معركة "العقد الاستثتائي" تتفرع عن معركة الحصانات
03/01/2022
الظاهر أن معركة سياسية جديدة بين أركان النظام السياسي ستحصل على الساحة الدستورية تتعلق بإصرار رئيس مجلس النواب نبيه برّي على قيام رئيس الجمهورية بدعوة مجلس النواب إلى عقد استثنائي بينما يرفض هذا الأخير إصدار مثل هكذا دعوة. فهل يحق لرئيس الجمهورية رفض دعوة مجلس النواب إلى عقد استثنائي وما هي تداعيات ذلك على الصعيدين السايسي والدستوري؟
تعتمد الدساتير في الدول التي تتبع النظام البرلماني مبدأ انعقاد السلطة التشريعية في دورات، أي أن المجالس التمثيلية لا يحق لها ممارسة اختصاصاتها المحجوزة لها في النص الدستوري إلا ضمن المساحة الزمنية التي يشكلها العقد أو الدورة.
وفي لبنان، اعتمد الدستور منذ اقراره في سنة 1926 مبدأ دورات الانعقاد إذ أشارت المادة 32 منه على أن المجلس يجتمع في عقديْن عادييْن. "فالعقد الأول يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر آذار وتتوالى جلساته حتى نهاية شهر أيار والعقد الثاني يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول وتخصص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر وتدوم مدة العقد إلى آخر السنة"· وللمجلس النيابي أن يمارس كل صلاحياته في الدورات العادية التي تفتتح حكما في المواعيد التي حددها الدستور دون حاجة لتدخل من السلطة التنفيذية.
من الملاحظ أن مجموع الدورات العادية في السنة الواحدة لا يزيد عن خمسة أشهر ما يطرح مسألة حدوث أمر طارئ خارج العقود العادية ما يحتّم ضرورة اجتماع المجلس لاتخاذ التدابير المناسبة، أو حتى ضمن الظروف الطبيعية لكن تأخر المجلس في إقرار القوانين المطلوبة يفرض انعقاده لاستكمال عمله. من هنا غالبا ما يقرّ النظام البرلماني بوجود دورات استثنائية تعقدها السلطة التشريعية بدعوة من السلطة التنفيذية. وبالفعل أعطت المادة 33 من الدستور اللبناني رئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة الحق بدعوة "مجلس النواب إلى عقود استثنائية بمرسوم يحدد افتتاحها واختتامها وبرنامجها· وعلى رئيس الجمهورية، دعوة المجلس إلى عقود استثنائية إذا طلبت ذلك الأكثرية المطلقة من مجموع أعضائه".
وهكذا يتبين لنا أن العقود الاستثنائية إما يدعو اليها رئيس الجمهورية بمرسوم يحمل توقيعه وتوقيع رئيس مجلس الوزراء، إما بناء على عريضة توقعها الغالبية المطلقة من أعضاء مجلس النواب. والفرق بين الدعوتين هي أن الأولى اختيارية تبادر إليها السلطة التنفيذية من تلقاء ذاتها. أما الثانية فهي كما يبدو إلزامية لأنّ النصّ الدستوري يفرض على رئيس الجمهورية إصدار مرسوم الدعوة إلى عقد استثنائي بمجرد توفر الشرط الذي تضعه المادة 33 أي وجود إرادة نيابية صريحة تتجسّد بتوقيع الغالبية المطلقة على عريضة تطلب هذا الأمر.
فإذا كان رئيس الجمهورية يتمتّع بحرية تقدير تسمح له برفض دعوة مجلس النواب إلى عقود استثنائية في حال جاء الطلب من رئيس مجلس الوزراء أو الحكومة، فهل يحق له رفض توقيع مرسوم الدعوة إذا طالبت بذلك الغالبية المطلقة من مجلس النواب؟
تجد المادة 33 من الدستور اللبناني مصدرها في المادة الثانية من القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 16 تموز 1875 التي ترسي النظام نفسه الذي جرى اتباعه في لبنان: دعوة السلطة التشريعية من قبل رئيس الجمهورية إلى عقد استثنائي إما بمبادرة إرادية من السلطة التنفيذية أو بمبادرة نيابية لا تصبح ملزمة إلا إذا اقترنت بطلب الغالبية المطلقة من مجلسيْ الشيوخ والنواب.
وقد فسّر الفقهاء خلال الجمهورية الثالثة في فرنسا (11875-1940) هذه المادة بشكل واضح لا يقبل أيّ شكل من الالتباس بأن رئيس الجمهورية يصبح مجبرا على إصدار مرسوم الدعوة عندما تعبر الغالبيّة المطلقة عن رغبتها..
وهذا ما ذهب اليه أيضا إدمون رباط عندما كتب: "ولا غرو أن في الحالة، التي يكون فيها قد توجه النواب بطلبهم، بأكثرية مجموعهم المطلقة – أي النصف بزيادة واحد، من عدد أعضاء المجلس – يتوجب دستوريا على رئيس الجمهورية إجابة هذا الطلب، باتخاذه مرسوما بدعوة المجلس إلى دورة استثنائية، مع تحديد المواضيع الداخلة في جدول الأعمال المخصّصة لهذه الدورة، كما جاء بيانها في طلب النواب بافتتاح هذه الدورة".
صحيح أن الغالبية العظمى من العقود الاستثنائيّة تتم الدعوة اليها عادة بمبادرة من السلطة التنفيذية. لكن لبنان عرف أيضا حالات كانت الدعوة فيها إلى عقد استثنائي تتمّ بطلب من الغالبية المطلقة من النواب لا سيما في عهد الرئيس أمين الجميل كالمرسوم رقم 3342 تاريخ 29 تموز 1986 والمرسوم رقم 4000 تاريخ 6 تموز 1987 والمرسوم رقم 4947 تاريخ 30 حزيران 1988. وقد أشارت جميع هذه المراسيم أنه يتم إصدارها "بناء على العريضة الموقعة من السادة النواب بطلب فتح دورة استثنائية".
لكن المشكلة الجديدة التي ستطرح نفسها اليوم تتعلق بكيفية احتساب الغالبية المطلقة بعدما فشل المجلس الدستوري في حسم هذه النقطة كونه لم يتمكّن من تأمين الغالبية المطلوبة للبتّ بالطعن حول تعديل قانون الانتخابات الذي ردّه رئيس الجمهورية. ففي حال رفض رئيس الجمهورية دعوة مجلس النواب بمبادرة منه، سيعمد رئيس المجلس نبيه بري إلى جمع التواقيع الضرورية من قبل النواب من أجل إرغام رئيس الجمهورية على توجيه تلك الدعوة. وهنا ستطرح مسألة كيفية احتساب الغالبية المطلقة: هل هي كما يفترض أن تكون من مجموع أعضاء مجلس النواب القانوني (وتاليا 65 نائبا) أو هي أصبحت 59 بعد وفاة أو استقالة 12 نائبا حتى اليوم دون إجراء انتخابات فرعية للمقاعد الشاغرة.
وبما أن رئيس الجمهورية يعتبر أن الغالبية المطلقة هي دائما 65 فهو سيرفض أي عريضة لا يتمكن رئيس مجلس النواب من الحصول فيها على توقيع 65 نائبا حتى لو استطاع تأمين 59 توقيعا. وهكذا يظهر لنا هذا الواقع أن رئيس الجمهورية في هذه الحالة هو الذي يفسر الدستور، أي هو الذي يطبقه من خلال رفضه لاجتهاد ليس فقط رئيس مجلس النواب بل حتى مجلس النواب الذي قد يسير باتجاه اعتبار أن الغالبية المطلقة تحتسب على أساس النواب العاملين فقط. ففي ظل غياب قرار المجلس الدستوري، يظل تفسير الدستور مسألة مفتوحة منوطة بالجهات التي أوكلها الدستور تطبيق أحكامه.
لكن في حال وقع العريضة 65 نائبا أو أكثر، هل يمكن لرئيس الجمهورية رفض إصدار مرسوم دعوة مجلس النواب إلى عقد استثنائي؟ إن الجواب البديهي على هذا السؤال هو قطعا بالنفي، لكن لا توجد أي وسيلة فعلية لإرغام رئيس الجمهورية على توقيع المرسوم حتى لو أجمع النواب على طلب فتح الدورة الاستثنائية. الوسيلة النظرية الوحيدة المتوفرة هي اتهام رئيس الجمهورية بخرق الدستور وهو أمر يخضع لاعتبارات سياسية لا يمكن توقعها.
ولا بد من الإشارة إلى سابقة مماثلة حصلت في فرنسا. إذ تنصّ المادة 29 من دستور الجمهورية الخامسة أن البرلمان يجتمع في عقد استثنائي بطلب من رئيس الوزراء أو غالبية أعضاء الجمعية الوطنية. بينما تنص المادة 30 من الدستور أن افتتاح العقود الاستثنائية واختتامها يتم بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية. وعندما طلبت غالبية النواب بدعوة البرلمان إلى عقد استثنائي سنة 1960 من أجل التصويت على قانون يخص الشأن الزراعي، رفض رئيس الجمهورية "شارل ديغول" الأمر معتبرا أن النواب تعرضوا لضغوط من قبل المزارعين ما يتعارض مع مبدأ التمثيل النيابي الذي يرفض تقييد الوكالة النيابية بشروط من قبل الناخبين. وعلى الرغم من أن نصّ المادة 29 لا يترك مجالا للاجتهاد، لكن رئيس الجمهورية في فرنسا يعتبر أنه يتمتع بسلطة استنسابية تخوله رفض دعوة البرلمان إلى عقد استثنائي حتى لو جاءه طلب من رئيس الوزراء أو من غالبية النواب.
وحقيقة الأمر أن رئيس مجلس النواب نبيه بري يصرّ على فتح دورة استثنائية للبرلمان ليس من أجل اقرار الموازنة مثلا، أو التصويت على قوانين تهمّ فعلا المواطنين في ظل الانهيار الشامل الذي يعيشه لبنان لكن من أجل الاستمرار في عرقلة عمل قاضي التحقيق في قضية انفجار المرفأ عبر منع ملاحقة النواب الذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف، علما أن هذا الأمر أيضا يشكل مخالفة للمادة 97 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنص صراحة على التالي: " إذا لوحق النائب بالجرم المشهود أو خارج دورة الانعقاد أو قبل انتخابه نائباً تستمر الملاحقة في دورات الانعقاد اللاحقة دون حاجة إلى طلب إذن المجلس" أي أن فتح عقد استثنائي لا يجب أن يوقف الملاحقة إطلاقا.
جراء ما تقدم، يتبين أن المطالبة بفتح عقد استثنائي هو اجراء ينطبق عليه التوصيف القانوني لتحوير السلطة، أي استخدام وسيلة يجيزها القانون لكن لتحقيق غاية لا يقبل بها القانون ولا يقرّها. وهكذا يثبت أركان النظام السايسي اللبناني مرة جديدة أن احتكامهم إلى الدستور هو مجرد مناورة تهدف إلى تحقيق مصالح سلطوية ونتيجتها الفعلية تقود إلى ضرب الأسس التي تقوم عليها دولة القانون.
1 « Il (le Président de la république) a le droit de convoquer extraordinairement les chambres. Il devra les convoquer si la demande en est faite, dans l'intervalle des sessions, par la majorité absolue des membres composant chaque chambre »
2 Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, cinquième édition, Paris, p. 554 « Le Président de la république est obligé de convoquer les Chambres si la demande en est faite par la majorité absolue des membres composant chaque Chambre ».
3 A. Esmein, Éléments de droit constitutionnel français et comparé, Tome Second, Recueil Sirey, Paris, 1921, p. 160. « Le Président est parfois obligé de convoquer les Chambres en session extraordinaire : Il devra les convoquer, si la demande en est faite, dans l'intervalle des sessions, par la majorité absolue des membres composant chaque Chambre ».
4 ادمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 648.