مجلس الأزمات الكبرى 2018-2022 (8): خلاصة عامة

المفكرة القانونية

17/11/2022

انشر المقال

نشر المرصد البرلماني تقريرا عن أعمال المجلس النيابي للولاية السابقة ما بين 2018-2022، قيّم فيه نتاج المجلس النيابي من جوانبه المختلفة. وقد حاولنا في هذا التقرير الذي يجسّد مرحلة متقدّمة من عملنا الرصدي الإضاءة على عمل الهيئة العامة واللجان والكتل والنواب. وفي حين نشرنا سابقا التقرير كاملا بنسخة PDF، ننشر تباعا فصولا منه بهدف الإضاءة على جزئيات العمل البرلماني وتسهيل الوصول إليها، وهي جزئيات قد لا يتنبه إليها القارئ في سياق تصفّحه التقرير في شموليته. وفي حين نشرنا 7 حلقات حول أداء الهيئة العامة لمجلس النواب واللجان النيابية والكتل النيابية والنواب، ننشر هنا الحلقةالثامنة والأخيرة منه، وهي تتعلّق بالخلاصات العامة حول عمل البرلمان في ولاية 2018-2022. 

في الختام، وتبعاً لدراسة أداء النواب والكتل وأجهزة المجلس، أمكن تسجيل الخلاصات الآتية:

أولاً، سياسة التخلّي عن تحمُّل المسؤولية

يُظهر أداء المجلس خلال هذه الولاية تخلّياً فاقعاً عن أداء وظائفه، وبخاصة وظيفته في مراقبة أداء السلطة التنفيذية التي كانت مستقيلة أو بحكم المستقيلة والمتخلّية عن مسؤولياتها في أغلب فترات هذه الولاية. 

وخير دليل على ذلك أنّ فترة هذه الولاية لم تشهد إلّا جلسة واحدة لمساءلة الحكومة. وفي حين عقدتْ بعض اللجان جلسات استماع إلى مسؤولين حكوميِّين، إنّ التقرير الوحيد الذي أسفرتْ عنه هذه الاجتماعات تمثّل في تقرير لجنة المال والموازنة حول التوظيف العشوائي الذي بقي سرياً ولم يستتبع أيَّ إجراء. أمّا الاستقصاء الحاصل حول الانهيار المالي وخطة التعافي، فقد انتهى إلى تقويض مشروعية الخطة المالية الوحيدة التي وضعتها أيُّ حكومة منذ الانهيار، وذلك في نيسان 2020. وقد تم تقويض هذه المشروعية بالتماهي مع مواقف جمعية المصارف الرافضة تحمُّلَ أيِّ مسؤولية في هذا الخصوص. ومن خلال متابعة أعمال المجلس، يبدو أنّه وجد سبيله لتغطية هذا التخلي ونقْل مسؤولية الرقابة إلى السلطة التنفيذية من خلال توسيع مفهوم "التدقيق الجنائي" بصورة شبه شاملة. فبعدما استخدمت حكومة دياب (ومعها رئيس الجمهورية) هذا المفهوم في ما يخصّ التدقيق في حسابات مصرف لبنان، بسبب اللغط الحاصل حول موجودات هذا المصرف وخسائره، انخرط مجلس النواب في مزايدة على رئيس الجمهورية قوامُها أنّ المجلس يرغب ليس فقط في إجراء التدقيق الجنائي على مصرف لبنان، ولكن على مجمل القطاع العام. وقد تجلى هذا الأمر في معرض ردّه على كتاب رئيس الجمهورية الذي سأل فيه المجلس عن موقفه من التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، وأيضاً في معرض التصويت على قانون رفع السرية المصرفية لحاجات التدقيق الجنائي. وعليه، انتهى القانون إلى رفع السرية المصرفية لسنة واحدة لحاجات التدقيق الجنائي على مجمل حسابات الإدارات والمؤسسات العامة. وبذلك، لم يُكبِّر المجلس الهدف من القانون (الحجر) إلى درجة تعيق وضعه موضع التنفيذ، لكنّه بدا وكأنّه يُجرِّد نفسه ومجمل مؤسسات الدولة الرقابية، وفي مقدِّمتها ديوان المحاسبة، من دورها في إجراء التدقيق في هذه الحسابات لصالح شركات تدقيق دولية أو محلية من القطاع الخاص. ففي حين أمكن تبرير اللجوء إلى شركة تدقيق خاصة (دولية) لإجراء تدقيق جنائي في مسألة استثنائية تحوم حولها شبهات كبرى، يشكّل تعميمُ هذا التدقيق على كل حساب من حسابات الدولة من قِبل المجلس النيابي ما يشبه تخلياً ذاتياً عن هذه الوظيفة وتشكيكاً بقدرة مؤسسات الدولة على القيام بذلك، وصولاً إلى إعلان ضرورة خصخصتها بالكامل. وقد بلغ هذا الموقف درجة أعلى حين صدَّق المجلس النيابي على التدقيق الجنائي في حسابات الشركات التي استفادت من سياسات الدعم بالعملة الصعبة، مُعلِناً بذلك أنّ التدقيق الجنائي بات الآلية المناسبة، ليس فقط للتدقيق في حسابات القطاع العام، بل أيضاً للتدقيق في حسابات القطاع الخاص. وتكتمل صورة التخلي إذا عرفنا أربعة أمور: (1) أنّ المجلس تبنّى هذا الممشى ردّاً على مطالبته من قِبل رئيس الجمهورية بالاضطلاع بمسؤولياته، فلجأ إلى هذا وهو أمر شبه مستحيل وتتجاوز أكلافه ما يمكن للدولة أن تتحمَّله في ظل وضعها المالي الراهن. و(2) أنّه لم يحرّك ساكناً حيال تخلُّف الحكومة المستقيلة (حكومة دياب) عن إنجاز التعاقد مع شركة دولية لإجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان أو غيره بحجّة أنّها حكومة تصريف أعمال، وهي حجّة لا تستقيم طالما أنّ التدقيق الجنائي إجراءٌ تحفُّظي (حفظ الحقوق) وليس تصرُّفياً. (3) أنّه أنكر صفة العجلة عن اقتراح تقدَّم به رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان لتمديد مهلة تعليق السرية المصرفية الأساسية لحاجات التدقيق الجنائي (التي انتهت في آخر 2021) ولم يُقِرّه في 2022 إلّا بعد موافقة رئيس الجمهورية على فتح جلسة استثنائية للمجلس النيابي. وما زال حتى اللحظة مآل التدقيق الجنائي غامضاً. (4) أنّ رَفْعَ السرية المصرفية حصل فقط لصالح شركة التدقيق ولحاجاته، من دون أن يتم رفعها لصالح القضاء، ما يحول دون محاسبة الإدارة المعنية به أيّاً تكن نتائجه.

التخلي نفسه شهدناه في ما يخصّ سياسات الدعم التي تفرَّد بوضعها حاكم مصرف لبنان من دون أن يستشعر المجلس النيابي أيَّ حاجة للتدقيق في ما يفعله، رغم أنّ هذا الأمر أدّى إلى هدر مليارات من الذخيرة المتبقِّية للبنانيين (أموال الودائع)، وترافَقَ مع حملات هائلة من التخزين والاحتكار والتهريب. 

لم يقتصر تخلّي المجلس عن دوره الرقابي على هذا الجانب، بل برز أيضاً في لا مبالاته حيال عدم تنفيذ القوانين التي يقرّها، ما يجرّد العديد منها من أثرها ويجعلها في الكثير من الأحيان مجرَّد حبر على ورق. فبالإضافة إلى امتناعه عن القيام بأيّ دور لإعادة إحياء التدقيق الجنائي الذي أقرّه طوال أشهر، لا يوجد داخل المجلس أيّ هيئة تتولّى حالياً متابعة نفاذ القوانين، بعدما كان المجلس في ولايته السابقة عيَّن لجنة غير دائمة لهذه الغاية. وتكثر الأمثلة في هذا المجال، إنّما نكتفي هنا بلفت النظر إلى أمرَيْن اثنين: (1) عدم القيام بأيّ خطوة رقابية لتأمين الموارد الكافية، وبخاصة البشرية لديوان المحاسبة رغم تأكيد المجلس ضرورة ذلك في قانونَيْن أصدرهما على عجالة في 2012 (رقم 222) و2019 (رقم 143)، و(2) عدم القيام بأيّ خطوة رقابية لضمان إنجاز قوانين قطع الحساب عن السنوات السابقة (منذ 1993) أو إيجاد حلّ مناسب لإعادة إحياء مبدئية قطع الحساب بالنظر إلى أهميته وكونه شرطاً دستورياً لإقرار قوانين الموازنة العامة، كأنْ يتمّ تصفير الحسابات ابتداء من سنة معيَّنة منعاً لتأبيد المخالفة الدستورية.

فضلاً عن ذلك، بدا التخلي عن المسؤولية في حماية المُلك العام فاقعاً. فعدا عن إعراض المجلس تماماً عن أيّ رقابة على تنفيذ القانون رقم 64/2017، لجهة استرداد الأملاك البحرية المعتدى عليها غير القابلة للمعالجة أو التي لم يُقدَّم بشأنها ملفات معالجة أو عن متابعة مسألة سبائك الذهب، فاجأ المجلسُ الجميع بتجريد دولة مفلسة من تملُّكها أسهماً لحامله في شركة مساهِمة بنتيجة تخلُّف هذه الشركات عن تحويلها إلى أسهم اسمية. وقد شهدت هذه الجلسة خطاباً متوتراً أعلن فيه النواب تقديسهم للملكية الخاصة مقارنة بالملكية العامة، التي لا بأس من التخلي عنها كما سبق بيانه. كما يُذكَر التخلي الواضح من اللجان المشتركة في متابعة مسألة سبائك الذهب المحفوظة لدى مصرف لبنان. فإذ أشار نائب حاكم مصرف لبنان لدى سؤاله منها إلى أنّ المصرف المركزي هو في صدد إحصاء سبائك الذهب وأنّ آخر إحصاء تم في 1996، لم تقم اللجان المشتركة في ما بعد بأيّ جهد لمتابعة هذا الموضوع رغم أهميته ومحوريّته في ظلّ الانهيار المالي.

أخيراً، إنّ تخلّي المجلس عن مسؤولياته انسحب على عمله التشريعي. وهذا ما نتبيَّنه بشكل خاص في كل ما يتصل بالأزمة المالية: فبالإضافة إلى تخلّيه عن دوره في التدقيق في مراقبة سياسات الدعم أو حسابات مصرف لبنان وموجوداته، امتنع كلياً عن وضع التشريعات الضرورية لمعالجة الأزمة والسماح بتجاوزها. وهذا ما ينتج عن كون القوانين المتصلة بالأزمة والصادرة خلال الولاية كلها هدفت إلى التخفيف من أثرها من دون أيّ مسعى لمعالجة أسباب الأزمة أو العمل على تجاوزها. فكأنّما الأزمة كارثة طبيعية أو قدر يقتضي تقبُّله كما هو بمعزل عن مسبِّباته. وخير دليل على ذلك هو كيفية تعامل المجلس مع قانون تقييد حقوق المودعين أو ما يُعرَف باسم الكابيتال كونترول. ففي بداية الأزمة، رفض نواب عدة، منهم نبيه برّي وإبراهيم كنعان، وضْعَ قانون مماثل بحجّة أنّ الودائع مقدَّسة وأنّهم يرفضون تقييدها، وذلك خلافاً لما يُفترَض حصوله من تدخُّل فوري عند نشوب أزمة مالية بهذا الحجم. وما زاد من موقفهم قابلية للنقد أنّ امتناعهم عن تقييد الودائع ترافق مع امتناعهم عن القيام بأيّ خطوة لمنع تقييدها من قِبل مصرف لبنان أو جمعية المصارف. وقد بدا المجلس من خلال ذلك وكأنّه يتخلى بوضوح كلّي عن دوره التشريعي لصالح مصرف لبنان أو (وهذا أخطر) لجمعية المصارف. ولم يتغيَّر هذا الأمر إلّا بعدما باتت هذه الأخيرة بحاجة إلى قانون مماثل،  عقب ازدياد الدعاوى المقامة ضدَّها محلياً وخارجياً. وهذا ما شهده المجلس النيابي في بداية شهر كانون الأوّل 2021 وفي الفصل الأوّل من سنة 2022. إلى ذلك، نلحظ أنّ الهيئة العامة للمجلس تخلّفت عن النظر في ملاحظات رئيس الجمهورية المتصلة برفع السرية المصرفية عن الموظفين العامين، رغم انتهاء لجنة الموازنة والمال من درسه. ومن الدلائل على هذا التخلي، النتائج التي توصّلنا إليها بشأن آثار الانهيار على نشاط اللجان والكتل والنواب. وهذا ما سنعود إليه أدناه.

أخيراً، تقتضي الإشارة إلى أنّ المجلس يطعن بنفسه من خلال إقرار قوانين تؤدّي بشكل منتظم إلى تعطيل قوانينه السابقة، وبخاصة الضريبية منها، على نحو يؤدّي عملياً إلى معاقبة الذين سدَّدوا الضرائب وإلى مكافأة الذين تخلَّفوا عن ذلك. 

ثانياً، ضعف الإنتاجية وعواملها

الخلاصة الثانية التي تفرض نفسها هي ضعف إنتاجية المجلس في مختلف أجهزته. وقد برز هذا الضعف في محلات عدة من التقرير. وهذا ما تُبرِزه الأرقام الآتية:

  • 219 قانوناً نافذاً، من بينها 55 اتفاقية دولية، 51 قانوناً لتعليق العمل بقوانين سابقة، و34 قانوناً تتصل بالشؤون المالية أو الوظيفية أو بتصحيح التشريعات بنتيجة انهيار العملة الوطنية. بمعنى أنّ 79 قانوناً فقط تضمّنت قواعد جديدة أو أوجدتْ مؤسسات جديدة للمستقبل، علماً أنّ معظمها يقبل النقد كما سبق بيانه؛
  • 21 جلسة تشريعية فقط مقابل جلسة وحيدة للمساءلة أو المحاسبة؛
  • 152 سؤالاً فقط طُرحتْ على الحكومة؛
  • 830 اجتماعاً للجان الدائمة مجتمعة؛
  • بلغ متوسّط حضور النواب اجتماعات لجان في المجلس النيابي 64.2، أيْ بمعدل 1.3 اجتماع كل شهر؛
  • 696 اقتراح قانون فقط، علماً أنّ 52.8% صدرت عن نائب واحد وأنّ 81.6% صدرت عن كتلة واحدة (من نائب أو أكثر).

وتجد هذه الأرقام تفسيرها في عوامل عدة، أبرزها:

عوامل تتصل بالنواب

- عدم مثابرة النواب على أعمالهم في اللجان. وخيرُ دليل على ذلك أنّ 16 نائباً لم ينتسبوا في فترات مختلفة إلى أيّ لجنة من دون عذر، وأنّ متوسّط حضور النواب الذين انتسبوا إلى لجان هو 60.08% (وهو متوسّط منخفض جداً ويشير إلى أنّ مثابرة النائب على عمله هو مرة نعم ومرة لا)؛

- قدّم النواب 152 سؤالاً فقط طوال فترة الولاية، والذين شاركوا في طرح الأسئلة لم يتجاوز عددهم 53 نائباً. وهذا يعني أنّ ثمة 76 نائب لم يطرحوا أيّ سؤال خلال الولاية المذكورة والتي كانت إحدى أقسى ولايات المجلس؛

- لم نتمكّن من الحصول على أرقام دقيقة حول حضور النواب لجلسات الهيئة العامة، بحيث تُتلى فقط أسماء النواب الذين لم يحضروا بعذر في حين لا تُتلى أسماء النواب المتغيِّبين من دون عذر.

عوامل تتصل باللجان ورؤسائها

- عقدتْ مجمل اللجان الدائمة 830 اجتماعاً فقط، علماً أنّ أكثرها نشاطاً (المال والموازنة، والصحة، والإدارة والعدل) عقدت تباعاً 130 و111 و105 اجتماعات، ما يعني أنّ أكثرها نشاطاً بالكاد عقدت اجتماعَيْن شهرياً، في حين أنّ تسع لجانٍ فقط عقدت أقلّ من اجتماع شهرياً، وأنّ ثلاثاً منها عقدت أقلّ من اجتماع كل فصل. وبذلك يتحمّل رؤساء اللجان مسؤولية سوء أداء اللجان وقِلّة إنتاجيتها. وما يزيد من قابلية هذا الرقم للانتقاد أنّ اجتماعات اللجان الدائمة تراجعت كما سبق بيانه خلال فترة ما بعد الانهيار بنسبة 30.5% في 2020 و11.9% في العام 2021؛

- يبقى عدد المقترحات المُنجَز درسُها في اللجان ضعيفاً بالنسبة إلى مجموع المقترحات الواردة إلى المجلس خلال هذه الولاية، من دون احتساب أعداد المقترحات المقدَّمة في السنوات السابقة،التي تتكدَّس في جوارير المجلس. فقد بلغ مجموع مختلِف المقترحات المُنجَزة خلال هذه الولاية ما يمثّل نسبة 61.8% من مجموع المقترحات الواردة إلى المجلس في الفترة نفسها، التي يُفترَض أن تذهب إلى اللجان بعد رفض الهيئة العامة منحَها صفة العجلة. ويُسجَّل هنا أنّ، باستثناء لجان المال والموازنة، والإدارة والعدل، والشؤون الخارجية، والصحة التي أنجزت تباعاً 49 و48 و36 و27 مقترحاً، أنجزت سائر اللجان 22 مقترحاً أو أقلّ، علماً أنّ اثنتين منها لم تُنجِزْ أيَّ مقترح وأنّ خمساً منها أنجزت مقترحاً واحداً سنوياً أو أقلّ. عليه، وبفعل قِلَّة الاجتماعات، بقي العديد من اللجان، ضمناً أكثرها نشاطاً مثل لجنة الإدارة والعدل، عاجزة عن إنجاز المقترحات المُحالة إليها بفعل ضيق الوقت. وهذا ما نستشفُّه من نسبة الاقتراحات المتأخرة في اللجان الأكثر إنجازاً المشار إليها أعلاه، وقد بلغت 28 (المال والموازنة) و52 (الإدارة والعدل) و33 (الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية) ومن شأن هذا الأمر أن يهدِّد فعلياً بضياع العديد من المبادرات التشريعية.

عوامل تتصل بضعف التعاون والتنسيق بين النواب والكتل

نستشفّ هذه العوامل بشكل خاص من النظر في أُبوّة الاقتراحات المقدَّمة إلى النواب. وهذا ما يتحصل من رقمين اثنين:

- 52.8% من الاقتراحات مقدَّمة من نائب منفرد؛

- قرابة 81.6% من الاقتراحات مقدَّمة من كتلة واحدة، في حين أنّ 8.3% منها فقط مشتركة بين كتلتَيْن و9.91% مشتركة بين ثلاث كتل أو أكثر.

وهذه الأرقام إنّما تُبيِّن ضعف التواصل والتنسيق بين الكتل، وأحياناً داخل كل كتلة، بما يُضعِف العمل المشترك وحظوظ الاقتراحات بالاستفادة من وزن سياسي أكبر.

عوامل تتصل برئيس المجلس ومكتبه

نستشفُّ هذه العوامل من مجموعة من المعطيات المُثبَتة في التقرير.

أوّلاً، دعا رئيس المجلس نبيه برّي إلى عدد محدود من الجلسات التشريعية (انعقد فعلياً 21 منها) علماً أنّ مكتب المجلس أثقل جداول أعمال بعضها بعدد كبير من مقترحات القوانين، وصل بعضها إلى 70 بنداً (وهي جلسة 30 حزيران 2021)، الأمر الذي يضع النواب أمام موجب درسها والتصويت عليها، في حين أنّه لم يُبَلَّغوا بها إلّا قبل 24 ساعة. وهذا الأمر يبقى غير مفهوم طالما أنّ المجلس كان في حالة انعقاد شبه دائم خلال الفترة الأطول من الولاية، وذلك عملاً بالمادة 69 من الدستور التي تنصّ على أنّ مجلس النواب يصبح في دورة انعقاد استثنائية من تاريخ استقالة الحكومة حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة.

ثانياً، تخلّف مكتب المجلس عن إدراج العديد من المقترحات المُنجَزة في اللجان على جداول أعمال جلسات الهيئة العامة كما سبق بيانه، وذلك خلافاً للمادة 42 من النظام الداخلي، علماً أنّ عدد المقترحات المُنجَزة خلال ولاية المجلس، التي لم تُدرَج حتى آخر الولاية على جداول أعمال الهيئة العامة، قد بلغ 53 مقترحاً. كما تخلّف عن إدراج العديد من اقتراحات القوانين المعجّلة المكرّرة على هذه الجداول.

ثالثاً، لم يضع مكتب المجلس أيّ قواعد لتقييم عمل اللجان أو النواب أو التثبُّت من مثابرتهم تمهيداً لاتخاذ إجراءات بحقهم. هذا فضلاً عن أنّه لا يبذل أيَّ جهد لتطبيق أحكام النظام الداخلي، التي من شأنها تمكين المواطنين من ممارسة رقابتهم على المجلس (مثال: نشر محاضر جلسات الهيئة العامة)، ولا يولي أيّ اهتمام للتعديلات المقترحة على النظام الداخلي في المجلس، وأهمها ضمان شفافية المناقشات في اللجان.

ثالثاً: أيّ آثار للأزمة على النشاط التشريعي؟

بيَّّنّا أعلاه كيف تخلى المجلس كمؤسسة عن أداء دوره في إيجاد حلول للأزمة المالية، التي تعامل معها على أنّها قدر أكثر من كونها نتيجة سياسات وسوء إدارة واستغلال سلطة، فضلاً عن تخليه عن مسؤولياته في التخفيف من آثارها أو تجاوزها.

إلّا أنّ النظر في نشاط النواب والكتل على صعيد المبادرة التشريعية يعطينا معلومات إضافية في هذا الشأن. ففي حين ازداد نشاط هؤلاء على صعيد المبادرة التشريعية بعد 17 تشرين، تراجع نشاطهم على صعيد حضور اجتماعات لجان المجلس وأيضاً على صعيد التزامهم في حضور اجتماعات لجانهم. كما تراجع نشاطهم على صعيد الأسئلة المطروحة بحدود النصف. فكأنّما سعى هؤلاء إلى تظهير أدوارهم في تقديم إجابات تشريعية على الأزمة وتداعياتها، في موازاة إهمال أدوارهم الرقابية وتراجع نشاطهم في مناقشة اقتراحات القوانين وبناء إرادة سياسية حولها. وما يؤكّد ذلك، أيضاً فأيضاً، أنّ المتوسّط الشهري للاقتراحات المعجّلة المكرّرة ارتفع بعد 17 تشرين من 4.1 إلى 7.9 فيما بقي المتوسّط الشهري للاقتراحات المعجّلة المكرّرة متقارباً حيث ارتفع من 7.7 إلى 7.9 فقط.

التوجُّه نفسه يبيِّنه تطوّر نشاط الكتل الكبرى، فقد عزّزت الكتل التعاون داخلها لتطوير المبادرة التشريعية الصادرة عنها، أقلّه من الناحية الكمية، في حين أنّ تعاونها الخارجي بقي على حاله. وهذا الأمر إنّما يؤشّر إلى أنّ ارتفاع نسبة الاقتراحات بعد 17 تشرين شكّل عملاً سياسياً لإبراز دور الكتلة أكثر من تشكيله عملاً تشريعياً للردّ على التحديات الاجتماعية التي فرضتها الأزمة.

الاتجاه نفسه نجده لدى اللجان الدائمة حيث تراجع المتوسّط الشهري لاجتِماعاتها بعد 17 تشرين من 24.2 إلى 16. وقد بدا تراجع نشاط بعض اللجان في بعض الأحيان صادماً وبمثابة تخلٍّ عن المسؤولية. وهذه هي حال لجنة المال والموازنة التي انخفض عدد اجتماعاتها من 60 في 2019 إلى 10 في 2020، بمعنى أنّها قرّرت التكاسل والتخلّي في الفترة التي كان يُنتظَر منها مضاعفة جهودها لاستشراف كيفية الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية ومعالجة تداعياتها، وكلها أمور تدخل في صلب أعمالها. كما أمكن إبداء الملاحظة نفسها بشأن اللجان المختصة بالقطاعات المنتجة مثل لجنتَيْ الاقتصاد الوطني والتجارة والصناعة والتخطيط والزراعة والسياحة، التي بقي نشاطها هنا أيضاً جدّ محدود. 

رابعاً: المخالفات

تضمّن التقرير إشارات إلى مخالفات كثيرة، منها المخالفات المرتكبة في الدعوة إلى جلسات الهيئة العامة وتحديد جداول أعمالها وإدارة الجلسات التشريعية والتصويت فيها. ونكتفي هنا بالإحالة إلى القسم الأوّل من التقرير تفادياً للتكرار.

يُضاف إلى ذلك مخالفات في قبول ورود مراسيم مشاريع قوانين لم توافق عليها الحكومة، إنّما وردتْ فقط بموافقة استثنائية من رئيسَيْ الجمهورية والحكومة خلافاً للدستور. كما يُشار إلى المخالفة المرتكبة في انتخاب عضوَيْن في المجلس الدستوري من دون إبلاغ النواب سِيَرَهم مسبقاً. هذا من دون الدخول في تقييم مدى دستورية القوانين التي أُقِرَّت.

خامساً: هاجسا العفو العام والحصانات الوزارية والنيابية

أخيراً، يجدر التذكير كما أوضحنا في المقدِّمة أنّ العمل البرلماني في هذه الولاية خضع لهاجسَيْن، الأوّل العفو العام (تشرين الأوّل 2019- نهاية 2020) والثاني حصانة النواب والوزراء، أقلَّه في 2021، بقرارات المحقق العدلي بملاحقة عدد من النواب الحاليين (تحديداً حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق) على خلفية أدائهم الوزاري السابق، وذلك إلى جانب ملاحقة رئيس الحكومة السابق حسان دياب ووزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس.

هاجس العفو العام

أدرج البرلمان اقتراح قانـون العفـو العــام كأوّل بنـد علـى جــدول أعمــال أوّل جلسة تشريعية كان يُفترَض أن تحصـل بُعَيْــد الانتفاضة وذلك في 12 تشرين الثاني 2019، التـي أجهضها الشـارع (في رسـالة واضحـة إلى الشـارع بأنّــه لا يجد حرجاً في المزاوجة بين ادعــاء المحاسبة والعفــو العــام رغــم التناقض التام بين الأمرَيْن). وظلّـل اقتراح قانـون العفـو العام العمليــة التشريعية لعامَيْ 2019 و2020، وأدّى عــدم إنجــاز التوافق السياسي علـى القانـون إلى نسـف الجلسات التشريعيـة أكثـر مـن ست مـرات، ابتداء من الجلسة المنعقدة في 12/11/2019 وصــولاً إلى 21/12/2020.

هاجس حصانات الوزراء والنواب

وقد تجلى ذلك في ثلاث محطات أساسية:

  • أوّلاً، رفض الهيئة المشتركة (المكوَّنة من مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل) إحالة طلب رفع الحصانة عن النواب الثلاثة، وذلك تبعاً لتحوير في قراءة النظام الداخلي. ففي حين يفرض هذا النظام على القاضي أن يرفق بطلبه ملخَّصاً عن الأدلة طلبت منه الهيئة إرسال الملف برمّته ليتسنّى لها التحقُّق من مسؤولية كل منهم. ورغم مطالبة عدد من النواب بعقد جلسة للنظر في طلبات رفع الحصانة، بقيتْ هذه المطالبة من دون أثر. وبذلك، نجحت قيادات المجلس في تحصين النواب إزاء القضاء بمبادرة منها ومن دون حتى أن تعرض طلباته أمام الهيئة العامة؛
  • ثانياً، سعتْ كتل كبرى (أهمها "التنمية والتحرير" و"الوفاء للمقاومة") إلى تحصين الوزراء المدَّعى عليهم من خلال طلب اتهامهم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. وقد تجلى ذلك من خلال تقديم طلب اتهام (الذي وصفته "المفكّرة" بعريضة العار). حدّد رئيس مجلس النواب جلسة للنظر في طلب الاتهام تمهيداً لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية، لكنّها لم تنعقد بفعل مقاطعة كتل عدة لها تحت ضغط ذوي الضحايا. وقد سجّلت "المفكّرة" تسخير المديرية العامة للإعلام داخل مجلس النواب في هذا المسعى وفق ما يتحصّل من بيانها المنشور في 22 تموز 2021؛
  • ثالثاً، وربّما الأخطر، لوحظ حضور منتظم للنائب علي حسن خليل في اجتماعات الهيئة العامة واللجان المشتركة رغم صدور مذكرة توقيف بحقه. لا بل سارع رئيس مجلس النواب إلى مطالبة الحكومة ورئاسة الجمهورية الموافقة على فتح دورة استثنائية بدءاً من أوّل سنة 2022 لتمكين هذا النائب من مواصلة التذرُّع (عن غير حق) بعدم جواز تنفيذ مذكرة التوقيف بحقه خلال انعقادها سنداً للمادة 40 من الدستور. أيّاً يكن، ومن دون الدخول في التفاصيل، فإنّ هذه المشهدية شكّلت الوصمة الأكثر سواداً في سجلّ المجلس النيابي لهذه السنة. 

سادساً: تمايُز النائبات النساء بالنسبة إلى النواب الرجال

تفوّقتْ النائبات النساء بشكل كبير على النواب الرجال في ما يتصل بالمبادرة التشريعية، كما سبق بيانه. فقد بلغ متوسّط الاقتراحات المقدَّمة من النائبات النساء قرابة ستة أضعاف متوسّط الاقتراحات المقدَّمة من النواب الرجال، علماً أنّ متوسّط الاقتراحات الفردية المقدَّمة من هؤلاء قارب عشرة أضعاف ما قدَّمتْه النساء.

ازداد نشاط النواب فقط على صعيد المبادرة التشريعية بعد 17 تشرين. في المقابل، تراجع نشاط النواب على صعيد حضور اجتماعات لجان المجلس، وأيضاً على صعيد التزامهم في حضور اجتماعات لجانهم. كما تراجع بحدود النصف على صعيد الأسئلة المطروحة. إلّا أنّ هذا التمايُز لم ينعكس إيجاباً على نسبة قبول الاقتراحات المتصلة بشؤون النساء التي لم تتجاوز اثنين من أصل 28 (7%).

وإذ يبقى من المبكر استخلاص نتائج حاسمة في ظلّ محدودية عدد النائبات في الولاية موضوع هذا التقرير (ست نائبات من أصل 128)، إلّا أنّ الفارق شاسع إلى درجة يصعب عدم التوقُّف عنده.