مشروع قانون إعادة الإعمار يكرّر إخفاقات الماضي: ليس بإعمار المباني فقط نحيي بلدات مدمّرة

استديو أشغال عامة

23/12/2024

بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان حيّز التنفيذ صباح الأربعاء في 27 تشرين الثاني بعد أكثر من شهرين على بداية الحرب الإسرائيلية على لبنان، عقدت حكومة تصريف الأعمال جلسةً وزاريّة في 7 كانون الأوّل استثنائيًا في ثكنة "بِنوا بركات" في صور كخطوة اعتبرتها الحكومة رمزية "للتأكيد على ما يعنيه الجنوب بالنسبة للبنان" و"تضامنًا مع أهل الأرض وتحيّة لشهدائها"[1]، وذلك بمشاركة قائد الجيش بهدف البحث في خطّة تعزيز انتشار الجيش اللبنانيّ في منطقة جنوب الليطاني، فضلًا عن الترتيبات والإجراءات المتعلقّة بعملية مسح الأضرار ورفع الأنقاض لإعادة الإعمار. وقد أقرّت الحكومة خلال هذه الجلسة "مشروع قانون يرمي إلى إعادة إعمار الأبنية المتهدّمة بفعل العدوان الإسرائيلي على لبنان" بناءً على اقتراح وزير الأشغال العامة والنقل، وقد وافقت على مشروع مرسوم بإحالة مشروع القانون هذا على مجلس النواب.

في هذا السياق، ووفقًا لتقييم أوّلي أجراه البنك الدولي[2]، كبّد العدوان الإسرائيلي لبنان خسائر وأضرارًا بلغت قيمتها 8.5 مليار دولار[3] على مدى الأشهر الـ 13 الماضية. وقد أدّى العدوان إلى نزوح 1.3 مليون شخص، فيما ذكر البنك الدولي أنّ ما يقدّر بنحو 166 ألف عامل فقدوا وظائفهم، وأنّ ما يقرب من 100 ألف منزل تضرّر جزئيًا (82%) أو كليًا (18%)[4]، بقيمة تصل إلى 3.2 مليار دولار من الخسائر والأضرار، إلى جانب خسائر تعطيل التجارة والزراعة والتي تقدر بأكثر من 3 مليارات دولار. بالمقابل، تشير مسوحات غير نهائية أخرى[5]، إلى تجاوز الأرقام والتقديرات الأوّلية التي وضعها البنك الدولي ما لا يقلّ عن ثلاثة أضعاف. كما تشير أرقام الدولية للمعلومات، إلى أنّ خسائر الحرب الأخيرة على الصعد كافة أكثر بمرّتين من حرب تموز 2006، بما في ذلك حجم الدمار. أما الخسائر المرتبطة بالمساكن، فبلغت في حرب تموز 2.2 مليار دولار، وقد تخطّت اليوم 4.260 مليار دولار.

في كلّ الأحوال، يبقى التفاوت بين حرب تموز والعدوان الحالي أكبر من حجم الضرر والدمار المضاعف. فقد دخل لبنان الحرب في ظلّ انهيار اقتصادي وسياسي ومالي وأزماتٍ متعدّدة ومتداخلة وفراغ مؤسساتي. وقد ساهَمَ هذا الانهيار في سقوط حوالي 82% من الأسر في لبنان تحت ثقل الفقر متعدد الأبعاد منذ عام 2019، وهو ما لا يقتصر على الدخل وإنّما يطال الصحة والتعليم والسكن والعمل، ووسط ترجيحات بأنّ المساعدات التي أُغدقت على لبنان لإعادة الإعمار بعد حرب تموز، قد لا يصل إلّا القليل منها اليوم، ممّا يزيد من حدّة تداعيات العدوان الإسرائيلي الأخير.

في ظلّ هذا الاختلاف بين حرب تموز 2006 والعدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، يأتي مشروع القانون الذي "يرمي إلى إعادة إعمار الأبنية المتهدمة بفعل العدوان الإسرائيلي على لبنان"، نسخة طبق الأصل عن قانون "إعادة إعمار الأبنية المتهدمة بفعل العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006" مع تعديلات طفيفة، ما يطرح تساؤلات حول قدرة مشروع القانون على محاكاة السياق والواقع الحالي ومعالجته. لذا، نعرض فيما يلي مشروع القانون من حيث مضمونه وإشكاليات هذا المضمون على المستوى الأوّل. أمّا على المستوى الثاني، فنستعرض نواقصه وقصوره في معالجة إشكاليات إعادة الإعمار وذلك استنادًا إلى تجارب إعادة الإعمار السابقة، مع تبيان مخاطر إعادة الإعمار التي لم يأخذها مشروع القانون في الاعتبار، إضافةً إلى المبادئ التي يجدر اتباعها لضمان استعادة الحياة الفعلية في المناطق المدمرة من جراء العدوان الإسرائيلي.

 

عن مضمون مشروع القانون

بحسب المادة الأولى من مشروع القانون، تخضع إعادة بناء الأبنية المتهدمة كليًا أو جزئيًا من جرّاء العدوان الإسرائيلي لأحكامٍ استثنائية، بحيث يمكن لمالك العقار المتهدّم كليًا أو جزئيًا إعادة بنائه وفق ما كان عليه قبل الهدم باستثناء الأجزاء المصابة بالتخطيط المصدّق والأجزاء المعتدية على الأملاك العامة والخاصة. ويمكن لمالك العقار تعديل البناء شرط التقيّد بالتراجعات المفروضة على الأملاك العامة والتخطيطات المصدقة. وتكون عملية إعادة البناء معفاة من الرسوم والغرامات والطوابع المالية كافة بما فيها رسوم الإنشاءات ورسوم نقابتي المهندسين، شرط ألّا يشمل الإعفاء المساحات الإضافية عمّا يسمح به قانون البناء[6].

أمّا المادة الثانية منه، فتنصّ على إمكانية إعادة بناء المبنى المخالف على أن تخضع هذه العملية لأحكام قانون تسوية مخالفات البناء 139/2019، وعلى أن يُعتمد تاريخ 2018 كتاريخ لإنجاز المخالفة شرط أن تكون قد حصلت قبل 1/1/2019، وشرط دفع الرسوم والغرامات قبل الحصول على رخصة الإسكان النهائية. لكن، لا تسري أحكام هذه المادة على الأبنية المشيّدة على ملك الغير. كما تُطبّق أحكام هذا القانون على الأبنية المتهدمة كلّيًا أو جزئيًا من جرّاء العدوان الإسرائيلي التي ستتم إعادة بنائها أو إعادة بنائها أو التي أعيد بناؤها قبل صدور هذا القانون.

وبحسب المادة الخامسة، يُفتح لدى دوائر التنظيم المدني في الأقضية والمحافظات سجلّات خاصّة بعد تقدّم المستدعي بملف إعادة البناء، على أن تصدر التراخيص بناءً لإفادة عن واقع الأبنية المتهدمة وبعد أن يكون قد استحصل على إفادة تثبت حالة الهدم جراء العدوان الإسرائيلي، من الهيئة العليا للإغاثة أو مجلس الجنوب، كلّاً ضمن نطاق صلاحياته.

يستند مشروع هذا القانون بشكلٍ أساسي، ومع تعديلات بسيطة، على القانون رقم 263 "إعادة إعمار الأبنية المتهدمة بفعل العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006" تاريخ 15/4/2014 الذي صدر بعد حوالي 8 سنوات من حرب تموز لحلّ إشكاليات إعادة الإعمار التي لم تُعالج مباشرةً بعد الحرب. بحسب منى فواز، تمّ إصدار هذا القانون عام 2014 لكون المباني المتضرّرة في الضاحية الجنوبية آنذاك كانت تعتبر "غير قانونية"، وكانت قد استفادت من تسويات مخالفات بعد الحرب الأهلية التي نظّمت وضعها، لكن لم يتمكّن سكانها من إعادة بنائها بعد عام 2006 من دون تجديد التراخيص، حيث اتُّهموا بخرق أنظمة البناء واستعمالات الأراضي ومعدلات الاستثمار، ولم يتمكّنوا من الحصول على رخصة لإعادة البناء. لذلك، كان خيارهم الوحيد تفويض حزب الله الذي تولى عملية إعادة الإعمار دون الحصول على التراخيص الرسمية. وبعد انتهاء عملية إعادة الإعمار، تمّ إقرار هذا القانون عام 2014 لتسوية هذه المخالفات استثنائيًا ولمرّة واحدة، للسماح للسكان الذين فقدوا منازلهم بإعادة بنائها كما كانت، والتي كان قد تمّ بنائها فعليًا على أرض الواقع قبل صدور القانون.

أما من ناحية التعديلات عليه، فإنّ مشروع القانون الحالي يستند إلى أحكام قانون رقم 139 "تسوية مخالفات البناء الحاصلة خلال الفترة من تاريخ 13/9/1971 ولغاية تاريخ 31/12/2018 ضمنًا"[7] الصادر في تاريخ 9/7/2019، بينما استند قانون عام 2014 على قانون تسوية المخالفات رقم 334/1994 شرط أن تكون المخالفة قد حصلت قبل عام 1994 أي خلال الحرب الأهلية فقط.

 

إشكاليات مشروع القانون من حيث مضمونه

بدايةً، لن نغوص في ما غاب عن القانون والذي يجعل من مهمة إعادة البناء السريع والتعافي الشامل وضمان استعادة الحياة الفعلية في المناطق المدمرة، مهمة مستحيلة. سوف نبدأ بمضمون القانون. من جهة، تكمن خطورته بكونه يمنع إعادة البناء في الأملاك العامة ولا تسري أحكامه على المباني المشيّدة بملك الغير، ما يطرح إشكالية المناطق غير الرسمية ومصيرها في ظلّ الدمار الهائل الذي طالها خلافاً لما حصل في حرب تموز 2006. فمن خلال رصدنا للاعتداءات الإسرائيلية على أراضي لبنان وسكانه، تبيّن أنّه منذ بداية الحرب في 8 تشرين الأول 2023 وحتى وقف إطلاق النار، تعرّض نطاق مدينة صور الكبرى للقصف لمدة 71 يوماً، طالت مناطق بكاملها بناءً على 7 إنذارات جماعية أصدرها جيش الاحتلال، شملت تجمع المعشوق وحي المساكن الشعبية ومخيّمات برج الشمالي والبص والرشيدية، وهي مناطق غير رسمية مبنية على أملاك الدولة الخصوصية. في صيدا، طالت الاعتداءات الإسرائيلية مخيم عين الحلوة (ملك خاص) ومنطقة التعمير في صيدا (مشروع إسكان على أرض عامة)، وفي الشمال مخيم البداوي. وبالنسبة للمناطق غير الرسمية ضمن نطاق بيروت الكبرى، فقد تعرّض مخيّم برج البراجنة (ملك خاص)، حي السلم (ملك خاص وعام)، العمروسية (ملك عام)، والليلكي (ملك عام) لاعتداءات بوتيرة عالية، كذلك بالنسبة للرمل العالي  (ملك خاص وعام) والأوزاعي (ملك خاص وعام) لكن بوتيرة أخف.

يطرح ذلك أيضاً إشكالية إعادة البناء في المناطق التي تضمّ عدداً من الأراضي الأميرية التي قد تقع فيها بعض المباني المدمّرة، بالأخصّ في محافظة البقاع وبعلبك الهرمل التي تضمّ وحدها حوالي 75% من مجموع الأراضي الأميرية في لبنان[8]، وهي نفسها الأقضية التي تعرّضت لاعتداءات إسرائيلية واسعة ولقصفٍ متكرر وعنيف وبوتيرةٍ مرتفعة. فمن الواضح أنّ مشروع القانون، على مثال القانون الصادر عام 2014، يتعامل حصراً مع الإشكاليات التي ظهرت في المناطق التي تعرّضت للعدوان عام 2006 بالأخصّ في الضاحية الجنوبية، ولم يأخذ بعين الاعتبار السياقات المختلفة ذات الخصائص المتنوعة التي تعرّضت للعدوان، ويعطي حلّاً واحداً لإشكالياتٍ متشعبة ومتباينة.

من جهةٍ أخرى، يسعى مشروع القانون مبدئيًا إلى إزالة شرط الاستحصال على تراخيص البناء لترميم المباني أو إعادة بنائها بحسب الآليات المتبعة عادةً، ويستبدلها بملف يقدمه المستدعي (المالك) لدى دوائر التنظيم المدني في الأقضية والمحافظات على أن تصدر التراخيص بناءً لإفادة عن واقع الأبنية المتهدمة، وهو ما يبدو مناسبًا في سياق الحاجة الملحّة للترميم السريع لعودة السكان إلى بيوتهم. لكنّه يطرح إشكالية أخرى، مشابهة للإشكالية التي برزت لدى قاطني المناطق المتضرّرة بعد تفجير مرفأ بيروت من المستأجرين، حيث يبدو أنّ الحق الحصري يبقى بيد المالك دون سواه في تقديم الملف إلى الدوائر المختصة، ما يضع المالك في موقع السيطرة على مصير ترميم المبنى أو عدم ترميمه، حتى لو أراد القاطنون الترميم. وهنا نتكلّم عن مبانٍ تحتاج لأشغال تدعيم تتناول الهيكل الأساسي، كون القانون يتناول المباني المهدّمة جزئيًا أو كليًا. ففي حال تمنّع المالك (أو أحد المالكين) عن الترميم أو منع المستأجر من تصليح الأضرار لسببٍ أو لآخر، يصبح المستأجر أمام خطر التهجير.

وفي حال تعدّد الملكية أو المباني المملوكة بالشيوع - وهو ما يكثر في مناطق مثل البقاع على سبيل المثال- من المفترض أن يتمّ تطبيق أحكام المادة 12 من قانون تسوية المخالفات، التي تنصّ على موافقة 51% من المالكين في أرض العقار، ما قد  يطرح عددًا من الصعوبات بحسب المناطق والسياقات المختلفة وتعقيداتها.

قد يعتبر البعض أيضًا أنّ مشروع القانون، ومن الناحية التقنية البحتة، يحمل بعض التناقضات في مضمونه بحيث يقوم من جهة على التقيّد بأحكام قانون البناء والتقيّد بالاستثمار السطحي والعام، لكنّه يسمح من جهةٍ أخرى بإعادة البناء في فسحات التراجع عن العقارات المجاورة، ويجيز تسوية أوضاع الإنشاءات المبنية ضمن التراجعات عن الطرقات، ‎ويقوم على تسوية مخالفات البناء بشكلٍ واسعٍ جدًّا، كونه يخضع لقانون تسوية المخالفات لعام 2019. وهو يقوم على الإعفاء من الرسوم والغرامات، ما عدا الإعفاء عن المساحات الإضافية، ويشترط في المقابل دفع الرسوم والغرامات قبل الحصول على رخصة الإسكان النهائية بالنسبة للبناء المخالف. فهو بالتالي ليس إلّا جزءًا من الحلقة المفرغة التي تتكرّر منذ عقود في تسوية المخالفات وتشريعها من خلال قوانين ظرفية، تعبّر بشكل فاضح عن المنطق الزبائني.

وقد يعتبر البعض الآخر أنّه يتعيّن على البرلمان، منذ بداية عملية إعادة الإعمار، أن يقرّ مثل هذا القانون الذي يشرّع استثناءً لمرّة واحدة على قانون البناء للسماح بإعادة بناء المنازل بالشكل الذي كانت عليه، بما يشمل القرى التي بُنيت قبل صدور قانون البناء، والتي تحتاج لإقرار استثناء يسمح بإعادة بنائها بالشكل الذي كانت عليه وبما يناسب سكانها ويحافظ على طابعها من دون الالتزام بقانون البناء؛ كذلك، المباني المدمّرة في المدن، وتحديدًا في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي بُنيت بمخالفات ولكن جرت تسوية أوضاعها ودفع الغرامات المترتبة عليها. وذلك كي لا تتكرّر التجارب السابقة التي تفرض على المواطنين تسليم أنفسهم للأحزاب، كما في العام 2006.

 

ماذا غاب عن مشروع القانون استنادًا إلى تجارب الماضي؟

صحيح أن مشروع القانون لا يدّعي أنّه قانون إعادة إعمار شامل. وهذا ما يتبيّن بوضوح من خلال عنوانه "إعادة إعمار الأبنية المتهدمة"، وهذا بالتحديد ما يجعله قاصرًا. فهو يحاول، بالنسبة لطارحيه، أن يستبق بعضًا من الإشكاليات التي نتجت عن إعادة الإعمار بعد حرب تموز 2006، لكنّه لا يتعامل فعليًا مع الواقع الحالي اليوم (المتعدّد الأزمات) ولا مع حجم الدمار الناتج عن العدوان الإسرائيلي الأخير، كما لا يقارب هذه المسألة من منظور التعافي الشامل - الاجتماعي والاقتصادي والبيئي- وبذلك يكرّر إخفاقات التجارب السابقة في إعادة الإعمار. نفنّد فيما يلي ما غاب عن القانون، مبينات مخاطر ذلك، بالإضافة إلى المبادئ التي يجدر أن تراعيها أي عملية إعادة إعمار.

في الإطار المؤسّسي للمسوحات والتعويضات

لا يوضّح مشروع القانون الإطار المؤسّسي الذي سوف يكون مسؤولًا عن مسح الأضرار والتعويض عنها، ممّا يعيدنا إلى خطر تهميش الدولة مجددًا وتقوية شبكة الطوائف والزعماء والجهات الخاصة والحزبية، مكرّسًا بذلك العلاقة الزبائنية كطريقة وحيدة للحصول على الإغاثة والخدمات.

فبعد مرور 4 سنوات على تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 على سبيل المثال، اتّسمت عملية إعادة الإعمار بعبثية أعمال الإغاثة والترميم والتعويضات، وتمّ تفويض هذه العملية إلى القطاع الخاص من منظماتٍ غير حكومية أو جمعيات أهلية متنافسة وتابعة للأحزاب السياسية أو الجهات الدينية، ما وضع الناس في منافسة على التعويضات المالية الضئيلة، وأدّى إلى غياب العدالة في توزيع التعويضات بين الأحياء وبين السكان.

حاليًا، باشر حزب الله المسار الإجرائي فيما يتعلّق بمسح الأضرار وإطلاق عمليات دفع التعويضات[9] ومن ثمّ إعادة البناء والترميم، و"التي سوف يتكفّل حزب الله بكل تكاليفها نظرًا للإمكانات المالية الضعيفة للدولة"، بحسب المدير العام للمركز الاستشاري للدراسات والتوثيق. وقد بدأت تتعالى أصوات تعتبر أنّ تعويضات الحرب مجحفة. إذ إنّ غياب التنسيق بين الجهات التي تعمل على مسح الأضرار (جهاد البناء وشركة معمار للهندسة والإنماء في لبنان) والجهات الرسمية، كما تبدو الحال حتى الآن، قد يشير إلى إمكانية تكرار تجربة التعويضات بعد  تفجير مرفأ بيروت وإشكالياتها.

من هنا، يجدر ضمان تعويضات عادلة وفق آليات تسديد واضحة وشفافة تضمن أطر للوصول إلى المعلومات المتعلّقة بالتعويضات، وتتضمن جدولاً زمنياً لتوزيعها ولضمان المساواة بين جميع المتضررين وتشمل الفئات الاجتماعية المختلفة من دون أي تمييز.

في التعافي الشامل

يتجاهل مشروع القانون، كما كافة تجارب إعادة الإعمار السابقة، التعافي غير المادي، بما يشمل الحركة الاقتصادية (الزراعة، التجارة، إلخ) والعلاقات والممارسات الاجتماعية، والشق البيئي، بحيث يفرض القانون الحالي بشكلٍ غير مباشر فهماً ضيّقاً ومادياً للغاية لعملية إعادة الإعمار.

بهذه الطريقة أيضاً، لم توفّر تجارب إعادة الإعمار السابقة الظروف الملائمة للتعافي الحقيقي بالرغم من تطبيقها لنماذج مختلفة، وما كانت إلّا دليل على فشل مشاريع إعادة الإعمار في مراعاة البُعدين الاجتماعي والاقتصادي، ومنحت في بعض الأحيان الأولوية للقيمة المادية للمكان مع تهميش لتاريخ التجارب المُعاشة التي أنتجت المكان.

لهذا، ينبغي إعطاء الأولوية لاستعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية بما يضمن إعادة إنعاش وازدهار سُبل العيش في المناطق المدمّرة، بهدف تأمين التعافي الحقيقي والسريع والمحافظة على النسيج الاجتماعيّ، بما يتخطّى عمليّة إعادة بناء المباني بحدّ ذاتها. كما ينبغي أن تشمل العملية تأهيل المساحات العامة والحيّز المشترك، والتي عادةً ما يتمّ إهمالها رغم أهميتها الحيوية، بما يشمل البنى التحتية (شبكات مياه، هاتف، كهرباء، وصرف صحّي)، بالإضافة إلى الأسواق الشعبية والمعالم بما يتماشى مع الممارسات المكانية والاجتماعية للسكان والمتضررين، واتباع معايير الدمج في الترميم والتأهيل والبناء.

في النسيج العمراني وخصوصيات المناطق

كما سبق وأشرنا، لا يتعاطى مشروع القانون مع خصوصيّات المناطق المدمّرة وتنوّعها العمراني، والتحدّيات التي يفرضها قانون الملكية وقانون البناء، بالأخصّ في المدن القديمة كما في بعلبك والنبطية والنسيج التاريخي في البلدات الجنوبية. فإعادة البناء في بعلبك على سبيل المثال سوف تتطلّب رؤية محلّية لإعادة البناء، بخاصّة أنّ قانون البناء لا يعترف بخصوصية المدن القديمة وهندستها المعمارية. كذلك الإشكاليات المتعلّقة بإعادة البناء في المناطق التي تضمّ عددًا من الأراضي الأميرية، أو في المناطق غير الرسمية المبنية على ملك الغير إمّا الخاص أو العام.

بالتالي، يجدر على أيّ نهج لإعادة الإعمار أن يكون محليًا، منبثقًا من خصوصيّات المناطق وإشكالياتها وحاجات سكانها من خلال مشاريع ذات رؤى ومقاربات محليّة، تأخذ بعين الاعتبار كلّ حي وبلدة ومدينة.

في معالجة أنواع الدمار

لم يتعاطَ مشروع القانون مع أنواع التدمير المختلفة. فبحسب رصدنا للاعتداءات الإسرائيلية على أراضي لبنان وسكانه، وحتى 18 تشرين الثاني، استهدف الاحتلال الإسرائيلي 177 بلدة لبنانية. وتم توثيق استخدام الاحتلال أداة النسف للأحياء والقرى في 13 بلدة، وهي حولا ومحيبيب وميس الجبل وبليدا وراميا ومروحين والضهيرة وعيترون والعديسة وعيتا الشعب وكفركلا وطير حرفا والخيام. كما دمّر الاحتلال منازل ومحا أكثر من شارع وحي في 37 بلدة.

وقد خنقت إسرائيل السكان وقتلت الأرض والمياه، باستخدام قنابل الفسفور الأبيض المحرّم دولياً في إبادة بيئية متعمّدة للإخلال بتوازن الطبيعة والقضاء على مقوّمات العيش المحلية البيئية والثقافية والزراعية وتلويث المياه والتربة على المدى الطويل. فبحسب رصدنا، منذ بداية الحرب في 8 تشرين الأوّل 2023، قُصفت بالفسفور 59 منطقة في في يوم أو أكثر و7 مناطق في أكثر من 10 أيام، وذلك جنوب نهر الليطاني.

ولم يكتف ِالعدو باستهداف المنازل والأحياء السكنية، بحيث استهدف البنى التحتية (الطرقات، شبكات مياه، هاتف، كهرباء، وصرف صحيّ)، وكانت الأحراش والغابات، بما فيها الأراضي الزراعية، عرضةً للقصف مع ما رافق ذلك من قتل للمواشي والدواجن وحرق لقِفار النحل.

وعليه، إنّ أي عملية إعادة إعمار يجدر أن تُحصي الأنواع المختلفة من الدمار والمناطق والسياقات المتنوعة التي طالتها، لكي تستطيع أن تتعاطى معها بالشكل المناسب وتكون أساساً يُبنى عليه ويوجّه عملية إعادة الإعمار والتعافي ليشمل ما هو أبعد من بناء المباني، ويتطرّق إلى استصلاح الأراضي الزراعية وتأهيل البنى التحتية، إلخ.

في عودة الناس وضمان سكنها

إنّ خطر عدم عودة السكان يشكّل أحد أكبر التحديات في مرحلة ما بعد الحرب، بما في ذلك للأشخاص الأكثر استضعافاً (محدودي الدخل، اللاجئات/ين، المستأجرات/ين، العمال والعاملات الأجانب، إلخ). لم يتضمّن القانون أي ضمانات محددة لجهة تأمين السكن البديل للنازحات/ين إلى حين تأهيل المساكن غير القابلة للسكن، أو من ناحية تعويض إعادة البناء والمدة الزمنية لها، ممّا لديه تأثير مباشر على إمكانية العودة.

في هذا السياق، يعدّ مشروع إعادة بناء مخيم نهر البارد خير دليل على مشاريع لم تكفل العودة السريعة والكاملة للسكان. فبعد مرور 17 عاماً على تدميره بالكامل من قبل الجيش اللبناني، وحتى اليوم، وبحسب الأونروا لا يزال 16.4% من سكان نهر البارد محرومين من العودة إليه بسبب تأخّر إعادة الإعمار، فيما يعيش عدد كبير ممّن عاد في أوضاع سكنية غير ملائمة. فمن بين حوالي 5000 عائلة مسجلة للعودة، حصلت 4181 عائلة على مفاتيح وحداتها السكنية التي أعيد بناؤها اعتباراً من تشرين الأوّل 2023.

لذلك، يجدر أن تأخذ عملية إعادة الإعمار بعين الاعتبار تمكين كافة السكان من العودة الكريمة والسريعة، كي لا يتحوّل انتقالهم المؤقت إلى تهجير دائم. ويستلزم ذلك أيضاً ضمان استدامة السكن وتأمين متطلبات الإيجار العادل والميسّر خلال المرحلة الانتقالية إلى حين إعادة البناء، وضبط سوق الإيجارات وتحديد بدلات الإيجار وفق مؤشراتٍ عادلة.

في المضاربة العقارية

يتجاهل القانون المقترح مسألة المضاربة العقارية، ممّا يؤشر إلى مخاطر عديدة لناحية استغلال الدمار الناتج عن الحرب كفرصة استثمارية وما ينتج عنه من تهجير الناس. لطالما شكلت عمليات إعادة الإعمار في لبنان "فرصة" استثمارية لتحريك شبكة من المصالح الاقتصادية الخاصة المرتبطة بالمضاربة العقارية وقطاع البناء، وتحقيق مكاسب مالية سريعة على حساب السكان وحاجتهم إلى سكن ميسّر ومستدام.

ويعيدنا ذلك تحديدًا إلى تجربة إعادة إعمار وسط بيروت. في منتصف السبعينات، كان ما يقارب 130 ألف نسمة  يعتاشون من وسط بيروت. وقد جعلت تجربة سوليدير وقانون إنشاء الشركة العقارية من مفهوم المنفعة العامة شيئًا يمكن التلاعب به وإعادة تعريفه في خدمة المصالح الخاصة. تمّ ذلك من خلال دفع الناس للتخلي عن ملكياتها وأسهمها، ليصبحوا خارج المدينة وخارج الشركة، وذلك بهدف جذب نوع جديد من الاستثمار الرأسمالي في التجارة والسكن الفاخر. زاد هذا الأمر من مظاهر التناقض والصراع الطبقي، وفَصَل الوسط عن باقي أجزاء المدينة في إعادة إنتاج لما صنعته الحرب.

يختلف القانون المقترح الآن جوهرياً عن قانون إعمار وسط بيروت، إلّا أنه في تجاهله لمسألة المضاربة العقارية وعدم وضعه قيوداً على الاستثمار، يمكن أن يؤدي إلى نتائج مشابهة. لذلك، يستوجب اتخاذ إجراءات وتدابير عاجلة للحدّ من المضاربات العقارية في مختلف المناطق اللبنانية، بالأخصّ تلك التي تعرضت لدمارٍ واسع من جراء العدوان.

في تمويل الإعمار ومشاركة السكان

من الواضح أن توجّه الدولة نحو مسارات تقوم على التمويل الخارجي لإعادة الإعمار وتثبيت النفوذ السياسي للأحزاب والتحكّم في اتخاذ القرارات، أمر تستفيد منه السلطة وتستغله لتعزيز وضعها في ظلّ إفلاسها ووقوعها في الأزمة المالية الكبيرة. ولطالما فرضت تجارب الإعمار السابقة هكذا نماذج. بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، كان واضحاً أنّ نموذج إعادة إعمار الضاحية الجنوبية ارتبط بتمويل دوليّ وبهيمنة حزب سياسي على إنتاج الحيّز المديني، عبر مؤسسة "وعد" التابعة له. وهو ما يبدو أنّه سيُعاد تطبيقه من جديد اليوم، إذ إنه من الواضح أنه لا يوجد أي توجه جدّي ضمن الدولة اللبنانية الممثّلة بكل الأحزاب السياسية لتحمّل أي مسؤولية.

أدّت كلّ تجربة من هذه التجارب التي أَوكلت عملية إعادة الإعمار إلى جهاتٍ خاصةٍ تمتلك رؤًى وأجنداتٍ واضحةً جرى فرضها على المناطق التي خضعت لتدخّلاتها إلى تآكل الثقة بالدولة وبدورها. وقد ساهم ذلك في إنتاج مناطق بأكملها ضمن معطيات سياسيةٍ واجتماعيةٍ قلّصت تنوّع النقاشات والأطراف المؤثرة في عملية الإنتاج المديني لهذه المناطق وأحيائها، ولم يُعطَ السكان الاستحقاق الكامل للمشاركة في عملية إنتاج أحيائهم[10].

بناءً على ذلك، يستلزم السياق الحالي التفكير في تمويل داخلي (ربما من خلال الضرائب) وإرساء أطر مشاركة واسعة تباعًا  في التخطيط والتنظيم والتنسيق والتنفيذ ضمن إطار عام لا مركزي لعملية إعادة الإعمار والتعافي.

 

خاتمة

في النهاية، ومن خلال مشروع القانون، يتبيّن أنّ مقاربة الدولة لعملية إعادة الإعمار المرتقبة  في الوقت الحالي تقتصر على تسهيل عملية إعادة بناء المباني استناداً إلى تجربة إعادة بناء الضاحية الجنوبية وقانون العام 2014. وهي تختصر بذلك عملية إعادة الإعمار بالمستوى المادي البحت، ولا تتعامل واقعياً مع "محو المكان" الذي مارسه العدو الإسرائيلي، والذي سعى من خلاله ليس فقط إلى التهجير والقتل، وإنما إلى منع استعادة الحياة. فقد تعدّى "محو المكان" هدم المباني، وبذلك يجدر أن ترتقي التشريعات إلى ما هو أبعد من بناء المباني، لتشمل البيئة المبنية والطبيعية بكليتها من مساحات عامة والبنية التحتية والشوارع والأسواق والمرافق العامة والمناظر الطبيعية، كما وأساليب العيش، والممارسات المكانية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لتكون عملية إعادة الإعمار فعل مقاومة ضدّ ممارسات العدو التدميريّة التي نسفت المباني والشوارع والأحياء والبلدات وحاولت معها طمس الذكريات الفردية والجماعية ومحو الروايات المكانية التاريخية. من جهةٍ أخرى، يبيّن مشروع القانون، تخلّي الدولة عن مسؤوليتها في إعادة الإعمار والتعافي، وتعاطيها الطائفي وغير العادل وغير المتساوي مع جميع المواطنات\ين، وتلزيم عملية إنتاج الحيّز المديني من جديد لجهة خاصة أو حزب سياسي. لذا، بغض النظر عن إشكاليته المباشرة من حيث المضمون، يبدو أنّ مشروع القانون لا يعالج التحديات والإشكاليات السابقة والمستجدة التي نواجهها، ويبدو أيضاً أنّ التوّجه إلى حد الآن هو مجرد تكرار لتجارب إعادة الإعمار السابقة مع كلّ إخفاقاتها.

للاطّلاع على مشروع قانون الذي يرمي إلى إعادة إعمار الأبنية المتهدّمة بفعل العدوان الإسرائيلي على لبنان


[1] بحسب رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي.

[2] تقديرات البنك الدولي حتى 27 تشرين الأول/أكتوبر 2024 أي قبل شهر من وقف إطلاق النار.

[3] تتوزّع بين خسائر مادّية 3.4 مليار دولار، واقتصاديّة بنحو 5،1 مليار دولار.

[4] تشير تقديرات المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى وجود أكثر من 600 مبنى مدمّر في الضاحية الجنوبية، وأنّ الأبنية التي لم تتدمر بشكلٍ كاملٍ لكنها تصدّعت إلى درجة أنها لم تعد صالحة للسكن ويجب هدمها تُقدّر بنحو 30% من الدمار الشامل.

[5] شركة "معمار" التابعة لـ"جهاد البناء".

[6] يمكن لمالك العقار الاستفادة فقط من المساحات التي لا تدخل في حساب عاملي الاستثمار السطحي والعام وفق قانون البناء رقم 646/2004 ومراسيمه التطبيقية.

[7] يحدد قانون رقم 139/2019 أنواع المخالفات الخاضعة للتسوية والرسوم والغرامات المتوجبة عن كل مخالفة وآلية التصريح عن المخالفات وكيفية احتساب الرسوم والغرامات واستيفائها، كذلك الإعفاءات المطبقة وإجراءات التخمين وقواعده، إلخ.

[8] يشمل قضاء بعلبك حوالي 10،704 عقار أميري، بينما يضمّ البقاع الغربي 7،412 عقار أميري، وقضاء راشيا 5،421، إضافةً إلى 1،282 في قضاء النبطية.

[9] بدل ترميم، بدل أثاث، بدل إيجار سنوي، إلخ.

[10] ينطبق ذلك على مشروعي وعد وسوليدير، غير أنّ مشروع إعادة إعمار مخيّم نهر البارد اتسم بدرجةٍ من التشاركية لاسيما مع القليل من التدخلاتٍ الموجّهةٍ من قبل شخصياتٍ سياسيةٍ لبنانيةٍ محلّية. غير أنّ المشاركة المباشرة للمجتمع المحلّي في عملية إنتاج المشروع لم تؤدّ إلى مواءمته مع حاجات السكان على نحوٍ أفضل.