مقترح موازنة 2021 يتماهى مع خطة المصارف (2): الدولة وناسُها بخدمة الأثرياء "الجدُد" fresh
17/02/2021
مقترح موازنة 2021 يتماهى مع خطة المصارف (2):
الدولة وناسُها بخدمة الأثرياء "الجدُد" fresh
في هذا القسم والقسمين اللاحقين، سنحاول تبيان المقاربة المعتمدة في الموازنة العامة تبعا لتواصل الانهيار المالي والاقتصادي، مع ما يستتبعه من تضخّم للحاجات والانتظارات وفي الآن نفسه من تراجع للقدرات أو النشاطات المدرّة للضرائب لدى شرائح واسعة من المكلّفين. فما هي المقاربة التي اعتمدها المقترح لسدّ هذه الفجوة بين الحاجات والانتظارات والضرائب التي يمكن جنيُها، أو أيضا للتعويض عن الخسائر الفادحة التي تكبّدتها الدولة خلال السنوات الماضية؟ وما يزيد من هذه الأسئلة إلحاحا هو أنه تم إسقاط خطة الإصلاح المالي والاقتصادي لحكومة تصريف الأعمال من دون أن يظهر بالمقابل أي خطة بديلة.
وبالتدقيق في البُنود التي تضمّنها المقترح، يظهر بوضوح أنها ذهبتْ في ثلاثة اتجاهات: (1) منح امتيازات واعفاءات للمؤسسات الكبرى والمكلّفين الأكثر ثراء في موازاة ضرب مبدأ الضريبة التصاعدية، و(2) عطاءات محدودة للفئات الأقل حظّا، و(3) تراخي السلطة العامة في تحصيل إيرادات مستحقة للدولة أو في حماية أملاكها. ومن شأن هذا الأمر أن يؤدّي إلى مزيد من الإفقار للدولة والفئات الاجتماعية الأقل حظّا مقابل تخفيف الأعباء العامّة بدرجة غير مبرّرة عن كاهل الفئات الأكثر ثراء. ومن شأن هذه الأمور أن تمكّن هذه الفئات من تعزيز هيمنتها على الدولة والمجتمع من دون أن تتحمّل أيا من أعباء الخسارة، بما يتماشى تماما مع توجهات خطة جمعية المصارف التي تقوم على تحميل الدولة وحدها مسؤولية الخسائر وعلى بيع أملاكها لتعويض هذه الخسائر.
وهذا ما يتحصل بوضوح كلي من المعطيات الآتية:
اعفاءات وامتيازات للفئات الميسورة والأكثر ثراء:
تضمّنت الموازنة اعفاءات وتسهيلات ضريبية لمصلحة الشركات الكبرى والفئات الميسورة، وعلى نحو يُظهر هدراً للمال العامّ، وهو هدر يشتدّ وقعه بفعل حصوله في فترة توقف الدولة عن تسديد ديونها. فبدل أن تسعى الدولة إلى تعزيز إيراداتها أو المحافظة على ما تبقّى منها وبخاصة من هذه الفئات التي ما تزال قادرة على المشاركة في الأعباء العامة، تراها تتخلى بوضوح عن هذه الإيرادات. ولا يتوقف الضرر من هذه التسهيلات الضريبية على الخزينة فقط بل يتخطّاه إلى اجراءات بدا ظاهرها حمائيا للأجراء، إنّما صبّت في حقيقتها في مصلحة المؤسسات الكبرى. وهذا ما نتبيّنه من خلال خمسة توجهات أساسية:
التوجه الأول: إفراغ الضريبة التصاعدية من معناها
يتحصل هذا التوجّه من أمرين:
- أولا، احتساب الضريبة على الرواتب والأجور بالدولار وفق سعر صرف ضبابي، يرجح أن يحدد بين 1515 و3900 ليرة. فاحتساب ضريبة الرواتب والأجور المسددة بالدولار الأميركي سيتم ليس على أساس قيمتها الحقيقية بل على أساس سدس هذه القيمة (وذلك في حال احتسب سعر صرف الدولار كما يحصل اليوم على أساس 1515) أو على 40% منها فقط في حال احتسب على أساس سعر المنصة كما أشارت إليه الأسباب الموجبة للمادة الناظمة لهذه الضريبة (م. 31)، فيما أن مداخيل الذين يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية تخضع للضريبة بنسبة 100% من قيمتها. وهذا الأمر إنما يشكّل مؤشّرا إلى نشوء الضريبة التراجعية أي الضريبة التي تقلّ نسبتها كلما ارتفعت المداخيل أقله بالنسبة إلى هؤلاء، وذلك على أنقاض الضريبة التصاعدية. مثال على ذلك: أصبح من يتقاضى 5 ملايين ليرة لبنانية كأجر، يدفع ضريبة أعلى من ذلك الذي يتقاضى 1000 دولار، أي ما يساوي حوالي 9 ملايين ليرة وفق سعر الصرف الحقيقي.
- ثانيا، تجزئة ضريبة الأملاك المبنية على أقسام العقار كل على حدة اعتبارًا من بداية العام الذي سجل فيه الإفراز في حال توجبت الضريبة عن فترة ما قبل الإفراز. وهذا الأمر إنما يؤدي عمليا إلى تحديد النسبة التي تخضع لها هذه المداخيل ليس على أساس مجمل المداخيل التي قد يحققها أصحاب الأملاك العقارية من مجموع عقاراتهم أو من كل من عقاراتهم على حدة، إنما على أساس كل قسم يملكونه. ومن شأن هذا الأمر أن يُضيّق من امكانية تطبيق الضريبة التصاعدية على الأملاك المبنية، وهي إحدى الضرائب التصاعدية النادرة في لبنان.
يضاف إلى كل ما تقدم استمرار احتساب الأرباح الخاضعة للضريبة والتي يتم تحصيلها بالعملات الأجنبية على أساس سعر الصرف المعتمد من مصرف لبنان من دون أي توضيح، بما يؤدي عمليا إلى احتسابها بطريقة تتراوح بين سدس قيمتها الحقيقية و40% منها وفق ما أوضحناه أعلاه.
التوجه الثالث: المال الجديد والشركة الجديدة هذا التوجه يتأتى عن بندين وردا ضمن قانون الموازنة العامة. الأول، إعفاء فوائد الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية لدى المصارف من الضريبة لثلاث سنوات (م. 74). وقد تم تبرير ذلك بوجوب تشجيع "إيداع ودائع أجنبية لدى المصارف العاملة في لبنان نقدّا أو من خلال تحويل مصرفي من أحد المصارف العاملة خارج لبنان، ومن أجل تنشيط القطاع المصرفي". بالمقابل، يتمّ فرض ضريبة ب10% على مجمل فوائد وإيرادات الحسابات القديمة سواء أكانت بالليرة أو أي عملة أخرى، وتصل الضريبة إلى 30% على الجزء الذي يتجاوز فائدة 3% بالعملات الأجنبية و5% بالليرة اللبنانية، وهي نسبة تاريخية لم تصل إليها الضريبة على الفوائد من قبل(م. 36). وتمنحنا المقارنة في هذا المجال صورة مضخّمة عن مقاربة وزارة المالية لكيفية توزيع الأعباء العامة على المكلفين. ففيما تفرض 0% على ودائع الأموال الطازجة لتعيدنا إلى ما قبل 2003 حين فرضت هذه الفائدة للمرة الأولى خلافا لإرادة المصارف، تصل هذه الضريبة إلى 30% بالنسبة للأموال العالقة في المصارف، والتي هي أموال المودعين الذين لم ينجحوا في تهريب أموالهم. كما يلحظ أن نسبة الضريية المفروضة لا تتصل بحجم الودائع وتاليا بحصيلة الفائدة وإنما فقط بنسبتها، مما يخضع الودائع القديمة الصغيرة والودائع الضخمة لنسبة الضريبة نفسها. أما الأمر الثاني والذي يذهب في الاتجاه نفسه، فهو فتح باب إعفاء المؤسسات أو الشركات المنشأة حديثا (الجديدة) والعاملة في المجال التجاري أو الصناعي والتي يزيد رأسمالها عن الخمسة ملايين دولار أميركي من أي ضريبة على الربح لمدة عشر سنوات، شرط أن تنشأ في المناطق التي يحدد مجلس الوزراء أنّه يرغب بتنميتها بموجب مرسوم، وذلك من أجل التحفيز على إنشاء شركات ومؤسسات تجارية وصناعية وتجارية جديدة في مناطق ترغب الحكومة بتنميتها. وهنا تبرز اشكالات عدة:- أن المعيار الأساسي لمنح الإعفاء للمؤسسة أو الشركة هو إنشاؤها في منطقة معينة وهي المنطقة التي قد يرغب مجلس الوزراء بتنميتها. والإشكال يتأتى هنا من تفويض مجلس الوزراء تحديد هذه المناطق وفقا لرغبته وليس وفق معايير معينة تستوجب تمييز مناطق على أخرى، وبخاصة في ظلّ الانهيار الشامل للاقتصاد على طول الأراضي اللبنانية ولو بدرجات مختلفة. ففي ظل وضع كهذا، يكون من الأصح ربط المحفزات الضريبية ليس بمنطقة معينة إنما بطبيعة المجال الاقتصادي المراد تنميته وذلك في سياق خطة متكاملة ومدروسة لإعادة هيكلة الاقتصاد،
- أن المقترح يعفي المؤسسات والشركات التي تعمل في مجال التجارة أو الصناعة. ومن المستغرب هنا أن يحدد هذان القطاعان حصرا من دون مجالات إنتاجية أخرى كمجالات الزراعة أو السياحة أو النقل،
- أن المقترح اشترط أن يكون الرأسمال خمسة ملايين د.أ على الأقل بما ينمّ عن تحيز للشركات الكبيرة على حساب الشركات الصغيرة والمتوسطة ويحدّ من قدرتها التنافسية. وأخطر ما في هذا التوجه أنه يعكس مرة أخرى رؤية لتنشيط الاقتصاد ليس انطلاقا من المبادرات الفردية بل انطلاقا من مؤسسات كبيرة يُخشى أن تأخذ منحى احتكاريا. هذا مع العلم أن المقترح لم يحدد هنا سعر الصرف الذي يجري على أساسه تحديد قيمة الرأسمال أو في ما إذا كان الرأسمال مالا جديدا يحول من الخارج أو مالا قديما،
- أن المقترح اشترط فقط أن يحصل انشاء المؤسسات أو الشركات المعفاة في المناطق المحددة من دون أن يشترط أن تعمل فعليا في هذه المناطق أو أن توظف عددا معينا من الأجراء،
- أن المقترح منح إعفاء لعشر سنوات، وهي مدة طويلة جدا لم تستفد منها في القانون اللبناني إلا قلة من الشركات سابقا، ومنها شركة سوليدير.