وتحديدا المادة الثامنة من القانون العضوي الصادر في 15 نيسان 2009 والتي تنص صراحة على أن مشاريع القوانين يجب أن تخضع لدراسة الأثر التشريعي. وتضيف المادة التاسعة من القانون نفسه أن مؤتمر الرؤساء (conference des presidents)، وهي الهيئة التي تضم رئيس المجلس ونوابه ورؤساء اللجان المعنية بتنظيم الحياة البرلمانية، يحق له رفض تسجيل مشروع القانون في حال تبين له أن دراسة الأثر التشريعي غير موجودة أو أنها غير كافية، وفي هذه الحالة وعملا بالفقرة الرابعة من المادة 39 من الدستور الفرنسي يحق لرئيس الوزراء مراجعة المجلس الدستوري الذي يتوجب عليه خلال ثمانية أيام الفصل بالموضوع.

وهكذا يتبين بشكل واضح أن اقتراح النائب فريد بستاني يفتقر إلى أي آلية تسمح بتأمين التطبيق الفعلي للتعديل الذي تقدم به، وحتى لو كان هذا الاقتراح يتضمن هكذا آلية لا يمكن في الحقيقة النص عليه في النظام الداخلي لمجلس النواب بل في قانون خاص أو حتى في الدستور نفسه في حال كان من شأن التعديل الحد من صلاحيات الحكومة.

غياب أي إشارة إلى معايير التقييم

تظهر محدودية الاقتراح في طبيعته المقتضبة جدا إذ لا يشرح ما هي المعايير التي يجب أن تستند عليه أي دراسة حول الأثر التشريعي او المالي. فهكذا دراسة ليست مماثلة للأسباب الموجبة ومن الضروري تحديدها بشكل دقيق. فالمادة الثامنة مثلا من القانون العضوي الفرنسي المذكور سابقا تنص صراحة أن دراسة الأثر يجب أن تتضمن العناصر التالية: علاقة النص الجديد بالتشريعات الأوروبية النافذة وعلاقته بالقوانين المطبقة في فرنسا والتي تدخل في الموضوع ذاته، تداعيات القانون على الوظيفة العامة ونتائجه الاجتماعية والمالية والاقتصادية والبيئية، النفقات والمداخيل الجديدة التي تترتب على القانون بالنسبة للإدارة العامة أو الأشخاص الحقيقيين أو المعنويين المعنيين به وكذلك شرح الطريقة الحسابية التي سمحت بتحديد تلك المبالغ. فكل دراسة للأثر التشريعي لا تحتوي تلك العناصر يمكن ردها وبالتالي رفض تسجيل مشروع القانون من قبل مؤتمر الرؤساء كما شرحناه أعلاه.

تعزيز "التشريع المدروس" بفرض أيضا تقييم كيفية تطبيقه 

كما يحصر الاقتراح اهتمامه بالمرحلة التي تسبق اقرار القانون في مجلس النواب بينما كان من الأفضل أيضا لحظ آليات من أجل دراسة تداعيات القانون بعد فترة من دخوله حيز التنفيذ. فالفقرة الثالثة من المادة 7-145 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية الفرنسية تنص صراحة أنه بعد ثلاث سنوات من دخول القانون حيز التنفيذ يتوجب تشكيل لجنة مؤلفة من نائبين أحدهما ينتمي إلى مجموعة معارضة تتولى تقديم دراسة إلى اللجنة النيابية المختصة تحتوي على تقييم لنتائج القانون على ضوء دراسة الأثر المسبقة التي تم تحضيرها قبيل التصديق على القانون.

يتبين لنا في النهاية أن هذا الاقتراح يهدف إلى تحقيق غاية مهمة إذ أن اقراره يعتبر خطوة إصلاحية ضرورية لكنه يفتقر إلى الدقة والوضوح وتغيب عنه كل الآليات التي تضمن حسن تطبيقه لا سيما وأنه يتطلب وجود سياسات عامة تتبناها حكومات قادرة على تنفيذها دفاعا عن المجتمع وتلبية لحاجاته وهو الأمر المستحيل في ظل نظام بات يعيش في ظل حكومات تصريف أعمال لفترات تفوق وجود حكومة مسؤولة.