كيفية انتخاب رئيس الجمهورية في الجمهوريات البرلمانية

جبرايل أبو عضل

25/01/2023

انشر المقال

للمرة الثالثة منذ انسحاب الجيش السوري من أراضي لبنان، تقوم بعض الأحزاب السياسية بمقاطعة الجلسات البرلمانية المخصصة لانتخاب رئيس الجمهورية أو بتفريغها من مضمونها من أجل فرض المرشح الذي تختاره في الوقت المناسب. ويبرّر نواب تلك الأحزاب إعاقة العملية الانتخابية باللجوء إلى القيود التوافقية التي يفرضها، على حدّ رأيهم، النظام السياسي اللبناني والدستور.

وقد أدى هذا الواقع، علاوة على عدم وجود كتلة نيابية فعالة تعارض تلك الممارسة، إلى هيمنة رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، الذي بات يتمتع بكامل الحرية في التلاعب بالأحكام التي تنص على كيفية انتخاب رئيس الجمهورية.

لقد أدان في الآونة الأخيرة عدد من الخبراء في القانون الدستوري تلك التجاوزات التي يمكن تعدادها وفقا للتالي: إعتماد ثلثي مجموع عدد النواب كنصاب حضور (عوضاً عن الأكثرية المطلقة المنصوص عليها في المادة 34 من الدستور اللبناني)، تكرار دورة الاقتراع الأولى في كل جلسة إنتخابية (من أجل تجنب الدورة الثانية والدورات اللاحقة، التي يُنتخب فيها رئيس الجمهورية بالأغلبية المطلقة بدلاً من أغلبية الثلثين)، واحتساب تلك الأغلبية على أساس عدد النواب الذين يكوّنون المجلس النيابي (وليس حسب عدد الأصوات الصريحة  suffrages exprimés- كما يُفهم من المادة 12 من النظام الداخلي لمجلس النواب المعمول به حاليا).

ولا شك أن الممارسة الحالية تخرق ليس فقط نص الدستور بل روحه أيضا. فالدستور، من خلال وضع الإطار المؤسسي، لا يعطي الأسبقية للاستثناء التوافقي على قاعدة حكم الأغلبية والديمقراطية. بمعنى آخر، تهدف غاية النصوص القانونية إلى تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية وليس إلى إخضاعه إلى العديد من الشروط التي تؤدي إلى الشلل المؤسسي .وهذا ما يتضح من تخفيض الأكثرية المطلوبة للانتخاب من أغلبية الثلثين إلى الأغلبية المطلقة في الدورة الثانية والدورات التي تليها.

لتجاوز الإطار اللبناني، لا بأس من النظر في القواعد والقيود التي تنظم انتخاب رؤساء الجمهورية (أو جميع أعضاء السلطة التنفيذية) من قبل السلطة التشريعية في جمهوريات برلمانية أخرى.

في ألمانيا والمجر وألبانيا وجنوب أفريقيا، تقدم الكتل النيابية مرشحيها رسمياً قبل انعقاد جلسة الانتخاب. في المجر وألبانيا، يجب أن يحصل كل مرشح على دعم 20٪ و 15٪ (على التوالي) من أعضاء المجلس النيابي (المادة 11 من دستور المجر الصادر عام 2011، المادة 87 الفقرة 1 من دستور ألبانيا الصادر عام 1998)، مما يتيح تحديد عدد المرشحين اللذين سيخوضون الإنتخابات. في ألمانيا وفي جنوب أفريقيا، تُرفَض وثيقة الترشيح إن لم تحتوِ على موافقة المرشح الخطية. (المادة 9 الفقرة 1 من قانون انتخاب الرئيس الاتّحادي لجمهورية ألمانيا الصادر عام 1959، المادة 3 الفقرة 3 من المرفق 3-أ من دستور جنوب أفريقيا الصادر عام 1996)، وهذا يحول دون ترشيح الكتل النيابية لشخصيات غير راغبة في الترشح، كما هو عليه الحال في لبنان.

في ألمانيا، يتيح القانون تقديم ترشيحات جديدة حتى الدورة الثالثة فقط، وابتداءً من الدورة الرابعة، تُعتَبَر الأصوات التي تحتوي على إسم شخصية غير مرشحة ملغاة (المادة 9 الفقرة 3 من قانون انتخاب الرئيس الاتحادي لجمهورية ألمانيا). عند انتخاب أعضاء المجلس الاتّحادي السويسري (أي الحكومة السويسرية)، يحقّ للنواب التصويت لمن يشاؤون خلال الدورات الانتخابية الثلاثة الأولى فقط، واعتباراً من الدورة الرابعة، تُحصَر الترشيحات في الشخصيات التي حصلت على صوتٍ واحدٍ على الأقل في الدورات السابقة (المادة 132 الفقرة 3 من القانون المتعلق بالجمعية الاتحادية السويسرية الصادر عام 2002). يحظر إذاً قانون انتخاب الرئيس الاتحادي لجمهورية ألمانيا و القانون المتعلق بالجمعية الاتحادية السويسرية على المرشحين المحتملين التريث في إعلان ترشيحهم حتى يكون الوضع السياسي لصالحهم، وتجبرهم على الترشح منذ بداية العملية الانتخابية، وتلزمهم على الترشح منذ بداية العملية الانتخابية.

في العديد من البلدان، يتم أيضاً وضع آلية لإقصاء المرشحين الأقل حظاً خلال الدورات الانتخابية المتتالية، مما يجعل الدورات الانتخابية التالية تقتصر تلقائياً على المرشحين الأكثر جدية ما يؤدي إلى نقل أصوات المرشحين الراسبين إلى بقية المرشحين. فعلى سبيل المثال، يتم في سويسرا إقصاء من حصل في الدورة الثانية على أقل من عشرة أصوات؛ وابتداءً من الدورة الثالثة، لا يحق للمرشح الذي احتلّ المرتبة الأخيرة أن يشارك في الدورات اللاحقة (المادة 132 الفقرة 4 من القانون المتعلق بالجمعية الاتحادية السويسرية). وتسمح قاعدة مماثلة بالاختيار بين المرشحين لرئاسة جنوب أفريقيا (المادة 7 لملحق 3-أ لدستور جنوب أفريقيا). إضافةً إلى ذلك، من الشائع أن تنخفض الأكثرية اللازمة للانتخاب خلال الدورات: كما هي الحال عليه في اليونان (أكثرية الثلثين في الدورتين الأولى والثانية ثم 3/5 في الدورة الثالثة ثم الأكثرية المطلقة في الدورة الرابعة ثم الأغلبية البسيطة في الدورة الخامسة والأخيرة؛ المادة 32 فقرة 3 و4 من الدستور اليوناني الصادر عام 1975) وفي المجر (أكثرية الثلثين في الدورة الأولى ثم الأكثرية البسيطة، المادة 11 فقرة 3 و4 من دستور المجر). وما يثير الاهتمام  في العراق، حيث النظام السياسي الطائفي جزئياً يشبه نظام لبنان، أن الأكثرية اللازمة هي ثلثي عدد النواب الذين يكوّنون المجلس النيابي في الدورة الأولى، ولكن هذه النسبة تنخفض بعد ذلك إلى الأغلبية المطلقة من الأصوات الصريحة (المادة 70 من الدستور العراقي الصادر عام 2005). 

تسعى بعض الدساتير إلى الحد من فترة العملية الانتخابية: ففي ألبانيا، تنص الفقرة 3 من المادة 87 من الدستور على أنه يجب ألا تتجاوز المدة الزمنية القصوى بين دورتين انتخابيتين سبعة أيام، فيما في المجر يجب إجراء العملية الإنتخابية بكاملها في غضون يومين (المادة 11 الفقرة 5 من دستور المجر). صحيح أن تلك القاعدة لا تخضع للتنفيذ القسري إن إتفقت الأحزاب على عرقلة العملية الإنتخابية، كما لا يمكن تطبيق المادة 74 من الدستور اللبناني، التي تنص على إجتماع مجلس النواب "فوراً وبحكم القانون" في حال خلت سدة الرئاسة، بسبب تواطؤ الأحزاب ضد الدستور وحكم القانون. على الرغم من ذلك، فإن تحديد إطار زمني صارم يحول دون  أن يخضع انعقاد جلسات الانتخاب لإرادة رئيس المجلس المنفردة.

أخيراً، تلجأ ألبانيا وجنوب أفريقيا إلى حل مجلس النواب إن تعثر إنتخاب رئيسٍ للدولة. ففي ألبانيا، يتم حل المجلس تلقائياً بعد الدورة الإنتخابية الخامسة إن لم تنتج رئيساً للجمهورية (المادة 87 فقرة 5 من دستور ألبانيا). يُحَل مجلس نواب جنوب أفريقيا في حال شغور سدة الرئاسة وإن لم يتمكن أي مرشح من الحصول على الأغلبية المطلوبة في غضون ثلاثين يوماً من حصول الشغور (المادة 50 فقرة 2 من دستور جنوب أفريقيا).مع ذلك، فإنه من الأرجح أن يحصل مرشحٌ ما على الأكثرية المطلوبة بعد بضع دورات إنتخابية بسب الآليات المذكورة أعلاه، فلا يُلجأ في ألبانيا كما في جنوب أفريقيا إلى حل مجلس النواب. على أية حال، إن مجرد احتمال حلّ مجلس النواب وإجراء انتخابات مبكرة يشجع النواب على احترام الروح التي تحكم عمل المؤسسات وعلى انتخاب رئيسٍ للجمهورية ضمن المهل الدستورية.

تظهر هذه المقارنة لقواعد انتخاب رؤساء البلاد في سبع جمهوريات برلمانية أنه، وعلى الرغم من وجود بعض عناصر الديمقراطية التوافقية التي تهدف إلى حماية الأقليات السياسية، تعطى الأسبقية في نهاية المطاف لحكم الأكثرية في إنتخاب رئيس للجمهورية. خلافاً لذلك، ففي لبنان، يُفضي التوافق الذي بات إلزاميا بين الزعماء إلى تعطيل المواد الدستورية عبر منح الأحزاب حق النقض، وإلى الفراغ في سدة الرئاسة والتفكك التدريجي للمؤسسات. لذلك، يمكن للبنان أن يستلهم بعض هذه الآليات المستخدمة في الخارج عندما يحين الوقت لإعادة بناء مؤسسات الدولة. لكن في الوقت الحالي، يجب أن تكون الأولوية لتحرير الدستور من هيمنة الزعماء والتفسيرات الاعتباطية لرئيس مجلس النواب وذلك من أجل انتخاب رئيس للجمهورية من دون الوقوع في فخ التعطيل.