نقاشات سرية حول تركيبة مجلس القضاء الأعلى: الهواجس الطائفية في مواجهة معايير الاستقلال

نزار صاغية

11/02/2020

انشر المقال

بعد عدد من السماعات، باشرت لجنة الإدارة والعدل مناقشة اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته بموازاة عدد من الاقتراحات الأخرى المجتزأة، أبرزها اقتراح قانون السلطة القضائية. يذكّر أن الاقتراح الأول هو اقتراح الائتلاف المدني لدعم استقلال القضاء وشفافيته وهو الاقتراح الذي أعدته المفكرة القانونية وقدمه 9 نواب، فيما الاقتراح الثاني قدّمه النائب مصطفى الحسيني تيمّنا بأخيه النائب السابق حسين الحسيني الذي كان تقدّم به في 1997. وقد خُصّصت جلسة الثلاثاء الماضي (4 شباط) لمناقشة تركيبة مجلس القضاء الأعلى، بحيث أُعطي الأطراف كافة حظوة الإدلاء بآرائهم من دون أن تحسم اللجنة خياراتها في هذا الخصوص. وفيما تجري الجلسات بالصورة السرية وبغياب "المفكرة القانونية" احتجاجا على ارتكابات شرطة المجلس وعلى سريّة الجلسات، فإنّه نما إلينا أن النقاش تمحور حول كيفية تعيين أعضاء المجلس وعددهم. وبفعل هذه المداخلات، سرعان ما برزت الخصوصية الطائفية كحائل دون اعتماد أحد معايير استقلال القضاء والذي قوامه انتخاب غالبية القضاة من قبل القضاة أنفسهم، مخافة الإخلال بمبدأ المناصفة والكوتا المذهبية. بالمقابل، لم يتطرق النقاش إلى مسألتين لا تقلان أهمية وهما ضرورة إشراك جميع القضاة في الترشيح والانتخاب عملا بمبدأ المساواة بين القضاة وأيضا مدى ملاءمة إشراك غير قضاة (محامين وأساتذة جامعيين) في مجلس القضاء الأعلى.  

 

وقبل مناقشة هذه المسألة بعمقها، يجدر التذكير بثلاثة أمور:

أولا، أن مجلس القضاء الحالي يتكوّن من عشرة أعضاء، 8 منهم يعيّنون من الحكومة فيما أن العضوين الآخرين يُنتخبان فقط من قضاة التمييز. كما يجدر التذكير أن المجلس يتكوّن بالنتيجة من 3 رؤساء غرف تمييز (2 منتخبان والثالث معين) و2 من رؤساء غرف الاستئناف و1 من رؤساء الغرف الابتدائية وأحد القضاة العاملين في وحدات وزارة العدل (درجت العادة أن يكون رئيس هيئة الاستشارات والتشريع أو رئيس هيئة القضاء) فضلا عن 3 أعضاء هم كذلك بفعل وظائفهم وهم رئيس محكمة التمييز (رئيس المجلس) والنائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي وكلهم تاليا من كبار القضاة.

ثانيا، أن انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى شكّل البند الأوحد المقترح لإصلاح القضاء العادي (العدلي) في اتفاق الطائف، حيث كان أعضاؤه كلهم يعينون آنذاك من قبل الحكومة. إلا أنه ورغم ذلك، لم يعِرْه النواب أي اهتمام عند إجراء التعديلات الدستورية في 1990، وانتظروا حتى 2001 ليعتمدوا قاعدة مفادها انتخاب إثنين فقط من أعضائه بعد حصر حق الانتخاب بقضاة محكمة التمييز (الذي لا تتجاوز نسبتهم 10% من مجموع القضاة) وحق الترشح برؤساء غرف محكمة التمييز (الذين لا تتجاوز نسبتهم 2% من مجموع القضاة) وما وصلوا إلى مراكزهم إلا بتشكيلات وافقت القوى السياسية عليها. بمعنى أن حق الانتخاب ينحصر تبعا لذلك في كبار القضاة فيما ينحصر حق الترشح بالقضاة الأكبر والذين سبق للسلطة السياسية أن رشحتهم وانتخبتهم مرات عديدة.

ثالثا، أن اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته ينص على أن مجلس القضاء الأعلى يتكوّن من تسعة قضاة منتخبين على أساس ثلاثة قضاة عن الدرجات الثلاث للمحاكم، ومن أربعة قضاة حكميين (هم رئيس معهد الدروس القضائية بالإضافة إلى القضاة الحكميين الذين يشملهم المجلس الحالي). كما يُضاف إلى هؤلاء ثلاثة قضاة يتمّ اختيارهم من قبل القضاة المنتخبين والحكميين، وذلك تمكينا لهم من تصحيح أي خلل قد يكون حصل بنتيجة الانتخاب كما نتوسع في توضيحه أدناه. كما تميز هذا الاقتراح بإضافة 4 أعضاء من غير القضاة على أن ينحصر انضمامهم إلى المجلس فقط عند النظر في المسائل المتصلة بحسن سير المرفق العام وهم محامييْن من نقابتي بيروت وطرابلس وأستاذيْن متفرغين من الجامعة الوطنية والجامعات الخاصة، ينتخبون كلهم من قبل أندادهم. 

وتعليقا على ما تسرّب من نقاشات اللجنة، وتعويضا عن غيابها عن هذه النقاشات، يهمّ "المفكرة" أن تبدي الأمور الآتية:

 

1- مسألة انتخاب غالبية أعضاء المجلس من القضاة

أن انتخاب غالبية أعضاء المجلس من قبل القضاة أنفسهم أمر أساسي لضمان تمثيل هؤلاء في مجلس انوجد ليدير مساراتهم المهنية ويكون عند الاقتضاء درعا لاستقلالهم في مواجهة تدخلات السلطة السياسية. ويستند هذا الأمر إلى اتفاق الطائف كما سبق بيانه، ولكن أيضا إلى المعايير الدولية لاستقلال القضاء. إزاء هذا الأمر، غالبا ما يدلي معارضو الانتخابات بسلسلة من الحجج، سأعرضها في معرض دحضها:

 

أ- الحجة الأولى، هي الحجة التي تقول بأن النظام الطائفي يتعارض مع مبدأ الإنتخاب الذي قد يؤدي إلى تهميش مذهب أو أكثر، مما ينعكس  سلبا على الثقة بالقضاء.

وهذه الحجة مردودة لسببين:

الأول، أن النظام الطائفي (المناصفة أو تقاسم السلطة) يجد مبرّره في نظرية الأنظمة الديمقراطية بضرورة حماية الأقليات من تعسف الأكثريات. فالديمقراطية التي تقوم على حكم الأكثرية تصبح معيوبة كلما تحوّلت الأقليات كما الأكثريات إلى أقليات وأكثريات دائمة، مما يفرض اعتماد ضمانات حمائية منعا للاستئثار والغبن تحت غطاء الديمقراطية. وفق هذه النظرية، لا يشكل النظام الطائفي غاية بذاته، إنما مجرد وسيلة لتصويب الديمقراطية التي تبقى هي الغاية من وجوده. وهذا ما تؤكده المادة 95 من الدستور اللبناني التي اعتبرت النظام الطائفي (المناصفة) نظاما مؤقتا يجدر تجاوزه عند تراجع حدّة الانقسام الطائفي، علما أن صيغتها الأصلية كانت أكثر وضوحا حين برّرت هذا النظام بالعدل والإنصاف. إنطلاقا من ذلك، يجدر دوما التنبّه لمدى هذا النظام والحدود التي يجدر التوقف عندها: ففيما يستمدّ هذا النظام مشروعيّته من ضرورة تصويب الديمقراطية في ظل وجود أكثريات وأقليات دائمة، فإنّه يفقد مشروعيته في حال أدّى في ذاته أو في أي من تطبيقاته إلى ضرب أسس الديمقراطية، كما قد يحصل في حال ضرب آليات المحاسبة ومنها استقلال القضاء. وهذا ما يحصل تحديدا عند منح القوى السياسية الطائفية صلاحية تعيين قضاتها، طالما أن من شأن ذلك أن يولّد ارتيابا مشروعا باستقلال القضاء وحياديته، وأن ينسف تاليا الثقة بالقضاء ومبرر وجوده برمته.

الثاني، أنه تبعاً لما تقدم، فإن القواعد الفضلى في تشكيل مجلس القضاء الأعلى هي القواعد التي تسمح بالتوفيق بين الإلتزام بمعايير استقلال القضاء ومراعاة الهواجس الطائفية تحقيقا للعدل والإنصاف. وهذا ما فعله اقتراح "المفكرة"، من خلال ثلاثة أمور: (1) انتخاب 9 قضاة أي غالبية الهيئة الناظرة في المسارات المهنية من قبل القضاة أنفسهم بما يلبي المعيار الدولي في هذا الخصوص، و(2) انتخاب القضاة التسعة على أساس لوائح وفق نظام النسبية على نحو يؤمل منه استيلاد ثقافة انتخابية دامجة، و(3) تكليف القضاة الحكميين والمنتخبين تعيين 3 قضاة آخرين، بما يسمح لهم بتصحيح أي خلل انتخابي في حال حصوله، وتحديدا أي خلل في التوازنات الجندرية أو الطائفية. ومن شأن هذا الأمر أن يوطّد معايير استقلال القضاء وأن يقيها إزاء لغم الطائفية الذي قد تزرعه أي من القوى السياسية، طالما أنه يسمح بالتوفيق بين معايير استقلال القضاء وضمان التوازن الطائفي، من دون إيلاء أي دور للحكومة.

 

ب- الحجة الثانية التي يدلي بها رافضو الانتخاب أنه يؤدي إلى تسييس القضاة وربما إلى تطييفهم ضمن مجموعات.

تنبني هذه الحجة على أنّ الاستحقاق الانتخابيّ سيدفع القضاة إلى تكوين مجموعات نفوذ داخل القضاء، يرجّح أن تأخذ طابعا طائفيا وسياسيا. هذه الحجّة على أهميتها تتعارض مع الوقائع الموثقة في تاريخ القضاء اللبناني، حيث أن العمل العام للقضاة غالبا ما تبدّى بمثابة مانفستو ضد الطائفية ومن أجل الاستقلالية. هذا ما يخرج عن خطاب جمعية "حلقة الدراسات القضائية" وهي الجمعية الأولى للقضاة والتي نشأت في 1969 وعن خطاب اللجنة القضائية في ظلّ حرب أهلية عاصفة (1980-1982) ومؤخرا عن خطاب نادي قضاة لبنان. وهذا ما يؤمل تحقيقه أيضا من خلال ضمان مشاركة القضاة في الانتخابات التي ينتظر أن تؤدي إلى تنمية التضامن داخل القضاء كما الثقة بحماية الهيئات القضائية التي يعكس تكوينها إرادتهم.

بالمقابل، فإن هذا التاريخ نفسه يبيّن أن استفراد القضاة وعزلهم في ظل تحكم الحكومة في التعيينات والتشكيلات، غالبا ما يدفعهم إلى البحث عن حماية سياسية مما يؤدّي إلى تطييفهم وتسييسهم.

أيا يكن، وعلى فرض أن من شأن الانتخاب أن يؤدي إلى تسييس القضاء، فإن هذا التسييس يبقى احتماليا صرف فيما أن استمرار الحكومة في تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى كما يحصل اليوم وفق قاعدة المحاصصة، من دون منح القضاة ضمانات كافية للاستقلالية إنما يشكل طريقا حتميا إليه.

 

ت- الحجة الثالثة، ومفادها أن تمكين القضاة من انتخاب ممثليهم في ظل تراجع مستوى القضاة واستقلاليتهم قد يؤدي إلى نتائج مُحبِطة، بحيث يعكس أعضاء المجلس الانحرافات التي تشوب القضاء كلها.

هذه الحجة أُثيرت في دول عدّة، وهي تفترض أنه يتوجب تطهير القضاء قبل تمكين القضاة من انتخاب أعضاء المجلس الذي يتولّى إدارة مساراتهم المهنية. من دون التقليل من أهمية هذه الحجة، فهي ترشح عن خطرين إثنين: (1) أن أي تطهير تباشر به السلطات الحاضرة من دون ضمانات كافية للاستقلالية قد يكون أكثر خطورة من منح ضمانات الاستقلالية قبل التطهير، حيث يشكل مسعى التطهير في هذه الظروف التي تحتمل الكثير من الكيدية والانتقائية عاملا إضافيا للضغط على القضاة واستتباعهم من دون أن يؤدي حكما إلى تطهير القضاء من شوائبه، و(2) أن البديل عن انتخاب القضاة لممثلين عنهم هو دعوة الحكومة لتعيين أعضاء المجلس. ومن شأن هذين العاملين أن يؤديا إلى تجذير استتباع القضاء وسوء إدارته تحت حجة إصلاحه. وعليه، بدل أن نعدّ هذه الحجة سببا لنسف مبدأ انتخاب القضاة لممثليهم في المجلس، قد يكون من الأجدى أن نستمدّ منها ضرورة مواكبة هذا المبدأ بضمانات تزيد من حظوظ تحقيق الآمال المعقودة عليه أو تقلل من النتائج السلبية التي قد تنشأ عنه.

من هنا، من المهم بمكان أن تكون عملية الانتخاب دامجة، بمعنى أن يتمتع قضاة الدرجات المختلفة وأيضا القضاة الأعضاء في الغرف ومستشاروها بحق الانتخاب والترشّح أسوة برؤساء الغرف، عملا بمبدأ المساواة بين القضاة. فبقدر ما يكون المركز القضائي قليل الجاذبية، بقدر ما يزيد احتمال أن يكون القاضي الذي يتبوأه مستقلا أو على مسافة مقبولة من القوى السياسية.

كما أنه، وإن كان من المهم أن يكون القضاة المنتخبون غالبية أعضاء المجلس، فإنه من المهم أيضا أن يتكون المجلس من أعضاء من فئات أخرى كالقضاة الحكميين وغير القضاة والقضاة المعينين من القضاة الحكميين والمنتخبين، مما يؤدي إلى تخفيف حدة خطر تسييس الانتخابات. أخيرا، لا بد أن يترافق هذا الإصلاح مع إصلاحات أخرى تضمن انفتاح القضاء على المجتمع وتعزيز شفافيته وفي الآن نفسه، تحسين طرق الدخول إلى القضاء لاستقطاب العناصر الأفضل، وعلى نحو يؤدي إلى تعزيز أخلاقيات القضاة وكفاءاتهم ومعها استقلاليتهم.

 

2- تكوين المجلس وفق مبدأ المساواة بين القضاة

أمرٌ آخر لم يأخذ حيّزاً من نقاش اللجنة المصغّرة لكنه مهمّ جدّاً وهو يعكس بعداً آخر من تصور التنظيم القضائي. وهو يتّصل بأحقيّة القضاة جميعا للترشح والانتخاب، عملا بمبدأ المساواة بين القضاة (وتحديدا بين قضاة الدرجات المختلفة وبين أعضاء الغرف أو مستشاريها ورؤسائها كما سبق بيانه) الذي يشكل بدوره أحد المعايير الأساسية لاستقلال القضاء.

فكما سبق بيانه، يشوب القانون الحالي كلا التمييزين: فمجمل قضاة الدرجة الأولى الذين هم الأكثرية يتمثّلون في مجلس القضاء الأعلى بعضوٍ واحد يفترض علاوةً على ذلك أن يكون رئيس غرفة، تماما كما هم ممثلو محكمة التمييز الثلاثة وممثلا محكمة الاستئناف. واللافت أن اقتراح قانون السلطة القضائية المقدّم من آل الحسيني قد استعاد نفس التركيبة الهرمية سواء لجهة الدرجات أو لجهة حصر العضوية برؤساء الغرف، وإن استبدل التعيين بالانتخاب. ومن شأن هذه القواعد أن تؤدي عمليا إلى تهميش قضاة الدرجة الأولى والقضاة في سائر الدرجات الذين هم مستشارون في الغرف، والأخطر أن تكرس الهرمية داخل القضاء مع ما تستولده من مشاعر لدى هؤلاء بالدونية. ومن شأن هذه المعطيات أن تؤثّر على حق القضاة بالاجتهاد والتداول بحرية وعلى قدم المساواة في الملفات القضائية، وأن تعزّز بالمقابل قدرة رؤساء الغرف ومحاكم الدرجات الأعلى على فرض وجهاتهم، بمعزل عن مدى صوابيّتها.

وما يزيد هذا الأمر قابلية للنقد هو أن الرؤساء هم في العموم الأكثر حظوة برضى الجهات المشرفة على التشكيلات القضائية، بخلاف أعضاء ومستشاري الغرف والذين هم غالبا ما يمثلون القضاة الذين لا أحد يحكي بهم.  

ختاما، يجدر هنا التذكير بمعركة شنّها مستشارو محكمة التمييز في عدد من الدورات الانتخابية لممثلين عنهم في مجلس القضاء الأعلى. ففيما يحصر القانون حق الترشيح برؤساء الغرف، وضع العديد منهم في صندوق الاقتراع أوراقاً دُوِّن عليها: "مستشار غرفة تمييز"، احتجاجا على الهرمية وتأكيداً على شعور الغبن لديهم وعلى أحقيتهم في تولي عضوية مجلس القضاء الأعلى.

 

3- تكوين المجلس من أشخاص من غير القضاة

هنا نصل إلى المسألة الأخيرة والتي أيضاً بقيت خارج نقاش اللجنة حتى الآن، وهي مسألة منح عضوية المجلس لأشخاص من غير القضاة، عملا بمعيار آخر لاستقلال القضاء يُستشفّ منه أنّ القضاء ليس شأنا خاصا بالقضاء بل شأن عام، وأن المجلس الذي انوجد لضمان حسن إدارة القضاء يجدر أن يتكوّن من أشخاص يمثّلون قوى اجتماعية معينة من خارج القضاء ويعبّرون عن وجهات نظرها.

بالطبع، يلقى هذا الطرح ممانعة شديدة من قبل القضاة الذين ما زالوا في غالبيتهم يتوجّسون منه، لأسباب عدة، بعضها يتصل بحرص القضاة على سرية مناقشات المجلس أو خوفهم من تحوّل غير القضاة إلى عامل آخر لتغوّل السلطة في القضاء أو للتدخّل في أعماله أو أيضا افتراض نقص معرفة هؤلاء بالشؤون القضائية. كما تبرز حجّة قوامها احتمال وجود تضارب مصالح وبخاصة في حال شملت العضوية محامين ما برجوا يزاولون المهنة. ولا يخفى أيضا أن ثمة حساسية أكبر إزاء ضمّ محامين إلى المجلس بفعل الأزمات الفئوية المتكررة بين القضاة وبينهم.

وتقبل هذه الحجج مناقشة من زوايا عدة:

  • أن رفض غير القضاة غالبا ما يأتي مطلقا وقاطعا بما يتجاهل الفوائد التي قد تنجم عن تعيين محامين أو أساتذة جامعيين ويحجبها بشكل كامل. وإزاء ذلك، يجدر التنبيه إلى الفوائد الآتية والتي من شأن تعيين هؤلاء زيادة حظوظ تحقيقها أو تحقيقها فعليا وهي تباعا: (1) إدراج مجمل مشاكل المتقاضين على جدول أعمال المجلس بما يعزز حظوظ تحسين المرفق العام، و(2) تعزيز التنسيق بين الجامعات والقضاء، مع ما يستتبع ذلك من أقلمة لمناهج التعليم ولكن أيضا من استقطاب العناصر الجيدة من خريجي الجامعات في القضاء، و(3) إشراك هاتين الفئتين أي المحامين والأساتذة الجامعيين ومعهما طلاب الجامعات بشكل شبه مباشر في إصلاح القضاء والدفاع عن استقلاله بعد عقود لزم فيه هؤلاء عموما الصمت.
  • أن التخوّف من استغلال غير القضاة لتعزيز التغّول السياسيّ في أعمال المجلس، على أهميته، هو دوما تخوّف مشروع في دول يعاني فيها حكم القانون ومعه ثقافة استقلال القضاء من انحسار كبير. إلا أن هذا التخوّف ينسحب منطقيا على الأعضاء القضاة كما الأعضاء غير القضاة وربما بالدرجات نفسها. فلا ننسى أن التدخّل في القضاء حصل سابقا بشكل منتظم في فترات كان فيها جميع الأعضاء قضاة، ويتوقع استمراره بطرق أو درجات مختلفة من خلال القضاة الحكميين أو حتى سائر الأعضاء القضاة بما فيهم المنتخبين. وربما بدل أن يثنينا هذا التخوف عن السعي للاستفادة من الفوائد التي قد تتأتى عن إشراك أعضاء غير قضاة، يتعين علينا السعي إلى تحسين طرق اختيار هؤلاء. ومن أهم ما تفرضه هذه الغاية، اعتماد انتخاب غير القضاة من أندادهم مباشرة تيّمنا بالقانون التونسي، بما يخفف من امكانية التدخل السياسي في اختيارهم. وهذا ما فعله اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته بحيث أناط بكلا من الجمعيتين العموميتين للمحامين في نقابتي بيروت وطرابلس اختيار أحدهم مباشرة بالتزامن مع اختيار أعضاء مجلسيهما، كما أناط بالأساتذة المتفرغين في الجامعة الوطنية وكذلك في الجامعات الخاصة انتخاب العضوين الآخرين.
  • أنّ التخوّف من تضارب المصالح ينسحب بدوره على الأعضاء القضاة حيث أن عددا منهم متأهلون أو يمتون بصلة قرابة بمحامين حتى الدرجة الرابعة (أزواج، آباء، أبناء...).
  • أنّ التخوف من نقص معرفة غير القضاة بالشؤون القضائية، إنما يشكّل حجّة لإشراك هؤلاء في المجلس على أمل أن تزداد المعرفة العامة، وبخاصة معرفة المهن القانونية، بهذه الشؤون في مختلف أبعادها وتحدياتها. 
  • أن التخوف من التسريبات ونقض سرية مداولات المجلس بما يتصل بالمسارات المهنية للقضاة هو أيضا ليس في محله. والدليل القاطع على ذلك هو حجم التسريبات الحاصلة في الزمن الحاضر حيث يبقى مجمل أعضاء المجلس قضاة. هذا مع العلم أن ثمة ضرورة في إعادة النظر في هذه السرية المطلقة التي تبدو في حال تعارض واضح مع مبادئ الشفافية التي باتت ملازمة لحسن سير أي سلطة أو مؤسسة عامة.

انطلاقا من ذلك، من شأن أي موازنة بين فوائد تعيين أعضاء من غير القضاة في المجلس والأضرار والمخاطر التي قد تنجم عنه أن ترجح كفة الأولى، وبخاصة في حال اعتماد آلية انتخابهم من أندادهم كما سبق بيانه. هذا مع العلم أنه قد يكون من الأنسب مراعاةً للهواجس والحساسيات المذكورة، وبانتظار تعزيز ثقافة استقلال القضاء، أن تحصر إدارة المسارات المهنية بالأعضاء القضاة وحدهم، على أن يعطى غير القضاة دورا محوريا فيما يتصل بحسن سير المرفق العام كمسائل زيادة عدد القضاة أو المحاكم في هذه المنطقة أو تلك أو أي أمر تنظيمي آخر. وهذه هي الحلول التي اعتمدها اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته والذي سعى من خلال ذلك إلى تكريس أنصاف الحلول، بهدف تحقيق مكاسب توسيع المجلس من دون القفز فوق الهواجس. بالطبع، يبقى الأمل كبيرا في حال إقرار اقتراح القانون أن يؤدي إرساء مجلس القضاء الجديد إلى تعزيز الثقة بين هذه المهن القانونية، مما يسمح بتحقيق شراكة حقيقة في وقت لاحق، نحو إرساء مجلس أكثر دمجا وتنوّعا.

 

  • مقالات ومواضيع ذات صلة:

دليل حول معايير استقلالية القضاء

المفكرة تنشر اقتراح قانون الإئتلاف المدني حول استقلال القضاء وشفافيته

المفكرة تنشر ورقتها البحثية ال 1 حول إصلاح القضاء في لبنان: تكوين مجلس القضاء الأعلى

"المفكرة" تنشر تقريرا حول أهم الإصلاحات القضائية في المغرب وتونس بعد 2011

كتاب "حين تجمع القضاة في لبنان": إرث حلقة الدراسات القضائية يحمي نادي قضاة لبنان