الصندوق السيادي للنفط: بيع الوهم وتبديد "الثروة"

إيلي الفرزلي

15/08/2023

انشر المقال

لن يكون مفاجئاً بعد الجلسة التشريعية يوم الخميس أن يتسابق النواب لتهنئة اللبنانيّين بإقرار قانون الصندوق السيادي للنفط. تلك خطوة لن تكون عبثية. على ما يبدو، قرار بيع الوهم للناس مستمر بدلاً من بدء عملية إصلاح جدّية طال انتظارها. وعليه، فإنّ الصندوق السيادي للنفط، لمجرد أنّ اسمه مقترن بالثروة النفطية، يمكن أن يحقق الغاية المنشودة، أي الإيحاء بأن الثروة صارت قريبة، فيما الحقيقة تشير إلى أن بدء الاستخراج يحتاج على الأقل إلى 5 سنوات، يمكن أن تزيد إلى 10 سنوات. وعليه، فإن إنشاء الصندوق راهناً يمكن أن يكلّف الخزينة الكثير من الأموال، بخاصّة أنّ المادة 23 من الاقتراح لا تفرض أي إطار زمني لناحية تعيين مجلس الوزراء لأعضاء مجلس الإدارة. بل كل المطلوب هو إصدار المراسيم التطبيقية قبل التعيين، على أن يقوم مجلس الإدارة بعد ذلك بتعيين الفريق الإداري (6 مديريات تضمّ أقساما غير محددة) وفريق عمل لبناء الصندوق. وبحسب هذه المادة تُغطى نفقات الصندوق للسنة الأولى بموجب سلفة خزينة، ثم توضع فيه جميع واردات الدولة من الأنشطة البترولية.

اللافت أنّ لا أحد، في لجنة المال وفي اللجنة الفرعية المنبثقة عنها، يكترث للتجارب التي عُرضت وتُبيّن أن الصناديق الاستثمارية في الكثير من البلدان لم تنشأ إلا بعد بدء الاستخراج بسنوات. النائب ابراهيم منيمنة سبق أن دعا في اللجنة الفرعية إلى تأجيل الأمر وربطه، على سبيل المثال، بوصول العائدات النفطيّة إلى رصيد محدّد يبدأ عمل الصندوق بعدها، ربطاً باستراتيجية الاستثمار. وهذا موقفٌ سبق أن أكّدته مصادر تقنية تفضّل إقرار قانون لإنشاء صندوق/ حساب مصرفي تُحفظ فيه الأموال التي يُمكن تحصيلها قبل بدء الإنتاج مثل الواردات من المسوحات الجيولوجية والجيوفيزيائية وغيرها من دون أي تفاصيل إدارية وهيكلية تتعلق بإدارة الصندوق. لكن لا هذا الاقتراح أُخذ به ولا ذاك. كما تغاضى أعضاء اللجنة عن التجارب الدولية الخاصة بإقرار هكذا قوانين، بالرغم من استضافتهم أحد الخبراء النرويجيين. النرويج نفسها التي اكتشفت النفط في العام 1969 لم تنشئ الصندوق قبل العام 1990. والأمر نفسه حصل مع كل من السعودية التي اكتشف النفط في العام 1938 وانتظرت حتى العام 1971 لإنشاء الصندوق، والإمارات التي أنشأت الصندوق في العام 2011 بالرغم من اكتشافها النفط في العام 1958. حتى قبرص التي اكتشفتْ النفط في العام 2011 انتظرت 8 سنوات لتنشئ الصندوق.

وقبل المضي في إبداء أهم النقاشات والملاحظات حول هذا الاقتراح، تجدر الإشارة إلى أن الصندوق المقترح قد تضمن محفظتين:

  • محفظة الادخار والاستثمار التي توضع فيها مجمل العائدات الناجمة عن النشاطات البترولية ما عدا العائدات الضريبية، بهدف تخصيصها لمشاريع استثمارية. ولا يجوز سحب أي مبلغ منها إلا وفقاً للشروط المحددة في تفويض الاستثمار (القواعد الناظمة والضابطة للاستثمار والتي يفترض إقرارها بقانون بناء على اقتراح مجلس إدارة الصندوق). أما إذا تجاوزت عائدات الاستثمار قيمة الدين العام بالعملة الأجنبية فيحول الفائض حكماً إلى محفظة التنمية. ويجب أن لا تقل نسبة الاستثمار خارج لبنان عن 75% من مجموع أصول المحفظة وعائداتها.
  • محفظة التنمية توضع فيها العائدات الضريبية من الأنشطة البترولية وتخصّص لمشاريع تنموية من خلال استثمارات مالية ذات سيولة مرتفعة ومخاطر معتدلة. وقد جاء في تقرير رئيس لجنة المال إبراهيم كنعان أن بعض النواب كان يميل إلى عدم المواربة وتحويل الأموال مباشرة إلى الخزينة العامة، إلا أن الغالبية رفضت ذلك "للحؤول دون إدخالها مجددا في مطبات الهدر والمحاصصة" وفق ما ورد في التقرير. ويلحظ أنه بات يمكن بموجب النسخة الأخيرة من اقتراح القانون سحب ثلث مبالغ هذه المحفظة لتنفيذ مشاريع تنمية في الموازنة العامة، كما بات من الممكن استخدام جزء منها لتسديد الدين العام في حالات معينة كما نوضح أدناه.   

مجلس الوزراء مرجعيّة الصندوق

تلك معلومات ليست سرية وأعضاء اللجنة يدركونها جيداً. لكن المعيار في لبنان كان مختلفاً. المطلوب بحسب النائب ألان عون، إعطاء إشارة إيجابية للبنانيين والمجتمع الدولي. والقانون المطروح يُشكّل هذه الإشارة التي يبدو أن كل الكتل الأساسية تؤيد بثها، سواء كانت مقاطعة للتشريع أم مؤيدة له. وهذا التوافق النادر يشكل، بحسب عون، فرصة لإقرار القانون، "فمن يدري قد لا يتكرر هذا التوافق بعد خمس سنوات". إنما تجدر الإشارة هنا إلى أن الصندوق لن يكون قادرا على القيام بأي استثمار إلا بعد صدور قانون ثانٍ بإقرار شروط الاستثمار (قواعد تفويض الاستثمار). ما يعني أن الإنجاز اليوم يقتصر على إنشاء الصندوق وإجراء التوظيفات الخاصة به والصرف عليه، من دون أن يعني ذلك بالضرورة حصول توافق بشأن الشروط التي يخضع لها تفويض الاستثمار.

ولأن الأولوية كانت لضمان السيطرة الإدارية على الصندوق كانت المعركة الأبرز مرتبطة بتحديد سلطة الوصاية على الصندوق. كتلة التنمية والتحرير أرادتها لوزير المالية والتيار الوطني الحر أرادها لرئيس الجمهورية. التسوية كانت عبر إعلان استقلالية الصندوق وفق ما ورد حرفيا في المشروع لجهة إنشاء "صندوق سيادي مستقل" من دون أن ينصب عليه أي سلطة وصاية. وقد تم تبرير ذلك بضرورة "إجراء الاستثمارات والتفاوض لإدارة الثروة بأفضل طريقة تؤدي لزيادتِها والحفاظ عليها من خلال توظيفات مدروسة ذات مخاطر معتدلة". إلا أنّ ذلك لم يمنع منح مجلس الوزراء صلاحيّات محدّدة بما يتّصل بشأنه كما ورد في تقرير رئيس لجنة المال بحيث تكون "الجهة التي يعود لها متابعة هذا الصندوق دستوريا".

أموال النفط ليست لإيفاء الدائنين

أخطر ما تضمّنه النصّ المعدّل في لجنة المال هو إيجاد رابط، ولو غير مباشر، بين عائدات النّفط والماليّة العامّة. فما كان من المحظورات مع بدء النقاش في الاقتراح لم يعد مرفوضا في المطلق مع إنهاء درسه وإحالته إلى الهيئة العامة. إذ أنّ المادة 13، بعدما كانت تشير إلى حظر استعمال أموال الصندوق لتسديد ديون الدولة، أضيف إليها عبارة "إلا إذا أظهر قطع حساب الموازنة فائضاً أولياً في وارداتها على نفقاتها فيمكن استخدام عائدات محفظة التنمية لهذا الغرض". وبالرغم من تقييد السّحب بشروط قاسية نظرياً (افتراض أن يتم وضع قوانين قطع حساب وأن تظهر فائضا) إلا أن المشكلة تكمن في فتح الباب أمام استعمال هذه الأموال لتسديد ديون الماضي فيما يستمدّ الصندوق سبب وجوده من حماية الأجيال المستقبلية. 

"الأجيال المقبلة… سوريون"

المادة 15 المتعلقة بقواعد الاستثمار لا تقل خطراً. كان النصّ يشير إلى أنّ الغاية هي "تمكين الصندوق من استخدام عائداتِه لأهدافٍ إنمائيّة وادّخاريّة للأجيال القادمة" بما ينسجم مع الأولوية المعلنة لحماية العائدات ضمانا لحقوق هذه الأجيال منذ إقرار قانون النفط في 2010. كما ينسجم مع الأسباب الموجبة للقانون حيث جاء حرفيا: "تحويل الموارد البترولية الناضبة والتي لا تتكوّن إلا خلال ملايين السنين إلى أصول منتجة وغير ناضبة تحفظ للأجيال القادمة بشرط عدم إلحاق أي ضرر بالاقتصاد الوطني". لكن في النصّ النهائيّ لهذه المادة، تم إسقاط الإشارة إلى حقوق الأجيال المقبلة في النفط (وإن بقيت في الأسباب الموجبة ووردت عرضا في المادة 6 المتصلة بمحفظة الاستثمار). ومن يتابع تطور عملية دراسة القانون يدرك أن ذلك لم يحصل صدفة بل أن له دلالات فاقعة. فمنذ أقرّ قانون النفط في العام 2010، كانت الأولويّة المُطلقة لحماية العائدات هي ضمان حقوق الأجيال المقبلة. لكن التغيّرات والمقاربات السياسية انعكست على هذا المبدأ. وهذا ما أكده أحد النواب لـ "المفكرة"، طالبا عدم الكشف عن اسمه: "إن مسألة حفظ حقّ الأجيال المقبلة لم تعد تعنينا، فالأجيال المقبلة قد تكون من السوريين". هذا الطرح يوضح خلفية التغيرات التي طرأت على القانون، والتي تجلّت أولاً بإنشاء محفظة للتنمية (إلى جانب محفظة الاستثمار) ولاحقاً بإيجاد رابط بين العائدات النفطية وخدمة الدين العام، ما يُهدّد فعلياً بفتح باب لهدر أموال الثروة الناضبة.

توزيع طائفي لمجلس الإدارة

في الاقتراح الذي يناقش الخميس، وُضِعت قواعد واضحة لاختيار مجلس الإدارة بخلاف النصّ الذي أنجزتْه اللجنة الفرعيّة. إذ يشير النص الجديد للمادة السابعة إلى أن الأعضاء الثمانية لمجلس الإدارة يُعيّنون بمرسوم في مجلس الوزراء بناء لاقتراح مجلس الخدمة المدنية الذي يكون له الاستعانة بمؤسسات توظيف دولية خاصة (العبارة وردت بالجمع ومن دون أي إلزام لمجلس الخدمة المدنية مما يخفف من قوة هذه الضمانة) يحال حكماً إلى مجلس الوزراء من خلال مجلس رئيس مجلس الوزراء أو وزير المالية أو وزير الدولة للشؤون التنمية الإدارية بعد تقييم كفاءات وخبرات مقدمي الطلب ووضع لائحة بأسماء المؤهلين منهم تعرض على مجلس الوزراء، الذي يختار من بينهم ثمانية أعضاء. ولكن، لماذا ثمانية تحديداً؟ هل يعني ذلك تخلي السلطة عن التوزيع الطائفي للمناصب؟ هيئة إدارة قطاع البترول كانت القسمة فيها واضحة إلى حدّ الوقاحة: 6 أعضاء في مجلس الإدارة (درزي، سني، شيعي، ماروني، أرثوذوكسي، كاثوليكي) يُعيّنون ل6 سنوات يتناوبون خلالها على رئاسة الهيئة كلٌ منهم لسنة واحدة. مجلس إدارة الصندوق مختلف. أعضاؤه الثمانية يُعيّنون لخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ويختار مجلس الوزراء من بينهم رئيساً ونائباً للرئيس طيلة مدة الولاية. هل حقاً لم يكترث النواب لطائفة أعضاء المجلس؟ التدقيق في الأمر يظهر العكس تماماً. إذ يدور اليوم نقاش حول تعديل عدد الأعضاء على اعتبار أن هذا العدد لا يمكن أن يحقق المساواة بين الطوائف. وإذا كان واضحاً توزيع ستة من الثمانية، فإلى أي طائفتين سينتمي الاثنان المتبقيان؟ لا يكفي أن تكون الإجابة واحد للمسلمين وواحد للمسيحيين، فذلك أمر "بديهي". بل المطلوب تحديد المذهب، وهو "مكمن المشكلة". إذ يشير العرف، بحسب عون، إلى أن عدد الموارنة والسنة والشيعة ينبغي أن يكون متساوياً، لذلك لا يمكن إضافة ماروني وسني على سبيل المثال. وعليه، فإن الجلسة ستحدد إما زيادة العدد إلى 10 أعضاء أو تخفيضه إلى ستة، إلا إذا تخلّت الطوائف الكبرى عن "حقوقها" ووافقت على إضافة أرمني وعلوي على سبيل المثال، وهو ما يبدو مستبعداً بحسب النقاشات المستمرة.

للاطّلاع على اقتراح القانون