ربط الحقوق السياسية بمكان القيد أو كيف فقدت الانتخابات البلدية وظيفتها

31/03/2023

انشر المقال

يشكّل قرب الانتخابات البلدية فرصة ثمينة لإعادة التفكير بعلاقة المواطن في لبنان بما يعرف بضيعته أي مكان قيده في السجلات الرسمية. فالنظام الانتخابي السائد اليوم يفصل بين مكان الإقامة الفعلية للفرد والدائرة الانتخابية التي يمارس فيها حقه بالمشاركة في الانتخابات البلدية والنيابية، إذ قد يكون الإنسان قد ترك مكان قيده "الأصلي" منذ زمن بعيد وانفصلت عمليا مصالحه الحياتية عنه، لكنه مرغم للعودة إلى "ضيعته" كي يمارس حقه بالاقتراع.

إن مراجعة تطور التشريع في لبنان يظهر أن هذا الواقع القانوني الذي يعتبر اليوم من المسلمات لم يكن دائما كذلك بل هو عرف تعديلات هدفت إلى الحدّ من حرية المواطنين من خلال ربطهم الدائم بمكان قيدهم الرسميّ، حيث تكثر وسائل السيطرة السياسية والتصنيف الطائفي لهم. لذلك بات من الملحّ عرض السياق التاريخيّ الذي أدّى إلى الانتقال من نظام انتخابيّ مفتوح إلى نظام مغلق يساهم في إعادة إنتاج السلطة وتعزيز سيطرتها على المجتمع.

إن "الضيعة" بمفهومها القانوني تجد سندها في القرار رقم 763 الصادر في 9 أذار 1921 عن المفوض السامي الفرنسي الخاصّ بإجراء إحصاء عامّ لسكان دولة لبنان الكبير. فقد فرضت المادة الخامسة من القرار المذكور تشكيل لجان إحصاء في كل قضاء تقوم بالانتقال إلى كل قرية من قرى القضاء بغية إحصاء السكان وتسجيلهم ضمن دفاتر خاصة تتضمن مكان إقامتهم الفعلية على أن يتم لاحقا إصدار "تذاكر نفوس" تتضمّن جميع المعلومات الإحصائية التي سجلتها اللجنة. وهكذا تحوّل مكان سكن اللبنانيين سنة 1921 إلى قريتهم أو محلتهم وفقا للفهم القانوني لهذه التعابير. 

من أهداف إحصاء 1921 كان التحضير لانتخابات المجلس التمثيليّ سنة 1922 بحيث يتمّ معرفة عدد سكان لبنان وأعمارهم وتوزيعهم الطائفي من أجل التمكّن من تحديد عدد المقاعد النيابية العائدة لكل طائفة في مختلف الدوائر الانتخابية. وبالفعل، صدر القرار رقم 1307 تاريخ 10 اذار 1922عن المفوّض السامي الذي يعتبر أول قانون للانتخابات في زمن الانتداب، علما أن أحكامه كانت تشمل الانتخابات النيابية والبلدية. وقد جاء في المادة 26 منه أن "القوائم الانتخابية تشتمل على أسماء جميع أبناء لبنان الكبير البالغين من العمر إحدى وعشرين سنة كاملة (...) والمتخذين محلا أصليا حقيقيا في مدينة مستقلة إداريا أو في القضاء والمقيمين فيها منذ ستة أشهر على الأقل. فهؤلاء يمكنهم أن يعملوا بمقتضى حقوقهم الانتخابية في الجهة التي اتخذوا فيها محلهم الأصلي الحقيقي". أي أنّ هذه المادة انطلقت من مبدأ ربط حقّ الاقتراع بمكان السكن الفعلي. وهذا ما يظهر جليّا كون المادة ذاتها تضيف أنّ هذا المبدأ يجب أن يُعمل به لكلّ انتخابات تأتي بعد إحصاء عامّ للسكان. فالإحصاء هو في المبدأ عملية دورية بحيث يتمّ خلالها تسجيل التعديلات التي طرأت على السكان ومن بينها طبعا مكان إقامتهم الجديد في حال انتقلوا من مكان إلى آخر في الفترة الزمنية الفاصلة بين الإحصاء القديم والإحصاء الجديد.

إن ارتباط الحقوق السياسية بمكان السكن الفعلي للمواطن وما يترتب على ذلك من حرية الفرد بنقل مكان سكنه جرى تكريسه صراحة في القرار رقم 2851 الصادر عن حاكم لبنان الكبير في 2 كانون الثاني 1924 والمتعلّق بقيد وثائق الأحوال الشخصية إذ نصت المادة 40 على التالي: "كل شخص مقيّد إسمه في سجلات الإحصاء إذا رغب في نقل محلّه إلى جهة غير الجهة التي قيّد فيها اسمه بقصد التوطن الدائم فيها، وجب عليه أن يقدم تصريحا بهذا الشأن إلى قلم الاحوال الشخصية الموجودة في الجهة التي سيتخذ فيها مقامه الجديد. ويجب أن يكون تقديم هذا التصريح في خلال ستة أشهر تبتدىء من تاريخ وصوله إليها ويمكن إرساله مباشرة أو بواسطة المختار. وكلّ شخص لا يقوم بالمعاملات المختصة بنقل محل الإقامة في خلال المهلة المذكورة يغرّم بدفع جزاء نقدي قدره 200 قرش سوري لبناني وإذا أبى الدفع يحوّل الجزاء النقدي إلى حبس". الملاحظ أن تصحيح محلّ السكن كان شرطا إلزاميا فرضه القرار على الأفراد تحت طائلة الغرامة والحبس.

وتكرر الأمر أيضا مع قانون الانتخابات الجديد الذي أصدره المفوض السامي بموجب القرار رقم 2 تاريخ 2 كانون الثاني 1934 إذ نصت المادة 24 منه على التالي: "إن القوائم الانتخابية تشتمل على أسماء جميع أبناء الجمهورية اللبنانية البالغين من العمر إحدى وعشرين سنة كاملة (...) والمتخذين لهم محلا أصليا حقيقيا في القضاء والمقيمين فيه منذ ستة أشهر على الأقل". وقد تكرر هذا النص بحرفيته تقريبا في قوانين الانتخابات الصادرة في سنوات 1950 و1952 و1957.

وانسجاما مع هذه المبادئ، صدر قانون جديد لقيد وثائق الأحوال الشخصية. وقد جاء في المادة 40 منه أنه "لا يجوز للشخص الذي ترك الجهة المقيّد إسمه فيها بقصد الإقامة الدائمة في جهة أخرى أن ينقل اسمه إليها إلا بعد انقضاء ستة اشهر على إقامته فيها، وعلى صاحب العلاقة أن يقدّم طلباً بذلك إلى قلم الإحصاء والأحوال الشخصية في المحلة التي يريد الانتقال إليها، وأن يضمّ إليه إفادة من مختار المكان الذي يطلب نقل إسمه إليه تقيّد إقامته فيه مدة ستة أشهر على الاقل". نلاحظ أن هذا النصّ أخفّ حدّة من قرار حاكم لبنان الكبير لسنة 1924 الذي جعل من تصحيح القيود في حال نقل مكان السكن شرطا إلزاميا على الأفراد بينما النص الحالي يكتفي بترك الخيار للشخص المعني شرط أن يقدم طلبه بعد ستة أشهر من إقامته في المكان الجديد.

 بعد انتخاب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية وإجراء انتخابات نيابية وفقا لقانون انتخابي جديد سنة 1960، قرّرت الحكومة إرسال مشروع قانون معجّل يهدف إلى تعديل المادة 40 من قانون 1951 بهدف الحدّ من حريّة تبديل مكان الإقامة. وجاء في الأسباب الموجبة لمشروع قانون الحكومة التالي: "كثيراً ما يتقدّم أشخاص من دوائر النفوس بطلبات تبديل محل الإقامة من قرية إلى غيرها ومن جهة إلى أخرى لغايات حزبية أو ثأرية تؤدّي بالنتيجة إلى وقوع حوادث من شأنها الإخلال بالأمن وتعكير صفو الراحة والطمأنينة في الأماكن المطلوب الانتقال إليها. لذلك، ولما كانت التحقيقات التي تُجريها الدوائر المختصة بشأن هذه المعاملات تظهر للحكومة مسبقا الغاية والدافع الأساسي لطلبات تبديل محل الإقامة، وليس هنالك أيّ نص قانوني يمنع استجابة هذه الطلبات، لهذه الأسباب وتحاشياً لكلّ محذور ينتج من جراء هذا التبديل، رئي التقدّم بمشروع القانون المعجل المرفق".

وقد ناقش المجلس مشروع القانون لكنه رفض التصديق عليه وقرر إحالته إلى للجان. وقد صرح النائب ألبير مخيبر خلال الجلسة قائلا: "أنا ضد هذا المشروع لسبب واحد، هو أنه مشروع ضدّ الحريات العامة وضدّ الحرية الشخصية. إنني أرجو من دولة رئيس الحكومة أن يستمع إلى الحكمة التي أقولها: يا سيّدي، لسنا في بلد شيوعي حتى تسمح الحكومة لفئات من الناس أن تسكن في المنطقة الفلانية وتمنعهم من السكن في المنطقة الفلانية. فالشارع اللبناني الذي وضع القانون السابق قال: يحق لكل لبناني أن ينقل تذكرة هويته إلى سجل المنطقة التي يعيش فيها مدّة تزيد عن الستة أشهر، أما اليوم وبموجب هذا المشروع حصرت الحكومة هذا الحق بها، فهي ترتئي مثلاً أن يكون جان حرب في البترون بدلاً من أن يكون في بيروت، أو أن يكون في بيروت بدلاً من أن يكون في صيدا. إن حصر هذا الحق بيد الحكومة يمسّ الحريات الشخصية، ولهذا، أطلب ردّ هذا المشروع لأنه يشكل بالفعل خطراً على الحرية الشخصية، ويشكّل نوعاً من الحصر في يد الحكومة في انتقال الأشخاص من بلد الى بلد" (جلسة 29 تشرين الثاني 1962).

الغريب أن هذا المشروع نام في أدراج اللجان النيابية. ولكن قبل إجراء انتخابات 1964 النيابية قررت الحكومة استخدام المادة 58 من الدستور التي تجيز لها وضع موضع التنفيذ كل مشروع قانون معجل لم يبتّ به مجلس النواب خلال أربعين يوم من تاريخ إحالته إليه، فأصدر الرئيس فؤاد شهاب المرسوم رقم 15738 تاريخ 11 اذار 1964 الذي وضع موضع التنفيذ مشروع القانون هذا. وقد نصّ على إلغاء المادة 40 من قانون 1951 واستبدالها بالنص التالي: "لا يجوز للشخص الذي ترك الجهة المقيد إسمه في سجلات نفوسها بقصد الإقامة الدائمة في جهة أخرى أن ينقل اسمه إليها إلا بعد انقضاء ثلاث سنوات على إقامته فيها بصورة مستمرة، وعلى أن يقدم تصريحا بذلك موقّعا منه ومن المختار ومن شاهدين إلى قلم الاحوال الشخصية في المحلة أو القرية التي يريد الانتقال إليها على أن يجري تحقيق بواسطة الشرطة أو الدرك لإثبات صحة هذه الإقامة. ويحق للحكومة ردّ الطلب إذا تبين ان هنالك ضرورات موجبة لذلك".

وهكذا بات تكريس انتقال محل الاقامة يخضع لشروط صعبة ولتقدير السلطة الاستنسابية للحكومة. وقد أدى هذا الواقع إلى الفصل بين المصالح الاقتصادية والاجتماعية للفرد التي تتجسّد في المكان الفعلي الذي يقيم فيه، وبين مكان تسجيل قيده المجمّد منذ إحصاء 1932 وهو آخر إحصاء رسميّ عرفه لبنان.

ولا يخفى ما لهذا الواقع من تداعيات على صعيد سلوك الفرد وحريّته السياسية. فانفصال القرية عن مصالح الإنسان الفعلية يعني أنّ الانتخابات البلدية لم تعدْ تهدف إلى مشاركة المواطن في العمل البلدي لجهة إنماء القرية بل باتت تعبّر عن عصبية مناطقية تعكس هواجس الفرد بخصوص الهويّة، وهي هواجس تستغلها الأحزاب السياسية التقليدية لتعزيز سيطرتها على المجتمع.

علاوة على ذلك، يؤدي الربط بين الانتخابات النيابية والبلدية ومكان القيد الرسمي المجمّد إلى تهديد حريات المواطنين بحيث تتحوّل القرية إلى حيّز خاضع لسيطرة مجموعة من الوجهاء والنافذين السياسيين الذين يسهل عليهم التحكّم بأصوات الناخبين وإخضاعهم للتوافقات السلطوية التي تقوم بين ممثلي العائلات والأحزاب المهيمنة على المنطقة. 

وحقيقة الأمر أنّ أهم تعديل حصل للقانون الانتخابي في لبنان لم يكن يتعلق بالاقتراع الأكثري والنسبي أو كيفية تقسيم الدوائر الانتخابية، وهي المواضيع التي كانت دائما إشكالية تتصارع حولها الأحزاب السياسية، بل التعديل المنسي الذي أحكم الربط بين المواطن ومكان قيده الرسمي وأدّى إلى انفصال مصالحه الحياتية عن مكان ممارسته لحقوقه السياسية في الانتخابات النيابية والبلدية.