جدول أعمال الدورة الاستثنائية: هل فعلاً المجلس سيّد نفسه؟
07/01/2022
بعد الجدل الذي دار بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري حول إمكانية عقد دورة استثنائية لمجلس النواب، بادر رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي إلى إصدار المرسوم رقم 8662 تاريخ 06/01/2022 القاضي بدعوة مجلس النواب إلى عقد استثنائي يفتتح بتاريخ 10/01/2022 ويختتم بتاريخ 21/03/2022 وفق جدول أعمال تمّ تحديده في مرسوم الدعوة.
وقد خالف هذا المرسوم الصيغة المعتادة منذ سنة 2000 والتي كان يتمّ بها دعوة مجلس النواب إلى عقود استثنائية إذ كانت الدعوة تتضمن المواضيع التي تهمّ الحكومة ومن ثم يتم إدراج بند أخير هذا نصه: "سائر مشاريع القوانين والاقتراحات والنصوص التي يقرر مكتب المجلس طرحها على المجلس" مطلقا بذلك حرية المجلس بتحديد جدول أعماله، أي أن مجلس النواب يمكنه مناقشة أي موضوع حتى لو لم يرد في مرسوم فتح العقد الاستثنائي.
فمن خلال قراءة المرسوم رقم 8662، يتبيّن لنا أن الدعوة جاءت محصورة بعدد واضح من المواضيع. حتى البند الوحيد الذي قد يسمح لمجلس النواب بعدم التقيّد حرفيّا بجدول الأعمال الوارد في المرسوم فقد جاء بصيغة تؤدي عمليا إلى تقييد حرية مكتب المجلس وفقا للتالي: "مشاريع أو اقتراحات القوانين الطارئة والمستعجلة والضرورية المتعلقة بالإصلاحات اللازمة والضرورية أو بخطّة التّعافي المالي أو بالأوضاع المعيشية الملحّة التي يقرر مكتب المجلس طرحها على المجلس".
وقد دفع هذا الأمر رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى الاعتراض متذرعا كما في مرّات عدة بعقيدة "المجلس سيد نفسه" قائلا في تصريح صحفي التالي: "المجلس سيد نفسه. ولا يقيده أي وصف للمشاريع أو الإقتراحات التي يقرر مكتب المجلس طرحها، ويعود لرئيس الجمهورية حقّ الرد بعد صدورها عن الهيئة العامة إلى المجلس. هذا حكم الدستور وما استقر عليه الاجتهاد. يقتضي التصويب".
جرّاء ما تقدم، وبغض النظر عن الخلفيات السياسية التي تقف وراء التسويات القائمة بين أركان النظام حول مسألة اجتماع مجلس النواب، لا بد من معالجة الإشكالية الدستورية الاتية: إذا كان مكتب مجلس النواب في الدوارت العادية مطلق الصلاحية لجهة تحديد جدول الأعمال، هل ينطبق ذلك على الدورات الاستثنائية أيضا؟
يتطلب الجواب على هذه النقطة ليس فقط العودة إلى التجربة الدستورية الفرنسية في ظلّ الجمهورية الثالثة لكن أيضا فهم الاختلاف بين النص كما ورد في الدستور الفرنسي وكما كرسته المادة 33 في لبنان.
جرت العادة في ظل الجمهورية الثالثة في فرنسا أن يتمتع البرلمان (مجلس الشيوخ ومجلس النواب) بحرية تحديد جدول أعماله بعد فتح الدورة الاستثنائية[1].
ومردّ هذا الأمر إلى المادة الثانية من القانون الدستوري تاريخ 16 تموز 1875 التي تعلن فقط "لرئيس الجمهورية دعوة البرلمان إلى عقود استثنائية" بينما يختلف الوضع في لبنان حيث تنص المادة 33 من الدستور بشكل صريح أن العقود الاستثنائية تتم دعوتها بمرسوم " يحدد افتتاحها واختتامها وبرنامجها". فمرسوم الدعوة هو الذي يحدد جدول أعمال المجلس الذي كما يبدو لا يحق له مناقشة ايّ بند غير مدرج في مرسوم فتح الدورة الاستثنائية.
وحقيقة الأمر أن المصدر المباشر للمادة 33 من الدستور اللبناني ليس النصّ الفرنسي بل القرار رقم 1304 مكرر تاريخ 8 آذار 1922 والذي كان ينظم عمل المجلس التمثيلي قبل تحوّله إلى مجلس النواب مع تبنّي الدستور سنة 1926. فقد نصّت المادة 12 منه أن الدورات الاستثنائية التي يعقدها المجلس التمثيلي مخصصة فقط لمناقشة جدول الأعمال الذي يحدده حاكم دولة لبنان الكبير في قرار الدعوة، ولا يمكن تعديل جدول الأعمال هذا إلا بقرار من الحاكم[2].
وهكذا، يتبيّن لنا أن الذين صاغوا هذه المادة والذين وضعوا لاحقا المادة 33 من الدستور اللبناني كان هدفهم تقوية السلطة التنفيذية عبر تبنّي مقاربة هي عكس الممارسة الفرنسية في ظلّ الجمهورية الثالثة.
وقد ظهر ذلك جليا في السنة ذاتها التي شهدت إقرار الدستور اللبناني. فقد صدر أول مرسوم في تاريخ الجمهورية اللبنانية بدعوة مجلسيْ الشيوخ والنواب إلى عقد استثنائي في 7 حزيران 1926 وقد حمل الرقم 13 بحيث تم تحديد المسائل التي ستعرض في الدورة المذكورة بشكل حصريّ. وبالفعل، قام المجلس في جلسة 15 تموز بمناقشة مشروع قانون غير وارد في مرسوم فتح الدورة. فما كان من النائب شبل دموس الا وأن اعترض قائلا: "أريد أن اتكلم: من جهة القانون ألفت نظر المجلس أننا نحن في دورة استثنائية ولا يجوز البحث في أمر ما لم يكن واردا في كتاب الدعوة لهذه الدورة الاستثنائية. الأمر المهم هو ان القانون يجب أن يكون محترما بحرفيته. هذا مشروع يبحث فيه المجلس ولم يرد له ذكر على الإطلاق في كتاب الدعوة إذا كان لا بدّ من النظر في هذه القوانين. فمن الواجب أن تأتي حسب ما نصّ الدستور في كتاب الدعوة فلا يُدعى برلمان إلا إلى النظر في أمور خارقة العادة. فالبحث في هذا المشروع خارج عن الموضوع وعن القانون وكل عمل يخرج عن القانون يكون تعب المجلس فيه سدى".
وقد التزم المجلس خلال كل هذه الفترة هذا التفسير. لا بل يتبين من خلال تصفّح العقود الاستثنائية التي عرفها مجلس النواب منذ 1926 أن الحكومة كانت تضطر أحيانا كثيرة إلى الطلب من رئيس الجمهورية إصدار مرسوم جديد يضيف عددا من البنود التي لم تكن مدرجة في جدول أعمال العقد الاستثنائي الذي تم الدعوة اليه بموجب مرسوم أول. فلو كان مجلس النواب مطلق الحرية في تحديد جدول أعماله فور فتح الدورة الاستثنائية لما كان بحاجة إلى صدور مرسوم يعدل المرسوم الأول بإضافة بنود جديدة كي يتمكن مجلس النواب من مناقشتها.
وقد كرّست المادة 53 من النظام الداخلي القديم لمجلس النواب الصادر سنة 1953 هذا الأمر إذ نصّت على التالي: "يدرس المجلس في دورته العادية الأولى كل ما لديه من المشاريع والمواضيع بصورة عامة وتخصص الدورة العادية الثانية لدرس الموازنة أولاً ثم بعد إقرارها تدرس المواضيع الأخرى أما الدورات الاستثنائية فتخصص لدرس المواضيع التي يحددها مرسوم الدعوة".
وقد تأكد هذا الأمر في أكثر من مناسبة. ففي جلسة 21 شباط 1956، اعترض النّائب أديب الفرزلي على مناقشة قانون يتعلق بالدّرك لم يرد في مرسوم الدعوة قائلا: "أما الآن وأنا أرى أن المجلس يريد أن يبحث هذا المشروع، فلا يسعني إلا أن أرجو المجلس أن لا يبحثه حتى نتّصل بوزارة الداخلية وقيادة الدرك للإتيان بمشروع شامل. ثم إن هذا المشروع المراد بحثه الآن لم يرد في جدول أعمال الدورة الاستثنائية، ونص القانون صريح في هذا الموضوع بأنه لا يجوز أن يدرس المجلس مشروعاً ما إلا إذا ذكر في مرسوم الدورة الاستثنائية لأن المقصود من فتح الدورة أهمية الأمور التي تذكر في مرسوم الدورة".
وقد رد وزير العدل قائلا: "أما بخصوص هذا المشروع فليس هناك ما يمنع من إحالة المشروع في الدورة الاستثنائية بصورة إضافية..." أي أن الحكومة هي فقط التي يمكنها تعديل جدول أعمال الدورة الاستثنائية.
وأيضا في أخر جلسة من العقد العادي لمجلس النواب بتاريخ 27 كانون الأول 1973 جرى النقاش التالي حول اقتراح قانون تقدم به النائب ريمون إده يتعلق بالتوقيف الاحتياطي:
"أحمد إسبر: دولة الرئيس، أنا أفهم بأن تخوف الأستاذ ريمون إده سببه فقط الإسراع في المحافظة على الحريات ولكن خوفاً من أن تنقضي هذه الدورة العادية الصالحة لأن يشرع النواب وتأتي دورة استثنائية. ولكنني أريد أن أسجل بصوت عالٍ هنا ما سمعته من دولة الرئيس ليسجل في المحضر بأن مرسوم فتح الدورة المقبلة سيتضمن هذا المشروع علناً فأرجو أن يكون ذلك.
رئيس الحكومة: الحكومة توافق على إدراج هذا المشروع في جدول أعمال الدورة الاستثنائية المقبلة.
الرئيس: إذاً وبعد تصريح الحكومة أصبح هذا المشروع قيد الدرس في الدورة الاستثنائية".
وعندما خالفت الحكومة وعدها، اعترض النائب ريمون إده مجددا خلال العقد الاستثنائي في الجلسة التي عقدت بتاريخ 8 كانون الثاني 1973 قائلا:
"ريمون إده: دولة الرئيس، أودّ أن أسجل على الحكومة أو بالأحرى على رئيس الحكومة أنه تراجع عن وعده. وقد جاء في المحضر هنا: أن الحكومة توافق على أن تدرج في جدول أعمال الدورة الاستثنائية، اقتراح مشروع القانون الذي كنت قد تقدمت به (...). وكنت أتوقع، على كل حال أن الدورة الاستثنائية تقتصر اعتيادياً على مشاريع القوانين التي تتقدم بها الحكومة. وخلافاً لهذا الوعد، وعد رئيس الوزارة وحتى رئاسة المجلس أكدت ذلك.
الرئيس ـ حضرة الزميل إن رئاسة المجلس متضامنة معك بمطالبة الحكومة بالوفاء بوعدها وإرسال مشروع القانون إلى المجلس. وأظن أن رئاسة الحكومة لديها مشروع قانون يتضمن هذا النص ستحيله على المجلس خلال الدورة الاستثنائية".
وهكذا يصبح جليا لنا أن النص والممارسة يتفقان في لبنان على اقتصار جدول أعمال الدورات الاستثنائية على البنود التي وردت فقط في مرسوم الدعوة. فالاستثناء يفسّر بشكل حصري ولا يمكن التوسع فيه إلا عند وجود نص يسمح بذلك كالمادة 37 من الدستور التي تنص على التالي: " حق طلب عدم الثقة مطلق لكل نائب في العقود العادية وفي العقود الإستثنائية" أي أن التصويت على الثقة يجوز خلال الدورات الاستثنائية حتى لو يرد ذلك في مرسوم فتح الدورة الاستثنائية. وأيضا المادة 77 من الدستور التي تنص أنّ حق مجلس النواب باقتراح تعديل الدستور لا يمكن أن يتم إلا في الدورات العادية بينما في حال أراد مجلس النواب تعديل الدستور خلال عقد استثنائي يتوجب أن يأتيه مشروع التعديل من الحكومة.
لكن منع مجلس النواب من مناقشة مواضيع لم ترد في مرسوم فتح الدورة الاستثنائية سيعرف تطورا خلال عقد الثمانينات في ظل رئاسة حسين الحسيني للمجلس. فقد درجت الحكومات قبل اتفاق الطائف على تضمين برنامج الجلسة في مرسوم الدعوة بندا أخيرا يصاغ على الشكل التالي التالي: "سائر مشاريع القوانين والاقتراحات والنصوص التي يقرر مكتب المجلس طرحها على المجلس بعد درسها من اللجان النيابية المختصة". وقد كان الهدف من وراء ذكر ضرورة مناقشة الاقتراح في اللجان المختصة منع النواب من تقديم اقتراحات قوانين معجلة مكررة كونها تناقش مباشرة في الهيئة العامة من دون مرورها في اللجان.
وقد اعترض الرئيس حسين الحسيني على هذا الإسلوب إذ قال في جلسة 19/8/1986 معترضا: "إن الرئاسة لا يسعها الا تسجيل الأمر الأول وهو أن موازنة 1986 لم يحل مشروعها إلى هذا المجلس حتى الآن، خلافا لأحكام الدستور، والأمر الثاني العبارة التي وردت لجهة اشتراط مرسوم عقد الدورة درس المشاريع في اللجان النيابية. وهذا أمر يتعلق بمجلس النواب الذي هو سيد نفسه ولا علاقة للسلطة التنفيذية فيه".
وسيكرر الرئيس حسيني اعتراضه في جلسة 25 أب 1997 قائلا: "هذا الموضوع قديم وليس جديدا، (...) ولكن المجلس دأب منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم على تسجيل اعتراضه ولم يأخذ بما تضمنه المرسوم من عبارات، لذلك إما ان تفتح الدورة، وإما لا تفتح. وعندما تفتح الدورة يصبح المجلس سيد نفسه، وليس هناك من ضرورة للنظر بما هو من قبيل اللغو الذي لا يعتدّ به".
إن موقف الرئيس حسيني يخالف نص الدستور والممارسة التي عرفها لبنان منذ 1926. لكن الذي جعل الأمر يزداد غموضا هو تبنّي نظام داخلي جديد لمجلس النواب في 22 نيسان 1982 جاء خاليا من مادة شبيهة بالمادة 53 من النظام الداخلي القديم. وحقيقة الأمر أن مجلس النواب لا يحقّ له أن يكرس في نظامه الداخلي موادّ من شأنها مخالفة الأحكام الدستورية. فحتى لو تم التخلي عن المادة 53 القديمة هذا لا يعني أن مجلس النواب بات يحق له الخروج عن جدول أعمال الدورة الاسثنائية.
وما يجزم هذا الأمر هو المادة 108 من النظام الداخلي الحالي حول كيفية احتساب مدة الأربعين يوما عملا بالمادة 58 من الدستور من أجل جعل مشروع قانون المعجل نافذا بمرسوم إذ تنص على التالي: "إذا لم يتضمن مرسوم فتح الدورة الإستثنائية ما يفيد تمكين المجلس من درس المشروع المعجل في الدورة، تبقى مهلة الأربعين يوماً معلّقة". فهذا إقرار صريح أن مجلس النواب لا يمكنه مناقشة مشروع القانون المعجل في الدورة الاستثنائية إذا لم يرد ذلك في مرسوم الدعوة لذلك تبقى مهلة الأربعين يوما معلقة وهي لا تسري مجددا إلا إذا كان المجلس بامكانه البحث في مشروع القانون المعجل.
وهكذا يصبح جليا لدينا وخلافا لما أعلنه رئيس مجلس النواب نبيه بري أن الممارسة في لبنان منذ 1926 لا تقبل بإطلاق حرية مجلس النواب في تحديد جدول أعمال الدورات الاستثنائية كون ذلك يتعلق بنص دستوري واضح له علاقة بالتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويتبين لنا أيضا الضرورة الملحّة لخضوع النظام الداخلي لمجلس النواب لرقابة المجلس الدستوري بغية منع مجلس النواب من التعدّي على صلاحيات الحكومة. فمقولة مجلس النواب سيد نفسه باتت ممارسة اعتباطية تؤدي إلى خرق مبدأ التوازن القائم بين السلطات والمنصوص عليه في مقدمة الدستور، كما باتت وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية في ظل التوازن السلطوي القائم بين الزعماء. فلو قام مجلس النواب بمناقشة أي قانون من خارج جدول أعمال المحدد في مرسوم الدورة الاستثنائية لا يمكن أبدا التسليم بهذا الأمر بذريعة "سيادة المجلس" التي لا سند دستوري لها أصلا بل يتوجب حينها على المجلس الدستوري في حال الطعن أمامه بهكذا قانون أن يحسم المسألة إذ لا يحق لمجلس النواب أن يفرض على السلطة التنفيذية تفسيره للدستور بل على جهة محايدة أن تتولى هذا الأمر.
[1] “En France, quelle que fut le but d’une convocation extraordinaire décrétée par le président de la république, les chambres une fois réunies seraient libres de se saisir de toutes les questions qu’elles jugeraient utile de traiter et de résoudre’ (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, cinquième édition, Paris, p. 554).
[2] « L’ordre du jour des sessions extraordinaires est déterminé par la lettre même de convocation adressée par le Gouverneur aux membres du Conseil Représentatif. Cet ordre du jour ne peut être modifié que par le Gouverneur »