عناصر أمن داخليّ يرفعون "عريضة" للتحرّر من الوظيفة: شهادة جديدة على انهيار مرافق الدولة

وسام اللحام , نيقولا غصن

25/05/2024

انشر المقال

حمل النائب ابراهيم منيمنة إلى مجلس النواب عريضة موقعة من عدد من عناصر قوى الأمن الداخلي الفارين من الخدمة، يطالبون فيها النائب بمساعدتهم من أجل تقديم عريضة بواسطته "للمطالبة بإصدار قانون لمرة واحدة فقط يقضي باعتبار العناصر الفارة من قوى الأمن الداخلي بحكم المطرودين من الخدمة" بالإضافة إلى إقرارهم بالتنازل عن كامل حقوقهم العسكرية والمالية. وبالفعل، سجّل النائب منيمنة هذه العريضة بتاريخ 20 أيار 2024 ومن ثم استتبع هذه الخطوة بالتقدم باقتراح قانون معجل مكرر في الشأن نفسه.

وقد جاء في العريضة أن عناصر قوى الأمن الداخلي الموقعين عليها قد تركوا خدمتهم بشكل غير قانوني بعد تدهور قيمة أجورهم بسبب الانهيار المالي الذي يمر به لبنان وما كان لهذا الأمر من انعكاسات على معيشتهم. وأضافت العريضة أن الموقعين عليها فشلوا في التأقلم مع تداعيات هذه الأزمة لذلك تقدموا بطلبات تسريحهم حسب الأصول أو "عدم الإمضاء على تجديد عقود التطوع إلا أنه أتى الرد بالرفض والمعاقبة المسلكية أو تجديد العقد قسرا"، الأمر الذي دفع بهم إلى الفرار من الخدمة إما "عبر التخلف داخل البلاد أو إلى خارج البلاد".

هذا وشرح الموقعون المصاعب التي باتت تواجههم بسبب وضعهم القانوني المخالف إذ باتوا بحكم المحرومين من الطبابة والاستشفاء "خوفا من توقيفنا داخل المستشفى" كما عدم قدرتهم على الاستحصال على هوية أو جواز سفر لبناني وعدم قدرتهم على التقدم إلى "وظائف مدنية محترمة في لبنان أو خارجه" هذا فضلا عن حرمانهم من العودة إلى وطنهم "ولمّ شمل العائلة" خوفا من توقيفهم وإعادتهم إلى الخدمة قسرا. لذلك خلصت العريضة إلى المطالبة بإقرار قانون يعتبرهم بحكم المطرودين كي لا تطبق عليهم العقوبات المتعلقة بالفرار والمنصوص عليها في قانون القضاء العسكري الصادر في 13 نيسان 1968.

ومن دون الدخول في تحليل المطالب التي تضمنتها العريضة ومدى أحقيتها، لا بد من إبداء الملاحظات التالية حول أصول تقديم العرائض في النظام البرلماني اللبناني علمًا أنّ المفكرة القانونية سبق وأن عالجت بشكل مسهب مسألة تقديم العرائض إلى مجلس النواب (والذي هو حق دستوري وفق المادة 47 من الدستور) بمناسبة قيام لجنة الأهالي المفقودين والمخطوفين بتقديم عريضة بتاريخ 13 نيسان 2018.

 

تقديم العريضة بواسطة نائب

تغيب أصول تقديم العرائض عن النظام الداخلي الحالي لمجلس النواب الذي يعاني من نقص فادح في هذا المجال إذ يكتفي في المادة 45 منه بالإشارة إلى التالي: "تحال العرائض والشكاوى إلى هيئة مكتب المجلس ويهمل كل ما ورد منها بدون توقيع أو تتضمن عبارات نابية"، بينما تدرس المواد اللاحقة كيفية السير بالعريضة عبر إحالتها إلى اللجنة النيابية المختصة أو الهيئة العامة أو إحالتها إلى الوزير أو حفظها.

لكن المستغرب هو أن النص الموجه إلى النائب ابراهيم منيمنة يطالبه بتقديم هذه العريضة سندا لأحكام المواد 200 إلى 208 من النظام الداخلي لمجلس النواب علما أن هذه المواد لا وجود لها في هذا النظام النافذ الذي تعتبر المادة 146 منه مادته الأخيرة.

وبالحقيقة لقد أخطأت العريضة في تحديد النظام الداخلي المعمول به حاليا لمجلس النواب كون المواد التي استندت عليها موجودة فعلا لكن في النظام الداخلي القديم الصادر سنة 1930 والذي ألغي سنة 1953. فنظام 1930 يحتوي على أحكام شاملة وهو مأخوذ بقسم كبير منه من النظام الداخلي لمجلس النواب الفرنسي لسنة 1915. وبالفعل تنص المادة 200 من نظام 1930 على التالي: " العرائض المقدمة للمجلس تقيد في جدول عام بأرقام متسلسلة حسب تاريخ ورودها مع بيان اسم مقدم العريضة وعنوانه ومحل إقامته وملخص موضوعها فإذا كانت العريضة موقعة من عدة أشخاص وجب تعيين مسكن واحد منهم، ومن الجائز أن تقدم العرائض بواسطة أحد النواب ولكن يجب في هذه الحالة أن يكتب النائب على تلك العريضة أنها مقدمة بواسطته ويشار إلى ذلك في جدول العرائض العام. ومن الواجب أن تقدم العرائض إلى رئيس المجلس سواء كانت من قبل أصحابها أو بواسطة أحد النواب".

وهكذا نفهم لماذا تم تقديم العريضة بواسطة النائب منيمنة ولماذا تضمنت العريضة محل إقامة الموقعين عليها. فتقديم العرائض بواسطة نائب هو أمر جائز في التجربة الفرنسية خلال الجمهورية الثالثة (1875-1940) وهو الأمر الذي تم تبنّيه في لبنان سنة 1930 لكنه يغيب بالكامل عن النظام الحالي ما يعيد التذكير بالثغرات الكبيرة وعدم الوضوح الذي يعتري العديد من أحكامه والذي شرحته الورقة البحثية التي أصدرتها المفكرة القانونية حول هذا الموضوع.

 

جواز تقديم عريضة موقعة من عناصر في الأمن الداخلي

إن توقيع العريضة من قبل عناصر في الأمن الداخلي هو موضوع إشكالي على الرغم من الظروف الصعبة التي أملتْها. فقد رأى مجلس النواب الفرنسي عدم جواز توجيه موظفي الدولة انطلاقا من صفتهم الرسمية بعرائض تنتقد البرلمان أو الحكومة بل عليهم توقيع تلك العرائض كمواطنين عاديين[1]. وما يزيد من الوضع الإشكالي، ما تنص عليه الفقرة السادسة من المادة 160 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي الصادر في 6 أيلول 1990 والتي تمنع على قوى الأمن الداخلي تحت طائلة العقوبات التأديبية والجزائية "تنظيم أو توقيع العرائض الجماعية في أي موضوع كان". وبالواقع، من شأن هذه الفقرة التي تقبل النقاش من منطلق أنها تحرم عناصر قوى الأمن الداخلي من التمتّع بحق دستوريّ أن تفاقم من هجانة وضعية هؤلاء، بحيث يتم حرمانهم من حرية تقديم عرائض بالإضافة إلى مجمل الحقوق التي بات التمتع بها محفوفا بالخطر والتي ورد ذكرها في عريضتهم.  

في الخلاصة، تعكس هذه العريضة من حيث المبدأ أهمية تعزيز التواصل بين المواطنين والمؤسسات الدستورية لكنها أيضا تعيد تسليط الضوء على النظام الداخلي الحالي لمجلس النواب الذي يفتقر إلى الدقة والوضوح، ما يجعل من تعديله لا بل تبني نظام جديد بالكامل ضرورة ملحة. كذلك تأتي هذه العريضة كي تذكر مجددا بالانهيار الشامل الذي يعيشه لبنان، في ظلّ تنكّر السّلطة الحاكمة لوظيفتها الأساسية في معالجة الأزمة وإعادة الانتظام الطبيعي لمختلف إدارات وأجهزة الدولة. من هذه الزاوية، وأيّا يكن الموقف من هذه العريضة، تكمن أهميّتها في أنّها تعيد توجيه الضوء إلى إخلال السلطة الحاكمة بمسؤولياتها الأساسية في ضمان حسن سير المرافق العامة وإلى المخاطر التي تتفاقم من جرّاء ذلك. 

 

للاطّلاع على العريضة الموقعة من عدد من عناصر قوى الأمن الداخلي الفارين من الخدمة


[1] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 667.