محكمة التمييز ترضخ لتوجّهات قضاة العجلة: سببٌ إضافيّ لهستيريا المصارف

نزار صاغية

14/03/2022

انشر المقال

منذ فترة، نتلمّح بوادر هستيريا لدى المصارف، تمثّلت في إسراعها في إغلاق حسابات مودعين عدة، ولكن أيضا إلى السعي إلى إرغام المودعين لديها على عقود جديدة تخولها إغلاق حساباتهم في حال تقدّمهم بأي دعوى أو اعتراض ضدها فضلا عن سعيها إلى إقرار قانون كابيتال كونترول يحررها من أي رقابة قضائية. هذه الهستيريا تفاقمتْ مع صدور حكم ضدّ مصرفيْن لبنانييْن خارج لبنان وتحديدا في بريطانيا في آخر شباط الماضي. وفي حين حظيَ هذا الحكم باهتمام إعلاميّ واسع، فإنّ المصارف كانت قبل ذلك على موعد مع إشارات سلبية أخرى من داخل لبنان بعثت لديها مزيدا من القلق. هذه الإشارات لم تأتٍ من قضاة العجلة ولا من محكمة الاستئناف الذين أصدورا أحكاما كثيرة ضدّ المصارف، إنّما هذه المرة من المحكمة العليا (محكمة التمييز) التي كانت المصارف تعتبرها صمّام أمان يضمن تقويض أيّ حكم قد يصدر عن أيّ من المراجع القضائية اللبنانية ضدّها. حصل ذلك حين عدلتْ محكمة التمييز عن مواقفها السّابقة في خمس قرارات صدرت في اليوم نفسه (11 كانون الثاني 2022) وصادقتْ فيها على ما ذهبتْ إليه المحاكم الابتدائية والاستئنافية لجهة إلزام مصارف بإجراء حوالات لصالح مُودعين (لتحميل القرارات). وقبل عرض ما تضمّنته قرارات محكمة التمييز، يجدر أولا التذكير بمواقف قضاة العجلة والتي ما كان هذا التحوّل ليحصل لولا تشبّثهم بمواقفهم وتضامن عددٍ من الغرف الاستئنافيّة معهم.

كيف واجه قضاة العجلة الكابيتال كونترول غير النظامي؟

لم يمرّ وقتٌ طويل على وقف تسديد الودائع حتى تقدّم مودعون بدعاوى مدنية عدّة في مناطق مختلفة لإلزام المصارف تسديدهم قيمة ودائعهم. وقد هدفتْ غالبية هذه الدعاوى إلى إلزام المصارف إجراء حوالات إلى الخارج، لتسديد أقساط دراسية أو نفقات طبية أو لإتمام عمليات استيراد. وقد استجاب عدد هام من قضاة العجلة لهذه الطلبات علما أنهم اعتمدوا حججا مختلفة أمكن تصنيفها ضمن فئتين أساسيتين:

فئة أولى: الكابيتال كونترول غير النظامي هو تعدّ واضح على حقوق المودعين:

منذ أواخر 2019- أوائل 2020، أصدر عدد من قضاة العجلة تباعا وفي مناطق عدة (النبطية، بيروت، جديدة المتن وزحلة..)، أحكاما ألزمت المصارف بإجراء حوالات لصالح المودعين بعدما اعتبروا أن أي تقييد لحقوقهم من المصارف إنما يشكل تعدّياً واضحاً على حقوقهم بغياب قانون كابيتال كونترول. وأهمّيّة هذه الأحكام لا تكمن في دحض مجمل حجج المصارف وحسب، بحيث أن بعضها ذهب أبعد من ذلك في اتجاه تعرية سياسات المصارف في هذا المجال وتحميلها مسؤولية الأزمة الحاصلة مما يمنعها من حق التذرع بها لتقييد حقوق المودعين أو الانتقاص منها.

ومن أهم الحجج التي اعتمدتها هذه الأحكام أو بعضها:

  • أن تقييد حقوق المُودعين بقرار من المصارف يشكل تعدّيا على حقّ الملكية. وقد استندتْ هذه الحجة إلى أن ما يقوم به المصرف يشكل مسا بحق الملكية ذات القوة الدستورية، طالما أنّ فَرْضَ كابيتال كونترول (قيود على الرساميل) لا يكون دستورياً إلّا بموجب قانون يبرّرها، وهو أمر غير متحقق لتاريخ صدورها. وقد ذخب بعض الأحكام إلى التذكير صراحة بأنّ جمعية المصارف هي مجرد تجمّع مهني ذات أهداف نقابية لا تملك تحت طائلة أيّ ظرف كان الصلاحية في أن تعدّل أو تقيّد أو تحصر العمليات المصرفية أيّاً كان شكلها أو طبيعتها.
  • أنه ليس للمصارف التذرّع بأزمة أسهمتْ في صنعها. وقد استندت هذه الحجة إلى أن المصارف أسهمتْ بحصول الأزمة، حين "اختارت أن توظّفها (أموال المودعين) بفوائد مرتفعة جداً مقارنة بالفوائد العالمية مع ما يصاحب ذلك من مخاطر عالية وحصدت ومساهموها أرباحاً خيالية". وعليه، رأى القضاة عموما أن الأزمة شكلت بالنسبة إلى المصارف حدثا متوقعا ومن صنيعتها مما يمنعها من التذرّع بالقوة القاهرة.
  • أن إيفاء حقّ المُودع لا يتحقق بإعطائه شيكاً مصرفياً مسحوبا على مصرف لبنان كما دأبت على فعله منذ بدء الأزمة،  طالما "أنّ شروط استيفائه (أي الشيك) الحالية، والمعلومة من الكافة، عبر إعادة حجزه من قِبل مصرف آخر، لا تجعله وسيلة إبراء غير محدودة كالنقود". وقد عزز بعض القضاة حجتهم بالقول بأن إيداع هذه الشكات لدى أي مصرف آخر (في حال نجاح المودع في ذلك) إنما "يحصل ضمن شروط وقيود جدّ ضيّقة كشرط تجميد الوديعة لفترة ثلاثة أشهر، الأمر الذي من شأنه أن يُدخِل المُودع في دوّامة لا تنتهي من القيود على حقّه بتحريك أمواله والتصرّف بها".

فئة ثانية: الحقوق الأساسية تسمو على مقتضيات الاستقرار المالي

في موازاة الاتّجاه القضائي الرافض لأيّ كابيتال كونترول بإرادة جمعيّة مهنيّة، برز اتّجاه آخر لدى قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كريستين عيد وذلك في قضيتَيْن أمكننا توثيقهما طلب في كل منهما مودع بإلزام المصرف تحويل أموال إلى الخارج لتسديد نفقات تعليميّة أو صحية، معتبرة أن تقييد حقوق المودعين يكون واضحا بداهة في حال أدّى إلى حرمان المودع من أي من حقوقه الأساسية. الحكم الأوّل صدر في تاريخ 12/1/2021 وانتهى إلى إلزام مصرف إجراء حوالة لتسديد نفقات التعليم لابنه في الخارج. أما الحكم الثاني فصدر في تاريخ 10/2/2021 وانتهى إلى إلزام مصرف إجراء حوالة لتسديد نفقات إجراء عملية جراحية.

وبعدما ذكّرت عيد بأنّ كلّاً من هذين الحقَّيْن (التعليم أو الطبابة والعلاج الصحي) يشكّل "حقاً مصاناً في الدستور اللبناني وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي عدد من الصكوك الدوليّة الأساسيّة المعنيّة بحقوق الإنسان" و"هو من الحقوق الحيوية اللصيقة بالطبيعة البشرية، ولا يُحرَم شخص من هذا الحق لأيّ سبب كان"، اعتبرتْ أنّ لدى تعارض أيّ من هذين الحقَّيْن مع الحق بتأمين الاستقرار المالي لا بدّ لها من إجراء عملية موازنة وتقرير الحق الأجدر بالحماية ليس من منظارها الخاص إنما انطلاقاً من الحق الحيوي الأساسي ومقدار الضرر الناتج عن ممارسة أو عدم ممارسة هذا الحق وقابليّته للتعويض. وبنتيجة هذه الموازنة، انتهتْ عيد في كلتا القضيتَيْن إلى إلزام المصرف إجراء الحوالة المطلوبة، طالما أنّ الحق الإنساني (الذي قد يُحرَم منه المودع في حال عدم إجرائها) هو الحق السامي الأجدر بالحماية والذي يتفوّق على أيّ اعتبارات عقديّة أو ماليّة أو ظرفيّة أدلى بها (المصرف) لتبرير امتناعه عن إتمام التحويل، بخاصّة أنّ الضرر الذي سينتج عن امتناع المصرف عن تحويل الأموال للغاية العلاجية للمدعية غير قابل للتعويض إذا تفاقمتْ حالتها وساءت.

رسائل محكمة التمييز لطمأنة المصارف وإحباط المودعين

بعد صدور أحكام العجلة في مختلف المناطق، سارعت المصارف إلى تقديم طُعون لوقف تنفيذها، معتبرةً أنّ قضاة البداية تأثّروا في توجّهاتهم بالرأي العام وغلّبوا في حيثيّاتهم العواطف على القانون. وقد قامتْ هذه الطعون على حجّة أساسية قوامها أنّ القضاء المستعجل ليس مختصّاً طالما أنّ التعدي على الحق ليس واضحاً في ظلّ الأزمة الحالية وفي ظلّ خلوّ عقود فتح الحسابات المصرفية من التزام المصارف إجراء حوالات إلى الخارج. تبعاً لذلك، اتّجهت الأنظار إلى محاكم الاستئناف والتمييز. هل تقرّ توجُّه قضاة البداية في اتجاه تكوين تيار قضائي قادر على لجْم مخالفات المصارف وتعسفها بتقييد حقوق المودعين من دون أي مسوغ قانونيّ؟ أم أنّها تذهب عكس ذلك في اتجاه وقف تنفيذ هذه الأحكام، وصولاً إلى لجم حماسة قضاة البداية في حماية المودعين؟ وقد انحصرت هذه الأسئلة في محكمة التمييز بعدما صادقت محكمة استئناف بيروت برئاسة القضاية جانيت حنا على توجّه قضاة الأمور المستعجلة (الأمثلة على ذلك القرارات الصادرة في 30/6/2020 و5/11/2020 و8/4/2021).

ولم تتأخر محكمة التمييز (الغرفة التجارية برئاسة القاضي ميشال طرزي) عن اتخاذ قرارات سلبيّة في هذا المضمار أدّت عمليا إلى وقف تنفيذ قرارات العجلة الصادرة ضدّ المصارف (أمثلة: القرارات الصادرة في 24/8/2020 و16/12/2020 و17/3/2021). وقد اعتمدتْ محكمة التمييز في قراراتها هذه تعليلاً قد يكون مُوحّداً مفاده أنّ المسائل التي يطرحها النزاع (ومنها أنّ المصرف ملزَم أم لا بإجراء حوالات إلى الخارج) ليست بديهية، بما ينفي اختصاص القضاء المستعجل. وبذلك، أرسلتْ المحكمة العليا رسائل في اتجاهات عدة: (1) رسالة طمأنة إلى المصارف بأنه ليس لديها ما تخشاه طالما أن محكمة التمييز تقف في النهاية صمّام أمان ضدّ أيّ قرار قضائي من قضاة العجلة أو الاستئناف يتهدّد قراراتها بتقييد حقوق المودعين، (2) رسالة لإحباط آمال المودعين بإمكانية تحصيل حقوقهم في القضاء وثنيهم تالياً عن تقديم دعاوى ضدّ المصارف، وهي رسالة مؤدّاها حملهم على قبول سلطة الأمر الواقع والإجراءات التي تفرضها والتطبيع معها مهما بدتْ مجحفةً تحت طائلة تكبُّد خسائر أكبر. وهذا ما حمل الغالبية الكبرى للمُودعين إلى قبول عمليّات قصّ شعر على سحوباتهم بلغت أحيانا 80% من قيمتها. (3) رسالة للقضاة، وبخاصّة الشبّان والشابات منهم، بأنّه ليس للقضاء أن يتغوّل في قضايا يترتّب عليها آثار مالية أو اقتصادية بالغة الأهمية أو أن يغيّر من موازين القوى في اتّجاه تعزيز مواقع الفئات المغبونة.

وما زاد من خطورة هذا التوجه أنّه ساد في المجال القضائي والعام طوال السنتين الأوليَيْن للأزمة، بما ضَمِنَ التطبيع مع مقررات جمعية المصارف. ولم تسنحْ الفرصة لتغيير هذا التوجّه إلّا بعد تقاعد القاضي ميشال طرزي الحاصل في آذار 2021 والذي كوفئ بالمناسبة على دوره المذكور بتعيينه عضواً في المجلس الدستوري في 30/7/2021.

حين عدلت محكمة التمييز عن وجهتها... وماذا بعد؟

تبعاً لتقاعد طرزي، تمّ انتداب القاضية جانيت حنا رئيسة للغرفة التي كان يرأسها في أيار 2021. هذا الأمر فرض إحالة الطعون المقدَّمة ضد القرارات الصادرة عن استئناف بيروت والتي كانت ترأسها حنا إلى الغرفة الثامنة (برئاسة القاضي ماجد مزيحم) لعدم جواز أن تتولّى النظر في الطعون المقدَّمة ضدّ القرارات الصادرة عنها بصفتها السابقة.

ومن اللافت أنّ محكمة التمييز أصدرتْ في تاريخ 11 كانون الثاني 2022 خمسة قرارات عدلتْ بموجبها عن توجّه محكمة التمييز السابق. وفي حين اتّصلت ثلاثة من هذه القرارات بأحكام صادرة عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شواح (وهي القرارات التي رفضتْ من حيث المبدأ أيّ تقييد لحقوق المودعين بغياب قانون ناظم لذلك والتي صنفناها ضمن الفئة الأولى أعلاه)، فإنّ المحكمة العليا صادقتْ أيضاً على مقاربة القاضية كريستين عيد والقائمة على تغليب الحقوق الأساسيّة على مقتضيات الاستقرار المالي (والتي صنفناها ضمن الفئة الثانية أعلاه). واللافت أنّ هذه القرارات صدرتْ تحت جناح الصمت ولم تحظَ بأيّ اهتمام إعلامي، بما أدّى إلى حجب أيّ رسالة قد تتأتّى عنها منعاً لمحْو رسائل محكمة التمييز السابقة.

فهل تستقرّ المحكمة العليا على توجّهها هذا؟ هل ستحفّز قراراتها مزيدا من المودعين لتقديم دعاويهم بعدما تخلّت هذه المحكمة عن إجهاض جهود قضاة البداية والاستئناف حماية للمصارف؟ وبما لا يقلّ أهمية، هل ستعود دواليب المحاكم للدوران وفق الطريقة الاعتيادية بعدما دخلت قصور العدل في ما يشبه الكوما خلال السنوات الثلاث الماضية، على نحو يؤمل منه تقصير آماد انتظار صدور الأحكام النافذة؟ وما يزيد هذا السؤال إلحاحا هو أنّ قرارات التمييز المذكورة قد صدرت بعد تأخير تراوح بين 11 و20 شهراً من صدور القرارات الابتدائية، وهو تأخير من شأنه أن يحبط عزيمة كثير من المودعين. أم أنه ما زال للمصارف أوراق كثيرة تخوّلها لجم جهود القضاة في إنصاف المودعين، قد يكون أخطرها التدخل في التشكيلات والانتدابات القضائية، وفي مقدمتها تشكيلات رئاسات غرف التمييز التي هي في غالبها شاغرة حاليا؟ فلنراقب.