منزلقات ثلاثة لربط التشريع بالشغور الرئاسي: التعطيل والمساومات والتطييف

رازي أيوب

07/03/2023

انشر المقال

في تشرين الثاني الفائت، استنفرت تكتلات نيابية عدّة لمواجهة ما اعتبروه تجاوزًا للدستور في توجّه رئيس المجلس نبيه برّي للدعوة إلى عقد جلسة تشريعية تسبق انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وقد وقّع 46 نائبًا من كتل "القوّات" و"الكتائب" و"التغيير" في تاريخ 11 شباط بيانًا مشتركًا أكّدوا فيه تغيّبهم عن الجلسة المزمع عقدها ورفضهم التشريع بصورة مبدئية في ظلّ شغور منصب رئاسة الجمهورية، على خلفية أنّ دور المجلس ينحصر في كونه هيئة ناخبة إلى حين إنجازه.

في المقابل، تمسّكت كتل نيابية أخرى، أهمّها ثنائي أمل- حزب الله والتيار الوطني الحرّ بنظرية تشريع الضرورة، أي إمكانية التشريع على أن ينحصر في المسائل الضرورية من دون أي توسّع. وهو الموقف الرسميّ لرئيس مجلس النوّاب ومكتبه والأهمّ الموقف الذي سار عليه المجلس في ظروف مشابهة سابقة في الفترة الفاصلة بين انتهاء ولاية رئيس الجمهورية وبدء ولاية ميشال عون. وقد نشأ هذا المفهوم في 2015 في ظل خلوّ سدّة رئاسة الجمهورية، نتيجة توافق بين الكتل النيابية الأساسية عليه. وهذا ما نقرأه في مجلة الأمن العام (حزيران 2015) حيث عكف النائب جورج عدوان على شرح كيفيّة ولادة هذا المفهوم[1]. فأشار إلى موقفين متقابلين: "موقف الرئيس برّي الذي لديه اقتناع بأنّ المجلس يستطيع الاستمرار في التشريع لاستمرار المرفق العام، والموقف الثاني يقول بعدم التشريع". ثمّ أشار إلى "خطأ" التهديد بتطيير المجلس النيابي (قصد تهديد نوّاب "الوطني الحر" بالاستقالة)، والذي أدى إلى توجّه الأفرقاء إلى مساحة مشتركة وأنّه "بدأ الحديث هنا في تشريع الضرورة الذي يتعلّق بتكوين السلطة والأمور الضرورية". وهذا أيضًا ما أكده الوزير السابق سليم جريصاتي الذي عزا نشوء المفهوم إلى مبدأ "الضرورات تبيح المحظورات".[2] إلّا أنّه ورغم اتفاق هذه الأطراف على إمكانية التشريع في حال الضرورة، فقد برزتْ مساومات فيما بينها بشأن مدى استجابة البنود المراد وضعها على جدول الأعمال لشرْط الضّرورة.      

وفي موازاة هذه القوى، برز موقف كتلة الاعتدال الوطني (وهي مكوّنة من 6 نوّاب) والذي استفاد من مقاطعة كتل واسعة لجلسات التشريع من أجل اكتساب وزن أكبر في التأثير على تأمين نصاب انعقادها أو انحلاله. وقد منحه هذا الأمر هامشًا أوسع للمساومة بهدف فرض شروطه في الجلسة. ولم يجد هذا الفريق حرجًا في الإعلان عن شرطه، وهو تأخير سنّ التقاعد لمدير قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان.    

بنتيجة هذه التفاعلات بين مختلف الكتل، فشل مكتب المجلس المنعقد في تاريخي 13 و20 شباط في وضع جدول أعمال لجلسة تشريعية، ليتعطّل بذلك العمل التشريعي لأمد غير مسمى، بانتظار إنجاز تسوية رئاسية أو أقلّه تسوية بين الكتل التي تقبل تشريع الضرورة حول البنود التي يتوفّر فيها شرط الضرورة.

ويهدف هذا المقال إلى تبيان المنزلقات التي رشح عنها ربط التّشريع بالاستحقاق الرئاسي على مستويات عدّة، أهمّها التعطيل والمساومات السياسية والتطييف.  

التعطيل

أكّد البيان المشترك للنوّاب الـ 46 بأنّهم "لن يشاركوا بأيّ جلسة تشريعية قبل انتخاب رئيس للجمهورية ولن يعترفوا بأيّ من قوانينها وسيمارسون تجاهها أيّ حق يمنحه إيّاهم الدستور للطعن بها". وقد نشر النوّاب بيانهم الموحّد على صفحاتهم على "تويتر". وممّا أكّده النوّاب في البيان التزامهم المطلق بالمواد 49 و74 و75 من الدستور، التي تنصّ على أنّه "عند خلوّ سدّة الرئاسة يضحى المجلس النيابي هيئة انتخابية ملتئمة بشكل دائم، منعقدة وقائمة حكمًا وبحكم القانون، حصرًا من أجل انتخاب رئيس للجمهورية". واعتبر البيان أنّ "تسيير أمور المواطنين وتفعيل عمل المؤسسات الدستورية لا يكون من خلال إطالة مدّة الفراغ في رئاسة الجمهورية أو التطبيع معه".

ويلحظ أنّ مُوقّعي البيان حصروا أسباب مقاطعتهم بعدم جواز الانتخاب في ظلّ فراغ السدّة الرئاسية من دون أن يتطرّقوا إلى أي سبب آخر، كالنيّة في إدراج بنود تشريعية غير ملائمة أو غير دستورية أو ما شابه مثل مشروع قانون الكابيتال كونترول أو اقتراح التمديد للمدراء العامّين.

وقد صبّ في الاتّجاه نفسه بيان للمكتب السياسي الكتائبي ​أشاد بـ "وحدة المعارضة" القادرة على "كسر الحلقة المقفلة التي أرست مفاهيم غريبة عن الدستور ترسّخت عبر سنوات من الممارسات غير الدستورية وعلى رأسها تشريع الضرورة"، ووصف البيان "تشريع الضرورة بأنّه "هرطقة موصوفة تهدف إلى الاستغناء عن دور رئيس الجمهورية وتطبيع العمل السياسي في غيابه" وأضاف أنّ هذا أمر لا يمكن السكوت عنه.

وهذا أيضًا ما عبّر عنه نائب حزب "القوّات اللبنانية" جورج عقيص في مداخلة له على "تلفزيون الجديد"، حيث قال بعد حديثه عن وضوح المادة 75 من الدستور لجهة تحوّل مجلس النوّاب إلى هيئة انتخابية بعد خلوّ الرئاسة، إنّه "لا يجوز التطبيع مع حالة الفراغ في موقع الرئاسة الأولى. فهذا الفراغ له بعد ميثاقي، وهو يضرب الميثاقية في البلد". كما اختار النائب غسان حاصباني زيارة قام بها إلى المطران الياس عودة ليكرّر موقف القوّات حيث قال: "لننتخب رئيس جمهورية غدًا صباحًا، وبعده جلسة تشريعية لإقرار كلّ التشريعات التي يجب أن تمرّ". ويلحظ هنا أنّ القوّات تبنّت بذلك موقفًا متعارضًا مع مواقفها في 2015 حيث كانت من القوى السياسية الأكثر مناداة بتشريع الضرورة وتاليًا بإمكانية التشريع في فترة خلوّ سدّة الرئاسة. وهذا ما يتحصّل بوضوح من موقف رئيس الحزب سمير جعجع الذي شدّد على أنّه لا يعارض "جلسة تشريع الضرورة" في المجال المالي. ويلتقي هذا الأمر تمامًا مع شرح النائب عدوان المذكور أعلاه. وإذ سُئِل النائب عقيص عن سبب هذا التبدّل في حوار معه على "الجديد"، صرّح ما حرفيّته أنّ "أم الفضائل هي الرجوع عن الخطأ".

وقد حسم البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي موقفه في هذا الخصوص حين اعتبر في عظة الأحد 12/2/2023 أنّ عدم التئام المجلس النيابي لانتخاب رئيس لا يبرّر مخالفة المادّتين 74 و75. وأضاف أنّ "مخالفتهما تنسحب على مخالفة المادّة 57 المختصّة بصلاحيّة رئيس الجمهوريّة، وتقضي على مبدأ فصل السلطات".

وتميّز موقف النائب ملحم خلف قليلًا عمّا سبق. فبعد اعتباره أنّ "لا لزوم للدعوة لجلسة لانتخاب رئيس للجمهورية لأنّ الدستور ينصّ على أنّ المجلس يلتئم فورًا"، قال: "يجب أن تبقى سلطة مجلس النوّاب على بعدها الجامع وتقوم بواجباتها وعلى رأسها انتخاب رئيس للجمهورية". وأكّد أنّه "لا نصاب حضور بل غالبية انتخاب، ونحن في جلسة واحدة لانتخاب رئيس للجمهورية وفيها دورات متتالية".

وإذ بقي التيار الوطني الحرّ متمسكًا بإمكانية التشريع، فإنّه تشدّد في حصره في تشريع الضرورة على نحو أدى عمليًا إلى تطيير الجلسة التشريعية. وهذا ما عبّر عنه النائب آلان عون (وهو ممثل التيار الوطني الحر داخل مكتب المجلس) بتأكيده على الممارسة السابقة الحاصلة في 2015: "نحن سبق وأجرينا تشريع ضرورة بين عامي 2014 و2016…". ولم ينسَ عون توجيه سهام الانتقاد إلى القوّات اللبنانية التي وافقت آنذاك على تشريع الضرورة لتعود و"تزايد اليوم في المقاطعة".

واللافت أنّه رغم إبقاء التيار الباب مفتوحًا في حالات الضرورة، فإنّه بالمقابل أبدى تشددًا بما يتّصل بأعمال الحكومة واحتمال انعقادها على نحو ينذر بتعطيل العمل الحكومي ومعه تعطيل المبادرات التشريعية للحكومة. وهذا ما نستشفّه من بيان تكتل "لبنان القوي" في آخر كانون الثاني، حيث ركّز على فحوى المادة 62 من الدستور التي أناطت صلاحيات رئاسة الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء مجتمعًا حال خلوّ سدّة الرئاسة. هذه المادة تعبّر برأيهم عن "استثنائية وإجماع في أي قرار يؤخذ وكالة عن رئيس الجمهورية، هذا إذا كانت حكومة كاملة الصلاحيات". وقد أعلنت القوّات اللبنانية عن موقف مماثل في هذا الخصوص لجهة وجوب توقيع جميع الوزراء على مشاريع القوانين. وهذا ما تُرجم من خلال انسحاب نوّاب التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية من جلسة اللجان المشتركة في تاريخ 28/2/2023، بعد اعتراضهم على إدراج أحد مشاريع القوانين المحالة من رئيس حكومة تصريف الأعمال من دون توقيع كامل الوزراء على جدول أعمالها.

المساومات

إلى جانت التعطيل التامّ، فتح النقاش حول إمكانية التشريع المجال أمام مساومات سياسية، تلتقي هي الأخرى مع ممارسات النظام السياسي القائم على مساومات شبه دائمة. وقد استندت هذه المساومات إلى عاملين:

العامل الأول، مفهوم تشريع الضرورة. فسرعان ما أوضح التيار الوطني الحرّ أن هذا المفهوم يؤدي إلى ربط حضوره الجلسة بموافقته على جدول أعمالها، مما يعطيه مجالًا واسعًا للمساومة على البنود المراد إدراجها على هذا الجدول. وهذا ما نستشفّه من بيان صدر عن تكتل "لبنان القوي" في أواخر كانون الثاني 2023 أكّد فيه أنّ "الأولوية المطلقة لمجلس النوّاب تكمن في انتخاب رئيس للجمهورية"، مضيفًا أنّ "من يتحدّث عن تشريع الضرورة عليه أن يعرضها ويبرّر تقديم التشريع على انتخاب الرئيس لكي يبنى على الشيء مقتضاه".

عليه، وفيما كانت المعلومات الإعلاميّة في تاريخ 10 شباط تشير إلى أنّ الجلسة التشريعية باتت بحكم المنعقدة، عادت الجلسة وتعطّلت بفعل عدم حصول توافق على جدول الأعمال. وهذا ما أوضحه تقرير لقناة "الجديد" نقل في ذلك التاريخ أنّ خلافًا وقع بين رئيس المجلس نبيه برّي ورئيس تكتل الإصلاح والتغيير النائب جبران باسيل، فالأوّل رفض أن يتمّ التدخّل في صلاحياته بعد اعتراض الثاني حول جدول أعمال الجلسة "الفضفاض" الذي فاق 65 بندًا. وفي اليوم التالي، نقلت "الجديد" معلومات أنّ باسيل "أبلغ المعنيين بقراره التمديد للمديرين العامين في الإدارات كافة أيًا تكن طائفتهم إنّما فقط في الأسلاك المدنية واستثناء الأسلاك العسكرية". أي يطال التمديد اللواء عباس إبراهيم وطوني صليبا لأنهما مدنيان ويستثني اللواء عماد عثمان لأنّه عسكري، كما يطال التمديد أيضاً المدراء العامين والموظفين في الفئة الأولى. وقد عاد التيار الوطني الحرّ في 13 شباط وأوفد النائب آلان عون لإبلاغ رئيس المجلس عدم المشاركة في الجلسة التشريعية لعدم التوافق على جدول أعمالها. لكن النائب جبران باسيل لم يحسم الأمر إذ أضاف "إلّا في حالات الطوارئ والضرورة القصوى".

أما العامل الثاني للمساومات، فهو ينتج عن واقع مقاطعة عدد كبير من النوّاب جلسات المجلس النيابي. فمن شأن هذه المقاطعة أن تفتح الباب أمام عدد محدود من النوّاب لاستغلال أثر حضورهم في عقد الجلسة أو تطييرها لتحقيق مكاسب معيّنة. وهذا ما أشارت إليه معلومات لجهة أنّ عشرة نواب (أو سبعة وفق مصدر آخر تبدو أدق) من تكتّل الاعتدال الوطني ونوّاب مستقلين يشترطون التمديد للواء عماد عثمان ليشاركوا في الجلسة.

التطييف... أو استحضار "الميثاقيّة"

برز التطييف في نشأة المفهوم وتطورّه كما برز في المساومات المشار إليها أعلاه. وقد تجلّى هذا الأمر في منحيين  أساسيين:

المنحى الأول، تطييف رئاسة الجمهورية وجعلها ضمانة للمسيحيين، بحيث ينعكس فراغ سدّتها على أداء مجمل المؤسسات الأخرى التي لا يمكن أن تستمر في هذه الحالة على منوالها الطبيعي كما لا يمكن أن تقوم أيّ منها بصلاحيات رئيس الجمهورية من دون ضمان أوسع توافقية ممكنة. وهذا ما نستشفه مثلًا من تصريح رئيس تكتل الإصلاح والتغيير جبران باسيل من مقر البطريركيّة الأرثوذكسيّة في البلمند، حيث صرّح أنّ "الاستحقاق الرئاسي غير محصور بالموارنة فقط بل استحقاق للمسيحيين بشكل عام". وهو تصريح استكمله في سلسلة من المواقف الأخرى أهمها موقفه في 11 شباط حيث جاء أنّه "لا يجوز المسّ بصلاحيات الرئيس المتعلقة بإصدار القوانين وردها، بخاصة إذا ما كانت تتعلق بسياسات وطنية مستقبلية".

المنحى الثاني، الميثاقية التي تفترض التشدّد بالتمسّك بالتوافقية الطائفية في أداء السلطات العامّة في حال فراغ سدّة رئاسة الجمهورية، وذلك كتعويض للمسيحيين عن فقدان إحدى أهم ضماناتهم. وعليه، ورغم تسليم باسيل بأنّ البرلمان أصبح في ظل خلوّ سدّة الرئاسة واعتبار الحكومة مستقيلة حكمًا، السلطة الوحيدة مكتملة الشرعية، فإنّه يشدّد لهذا السبب بالذات، على وجوب التزام هذه السلطة التزامًا تامًا بالميثاقية. إذ "لا يجوز بدون حاجة قصوى دعوته إلى الانعقاد في بنود فضفاضة غير ضرورية". وقد تردد تعبير الميثاقية أيضًا في خطاب القوّات اللبنانية لتبرير المقاطعة الكاملة أو أيضًا للانسحاب من عمل اللجان المشتركة كما سبق بيانه. وقد جاء ردّ النائب قاسم هاشم على هذا الخطاب بمثابة تأكيد على الميثاقية وإن أعرب عن اختلاف لجهة النتائج المترتبة عليها، حيث طلب "ألّا يزايد أحد على رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي بموضوع الميثاقية وحرصه عليها". وهذا أيضًا ما نستشفّه من ردّ الشيخ أحمد قبلان الذي بعدما أكّد أنّ "الفراغ الرئاسي يفترض لجوء القوى السياسية للمجلس النيابي كضامن وطني"، عاد ليصرّح أنّ "المجلس النيابي ملاذ وطني وسلطة ميثاقية قادرة وحاسمة، والمشكلة بالرهانات الخارجية، والبلد شراكة إسلامية مسيحية".


[1]  رضوان عقيل. مجلس النوّاب ودّع العقد العادي بـ "لا" تشريع. مجلة الأمن العام، حزيران، 2015 العدد 21 السنة الثانية، ص 12. 

[2]  جورج شاهين، تشريع الضرورة المستعصي ما حدوده في غياب رئيس الجمهورية؟، مجلة الأمن العام، حزيران ، 2015، العدد 21 السنة الثانية، ص 16.