السلطة الخفية تحت المجهر (1): ظاهرة اقتراحات تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب

وسام اللحام

29/12/2022

انشر المقال

بعد سبات عميق دخل فيه النظام الداخلي لمجلس النواب لسنوات طويلة أصبح من الواضح أن إعادة النظر في هذا النص باتت ملحة لا سيما وأن التطبيق أظهر تفشي الممارسات السلطوية لرئيس مجلس النواب الذي بات يتفرد أكثر فأكثر ليس فقط باتخاذ القرارات التي تعنى بالتنظيم الإداري لجهاز مجلس النواب، بل أيضا بالهيمنة على الصلاحيات الدستورية لهذا الأخير وفي شتى المجالات إن كان لكيفية إحتساب النصاب والغالبيات وكيفية التصويت هذا فضلا عن مسألة الحصانات وطريقة إدارات المناقشات العامة.  

ولا شك أن أبرز تجليات تراجع دور مجلس النواب كمؤسسة تتم فيها اتخاذ القرارات بطرق شفافة وتشاركية إلى موقع يمارس فيه رئيس مجلس النواب نفوذه السياسي ضمن التوازن السلطوي القائم بين مختلف الزعماء هو النظام الداخلي الذي تم اقراره سنة 1994 والمعمول به حاليا، إذ تم ولأول مرة إلغاء لجنة النظام الداخلي التي كانت تتولى ليس فقط دراسة كل اقتراحات تعديل هذا النظام لكنها أيضا كانت تتمتع بموجب المادة 34 من النظام الداخلي القديم لسنة 1953 بصلاحية الفصل في "الاعتراضات التي ترد على تطبيق هذا النظام وفي تفسير مواده وتضع المقترحات في تعديله".

وهكذا بات أيّ اقتراح لتعديل النظام الداخلي أو أي نزاع يتعلّق بتفسير هذا النظام يمر حتما بمكتب مجلس النواب حيث يتمتع رئيس المجلس بسلطات استنسابية تخوله التحكم بكل مفاصل النقاش إذ يتم فقط عرض التعديلات التي تحظى برضى الرئيس على الهيئة العامة. فموافقة رئيس مجلس النواب باتت القاعدة الفعلية وغير المكتوبة التي تسيطر على عمل البرلمان ما فاقم من شخصنة رئاسة مجلس النواب التي باتت تختزل السلطة التشريعية برمتها.

عرف لبنان خلال تاريخه السياسي الحديث صراعات سياسية تتعلق بتوزيع الصلاحيات بين المؤسسات الدستورية. لكن النقاش كان غالبا ينحصر في التوازن بين أركان السلطة التنفيذية، لا سيما رئيسيْ الجمهورية والحكومة. فالدستور يشير في العديد من مواده إلى صلاحيات هذين الرئيسين بينما لا يُذكر رئيس مجلس النواب إلا نادرا، لا بل هو يغيب تقريبا عن الغالبيّة الساحقة من مواد الدستور. وهكذا انحصر النقاش لسنوات طويلة بأركان السلطة التنفيذية الأكثر بروزا، بينما غاب النقاش عن رئيس مجلس النواب الذي تمكّن من إخفاء سلطته الفعلية وراء أحكام النظام الداخلي الذي لا يحظى بالاهتمام كالدستور، ولا يتمّ تناوله في وسائل الإعلام إلا عرضا.

أدى هذا الواقع إلى نمو سلطة خفية سمحت لرئيس مجلس النواب الحالي مع الوقت بالهيمنة على الحياة البرلمانية. فالصلاحيات الظاهرة كتلك التي ينص عليها الدستور هي أكثر عرضة للانتقاد والمساءلة بينما الصلاحيات الخفية هي الوسيلة الفضلى لإيجاد سلطة خفية أيضا تتم ممارستها سرا ما يحميها من الانتقاد.

جراء ما تقدم يتبين لنا أن الارتفاع المتزايد للأصوات التي تنتقد أداء رئيس مجلس النواب أرغمت هذا الأخير على ممارسة أساليبه السلطوية بشكل أكثر علانية ما يعني أن سلطته الخفية التي تمكنت من الاحتجاب لسنوات طويلة باتت مرغمة على الظهور على حقيقتها، ما عرّضها وسيعرضها لانتقادات ستتفاقم حدتها كلما زادت اعتباطية قرارات رئيس مجلس النواب.

وخير دليل على هذا الحراك المتصاعد هو التزايد المهم في عدد الاقتراحات التي تقدّم بها النواب لتعديل النظام الداخلي لمجلس النواب والتي تم رصدها خلال العام المنصرم، وبخاصة بعد انتخابات أيار 2022. فخلال السنوات المنصرمة لا سيما بعد 1992 لم يكن النظام الداخلي يثير إشكاليات في النقاش العام ونادرا ما كان يتم تقديم اقتراحات لتعديله. وقد يظن البعض للوهلة الأولى أن مردّ ذلك هو أن نصّ النظام الداخلي الحالي هو واضح ولا يثير مشاكل في تطبيقه، لكن هذا المنطق لا يستقيم لأن النظام لم يتم فعليا تعديله منذ اقراره سنة 1994 إذ الاليات المنصوص عليها والمتعلقة بكيفية إدارة مجلس النواب لا تزال على حالها. لذلك يصبح من الضروري التساؤل عن السبب الذي جعل هذه الإشكاليات تطرح اليوم بشكل أكثر إلحاحا بينما النظام الداخلي هو ذاته؟

إن الجواب على هذا السؤال المركزي لا يكون إلا بالعودة إلى فكرة السلطة الخفية التي تمكنت من الاختباء لسنوات طويلة. فالطريقة الاعتباطية التي تتمّ فيها إدارة مجلس النواب ليست جديدة لكنها باتت ظاهرة للعيان اليوم نتيجة التحدي المتزايد لسلطة رئيس مجلس النواب وتفاقم الأزمة السياسية التي يعيشها لبنان والصراع الدائم بين الزعماء الذي أصبح أكثر حدّة بعد 2005 وتفاقم بعد 2019. وقد ظهر ذلك جليّا عند كل استحقاق دستوري إذ بات رئيس مجلس النواب يضطر إلى اتخاذ "مواقف دستورية" يكون هدفها الفعلي الدفاع عن موقعه في النظام الذي يهيمن عليه الزعماء.

لذلك، وإذ تلفت المفكرة القانونية في سياق رصدها لأعمال البرلمان النظر إلى تزايد اقتراحات تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب والتي تناولت مواد مختلفة منه بالمفرق، فإنها ستعمد إلى إيلاء هذا الموضوع اهتماما خاصا كي تواكب كيفية اشتغال هذه السلطة الخفية مرغمة إياها على الظهور بوجهها السافر الحقيقي كرغبة سلطوية اعتباطية، ومن أجل تجريدها من رداء الشرعية الدستورية التي تحاول دائما أن تتسربل به، والأهم كي يتمكّن المجلس من استعادة دوره الدستوري الذي فقده لمصلحة زعيم تمكّن بسبب التوزيع الطائفي للمناصب في لبنان من حجز موقعه في النظام عبر سيطرته على رئاسة مجلس النواب.

وإذ سبق للمفكرة القانونية أن نشرت تعليقها على اقتراحين لتعديل النظام الداخلي وردا بعد انتخابات أيار 2022 وهما تباعا اقتراح تعديل المادة 34 منه (علنية جلسات اللجان) والذي تقدّم به النائبان الياس جرادة ونجاة عون، واقتراح المادة 12 منه (الجلسات الانتخابية) والذي تقدم به النائب الياس اسطفان، فإننا ننشر هنا تعليقاتنا على 3 اقتراحات أخرى بتعديل المواد 136 (عقد جلسات لمساءلة الحكومة) والذي تقدم به النائب الياس جرادة والمادة 20 (اللجان النيابية) والذي تقدم به النائب أديب عبد المسيح والمادة 41 (وضع دراسة أثر تشريعي) والذي تقدم به النائب فريد بستاني. هذا مع العلم أن نواب من كتلة لبنان القوي كانوا قدموا خلال الولاية السابقة قبل أيار 2022 اقتراحا بتعديل المواد 81، 85، 87 و88  من النظام الداخلي في اتجاه استبدال التصويت برفع الأيدي وبالمناداة بطريقة التصويت الإلكتروني.

ومن المهمّ بمكان أن ننطلق من هذه الظاهرة في اتجاه تعميق البحث بالنظام الداخلي لمجلس النواب واقتراح مواقع الخلل فيه والتعديلات التي من شأنها الإسهام في حرمان أي سلطة خفية من إمكانية التخفّي وراء النصوص المبهمة كي تعزز هيمنتها السياسية على مؤسسات الدولة. فالنظام الداخلي كان لفترة طويلة هذا "اللامفكر فيه" أو "المسكوت عنه" لأن السلطة الخفية نجحت بذكاء في التستر وراء أحكامه . لذلك أصبح من الضروري الانتقال بالنظام الداخلي من "اللامفكر فيه" إلى مجال يخضعه إلى النقاش العلني والانتقاد والمراجعة.