هيئة الإشراف على الانتخابات أو هيئة المهمة المستحيلة (3): انتخابات في ظلّ ال cash economy

نيقولا غصن

27/12/2022

انشر المقال

تبعا لانتخابات 2022، رصد عدد من المراقبين الدوليين والمحليين أداء هيئة الإشراف على الانتخابات، في معرض النظر في مدى ديمقراطية الانتخابات. "المفكرة" عملت من جهتها على الإحاطة بكيفية أداء الهيئة دورها في هذه الانتخابات، على ضوء إمكاناتها والهامش المتروك لها لأداء مهمتها. ننشر هنا المقال الثالث والأخير بشأن دور هيئة الإشراف على الانتخابات في مراقبة الإنفاق الانتخابي، علما أننا كنا نشرنا سابقا مقالين: الأول حول إشكاليات تكوين الهيئة ومواردها، والثاني حول دور الهيئة في مراقبة الإعلام والإعلان الانتخابيين (المحرّر). 

يعتبر الإنفاق الانتخابي عنصرا أساسيا لقيام أي حملة إنتخابيّة. غير أن الانفاق المتحرر من أيّة ضوابط يتحوّل سريعاً إلى أداة تخلّ بالمساواة بين المرشحين. فالمستويات المتفاوتة في القدرات الماديّة للمرشحين تؤدّي إلى سيطرة بعضهم على المجال الإعلامي والدعائي بحملات انتخابيّة مبالغ بها، تحرم بقية المرشحين الأقل يسراً من إمكانية بروز حملتهم وإيصال أفكارهم إلى الناخبين. إذ أنّ المساواة الواجبة في الإنفاق الانتخابي بين المرشّحين هي الضمانة للناخب بأن يكون على بيّنة من جميع المشاريع والأفكار المطروحة في الحملات الإنتخابية بشكل متساوٍ، وأن يتمكّن من تكوين قناعاته بشكل مستقلّ من دون أن تصبح خياراته السياسية رهينة الإمكانيات المادية للمرشحين. 

جراء ما تقدم، يصبح جليا أن قانون الانتخابات يهدف إلى تنظيم الإنفاق الانتخابي بحيث يضمن قدر الإمكان المساواة بين المرشّحين وذلك عبر الحدّ من التفاوت في إمكانياتهم الماديّة. لذلك أناط القانون بهيئة الإشراف على الانتخابات مهمّة السهر على احترام ضوابط الإنفاق الانتخابي. لكن الممارسة في هذا الشأن كشفتْ في انتخابات 2018 و2022 عن نواقص كبيرة أدّتْ إلى خلل بالمساواة بين المرشحين وفوضى في الإنفاق الانتخابي ما أدى إلى التشكيك بنزاهتها ومدى ديمقراطيتها.

ولا شكّ أن المشرّع  يتحمّل جزءًا مهماً من المسؤولية الناتجة عن هذا الخلل في القانون، إذ نستشفّ أنه أهمل عمداً تشديد الضوابط في موضوع الإنفاق كونه مثلا منع الهيئة من إمكانية الكشف مباشرةً على حسابات الحملات، وهذا ما سنتناوله لاحقاً. كما حرم الهيئة من الأدوات لملاحقة مخالفات الإنفاق الانتخابي وسلّم أمر المعاقبة إلى المحاكم التي أظهرت بدورها بطءاً شديداً في إصدار الأحكام. هذا فضلاً عن أنّ القانون سمح بتلقي المرشحين واللوائح مساهمات من أشخاص معنويين (لبنانيين فقط) ما يفتح الباب أمام تضارب المصالح بين المرشحين والممولين، ويتيح المجال أمام ضغوطٍ محتملة على المرشحين تفقدهم استقلاليتهم.

من جهة أخرى، تتحمل الحكومة جزءًا أيضا من المسؤوليّة في الفوضى المالية الانتخابية. إذ حرمت هيئة الإشراف من الإمكانيات الماديّة الكافية لتكوين ملاك من المتخصصين يُمكّنها من القيام بواجباتها على وجه الكمال وأغفلت بشخص وزير الداخلية ملاحقة الرشاوى وردع المخالفين وفرض الغرامات في موضوع حساب الحملة النهائي بالرغم من طلب الهيئة ذلك بموجب القانون وفقا لما أعلنه رئيس الهيئة القاضي نديم عبد الملك في حديثه مع المفكرة القانونية بخصوص انتخابات 2018 و2022.

لكن ذلك لا يعني أن أداء الهيئة لم تكن تشوبه بعض النواقص إذ هي تأخّرت في نشر السقوف الانتخابية كي يتمكّن الرأي العامّ من الاطّلاع عليها. كما تمنّعت عن التواصل مع المواطنين فلم تشرح العراقيل التي تواجهها ولم تصارح اللبنانيين بحقيقة التحديات التي تعترض عمدا طريقها، هذا فضلا عن عزوفها عن نشر أسعار الظهور الإعلامي التي حصلت عليها من وسائل الإعلام، الأمر الذي يمكن اعتباره بمثابة تفسير ضيق ومحافظ  لقانون الانتخابات من قبلها في هذه المواضيع.

سنستعرض في الفقرات التالية السلطات الأساسية التي مارست من خلالها هيئة الإشراف دورها في مراقبة التمويل الانتخابي إذ يمكن لنا أن نحددها في المجالات التالية: سلطة وضع قواعد عامة وملزمة، سلطة تفسير القانون بما يتصل بصلاحياتها، سلطة تنظيمية مباشرة، سلطة الرقابة لضمان التزام وسائل الإعلام بالأحكام القانونية وتوجيهاتها، سلطة المساءلة والملاحقة، سلطة الكشف عن المخالفات التي تم رصدها وأخيراً سلطة التذكير بالقانون.

1- سلطة وضع قواعد عامة وملزمة

لم يفوّض قانون الانتخابات هيئة الإشراف صراحةً بوضع قواعد عامة وملزمة للمرشحين أو اللوائح أو الناخبين في موضوع الإنفاق الانتخابي. إلّا أن الهيئة اضطرت بسبب الأزمة الاقتصادية أن تتدارك موضوع انهيار سعر صرف الليرة وتشرح كيفيّة احتساب النفقات الانتخابية بالليرة اللبنانية. فما صدر عنها بهذا الشأن، بوصفه تنظيما موحدا على جميع المرشحين واللوائح الالتزام به، يمكن اعتباره من ضمن القواعد العامة الملزمة وإدخاله في هذه الخانة. ينطبق الأمر نفسه على المستندات التي صدرت عن الهيئة على شكل ملاحق والمتعلّقة بنماذج يجب على اللوائح والمرشحين اعتمادها. وهذا ما سنقوم بتبيانِه أدناه. 

تعليمات حول طريقة احتساب سعر صرف الدولار

قامت الهيئة أيضاً بإصدار تعليمات حول طريقة احتساب سعر صرف الدولار لمتوجبات البيان الحسابي الشامل، بالنظر إلى تعدد أسعار صرف الدولار أثناء الحملة الانتخابية، ما يشكّل صعوبة لم يتطرّق إليها القانون. وإذا كان من الطبيعي عدم معالجة هذه الإشكالية في القانون كونه أقر سنة 2017 قبل اندلاع الأزمة الحالية، لكن من المستغرب أن مجلس النواب الذي أدخل تعديلات مهمة على القانون سنة 2021، لا سيما بخصوص الإنفاق الانتخابي، لم يتطرق لهذه المشكلة مجددا ما يشكل إهمالا كبيرا من قبل المشترع لا يمكن تبريره.  

ففي الأول من نيسان 2022 أصدرت الهيئة بياناً يحمل الرقم 8 تستند فيه على رأي هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل الصادر بتاريخ 28 آذار 2022، اعتبرت فيه أن المصاريف الانتخابية الداخلة ضمن البيان الحسابي الشامل النهائي يتوجب التصريح عنها بالليرة اللبنانية حصراً. وانطلاقا من موجب التصريح بالعملة الوطنية، ذهبتْ الهيئة إلى التأكيد أنّه في حال تمّ الإنفاق بالعملة الأمريكية يتوجب إثبات سعر الصرف الذي تم اعتماده بمستندات صادرة عن مصرف أو عن صراف أو عن شركة قد تم التعامل معها من أجل تحديد مقدار الإنفاق الذي تم بالليرة اللبنانية ما يضمن فعالية رقابة الهيئة بشكل شفاف ويمنع على المرشحين واللوائح من استغلال تعدد أرقام الصرف لمخالفة القانون.

إصدار نماذج وملاحق

تسهيلاً لعملها الرقابي اللاحق على الإنفاق الانتخابي، قامت هيئة الإشراف بإصدار أربعة نماذج هي نموذج البيان الحسابي الشامل للمرشح، نموذج البيان الحسابي الشامل للائحة، ملاحق تحصي مصاريف مختلفة يقوم بها المرشح أو تقوم بها اللائحة ونموذج لأسعار الإعلان والدعاية الانتخابية. غير أنّ هذه النماذج، بفرضها أطرا معيّنة في التصريح عن الأسعار والنفقات والمداخيل، وبما أنها فنّدت أبواب المصاريف مثلاً، بشكل أوسع مما ذكره القانون في المادة 58، تكون قد أضافت على القانون قواعد جديدة تلزم المرشح أو اللائحة بأن يتقيّدا بها لتكون بياناتهما الحسابية الشاملة مقبولة. فتكون الهيئة بهذا الشكل قد توسعت في تفسير صلاحياتها المنصوص عليها في القانون كي تراعي البيانات الحاسبية الحد الأدنى الضروري من أجل التدقيق بها إذ تكون قد أخضعتها لمعايير موحدة تضمن الحصول على المعلومات نفسها من جميع المرشحين واللوائح.

2- سلطة تفسير القانون بما يتصل بصلاحياتها

يحقّ لهيئة الإشراف في سياق قيامها بمهامها أن تفسر القانون في كل ما يتصل بممارسة صلاحياتها تمهيدا لاتخاذ الخطوات المناسبة. وبالطبع، يبقى تفسيرها للقانون في هذا الخصوص قابلا للطعن طالما أنه يعكس اجتهاداً منها من دون أن يكون لها أيّ تفويض تشريعي بذلك. إنّ هذه القدرة على التفسير التي تتمتع بها هيئة الإشراف هي الأداة الأساسية التي تمتلكها لتوسيع مفاهيم قانون الانتخاب بهدف جعله أكثر دقّة أو فعاليّة في كلّ ما ينظّمه من شؤون تتعلق بالانتخابات النيابية، لاسيما في موضوع الإنفاق الانتخابي.

ولكن كما تبين من خلال التجربة السابقة أن الهيئة الإشراف لم تستخدم هذه الإمكانية إلا نادرا، بل هي اتّبعت قراءة قريبة من النص ولا تساهم في تفعيله كي يتأقلم مع الظروف المتغيّرة. فالهيئة اتّخذت موقفاً متحفّظاً، تخلّت فيه عن امكانيّة التفسير التي تسمح لها بتدارك نواقص القانون أو تسهيل تعقيداته التي يكون قد وضعها المشرّع سهوا أو عمدا، علما أن توسعها في تفسير صلاحياتها كان سيؤدي أيضا لدخولها في صدام مباشر مع المرشحين والقوى السياسية التي تقف خلفهم. فالوضع الهشّ الذي وجدت فيه الهيئة من ناحية التمويل والتكوين، وإمكانياتها المتواضعة لجهة المراقبة، سيحدان لا محالة من حريتها على اتّخاذ خطوات جريئة كالشروع في تفسير القانون بشكل يعزز من دورها الرقابي.

3- سلطة تنظيمية مباشرة

إلى ذلك، منح القانون الهيئة سلطة تنظيمية مباشرة في موضوع تحديد سقوف الإنفاق الانتخابية للمرشحين واللوائح :

فقد قامت هيئة الإشراف بنشر بيان يحمل الرقم 14 بتاريخ 27 نيسان 2022، يتضمن جداول بالسقوف الانتخابية للمرشحين واللوائح في كافة الدوائر. وبالرغم من عدم ذكرها للسند القانوني المعتمد في احتساب هذه السقوف، إلّا أنه من الأكيد أنّ الهيئة استندت على المادة 61 المعدّلة في تشرين الثاني 2021 بالقانون النافذ حكماً رقم 8، والتي رفعت السقوف الانتخابية لكي تتماشى مع انهيار سعر صرف الليرة. وللتذكير، فإن سقف المبلغ الأقصى الذي يجوز لكل مرشّح إنفاقه أثناء فترة الحملة الانتخابية هو قسم ثابت مقطوع قدره سبعمائة وخمسون مليون ليرة لبنانية، يضاف إليه قسم متحرّك مرتبط بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى التي يُنتخب فيها وقدره خمسون ألف ليرة لبنانية عن كل ناخب. أما سقف الإنفاق الانتخابي للّلائحة فهو مبلغ ثابت مقطوع قدره سبعمائة وخمسون مليون ليرة لبنانية عن كل مرشح فيها. فيكون مثلاً سقف الإنفاق للمرشح في دائرة بيروت الأولى (الأشرفية، الرميل، المدور، الصيفي) 7،491،250،000 ليرة لبنانية، أي ما يوازي تقريباً 374،562 دولار أمريكي على سعر صرف 20،000 ليرة لبنانية للدولار الواحد الذي كان رائجاً حينها، بينما سقف إنفاق لائحة "معكم فينا للآخر" في جبيل التي تضم 8 مرشحين فكان 6 مليارات ليرة أي ما يوازي 300،000 دولار أمريكي وذلك أيضا على سعر صرف 20،000 ليرة للدولار الواحد. 

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الهيئة قد انتُقدت على نشرها المتأخر لهذه السقوف الانتخابية لاسيما من منظمة لادي في تقريرها حول هيئة الإشراف على الانتخابات[1]. فالسقوف نشرت في 27 نيسان أي قبل أقل من شهر من تاريخ الإنتخابات العامة. وكان لنشرها باكراً في الحملة الانتخابية أن يمكّن المنظمات المتخصصة من القيام بمراقبة أكثر دقّة وموضوعيّة لإنفاق المرشّحين أثناء الحملة.

4- سلطة الرقابة لضمان التزام وسائل الإعلام بالأحكام القانونية وتوجيهاتها

تتولى الهيئة مراقبة مدى التزام المرشحين واللوائح بالإنفاق ضماناً لاتخاذ الإجراءات اللازمة عند الاقتضاء. وفي حين فرض القانون على اللوائح والمرشحين تزويد الهيئة ببيانات معينة تسهيلاً لعملها الرقابي، فإنه أتاح بطبيعة الحال لها ممارسة رقابتها التلقائية. تتجلى أيضاً هذه الرقابة التلقائية في عدد من الأمور نستعرضها في هذا الفصل، وهي عدم تمكن الهيئة من الكشف المباشر على حسابات الحملات، وتعطّل أداة المراقبة من خلال حسابات الحملات بسبب توسّع الإقتصاد النقدي وعدول المرشحين واللوائح عن استخدام القنوات المصرفية في مقبوضاتهم ومدفوعاتهم، وتشريع الرشوة المقنّعة في المادة 62 من القانون وجعل مهمة درس البيانات الحسابية النهائية صعبة على الهيئة بسبب المهل الضيّقة.

  • عدم تقديم مدققي الحسابات للتقارير الشهرية لهيئة الإشراف

يتوجب على مدقق الحساب الانتخابي المعتمد من قبل المرشح أو اللائحة، وبالاستناد إلى المادة 63 من القانون، أن يقدم بيانا شهريا للهيئة "يبيِّن فيه المقبوضات والمدفوعات والالتزامات المالية للشهر المنصرم ويرفق به كشفاً بالحساب المصرفي العائد للحملة الانتخابية صادراً عن المصرف المعتمد".

غير أن رئيس هيئة الإشراف أفادنا أن عدداً قليلاً من مدققي الحسابات لدى المرشحين واللوائح قد التزموا بتقديم البيان الشهري، لاسيما لعدم وجود نص يعاقب مخالفة هذا الموجب. وأعرب لنا رئيس الهيئة عن مطالبته بتعديل القانون لتمكين هيئة الإشراف من تغريم مدقّق الحسابات عند مخالفته لواجباته، معرباً في الوقت نفسه عن شكّه بإمكانية القيام بهذا التعديل أو غيره من التعديلات التي تعزز تطبيق القانون، لحتميّة اصطدامها بمصلحة اللاعبين السياسيين المستفيدين من ضعف القانون. 

  • منع الهيئة من الكشف على حسابات الحملات مباشرة بعكس قانون 2008

في هذا الموضوع، تشير هيئة الإشراف على الانتخابات في تقريرها الصادر عقب انتخابات 2018 إلى الانتقاص من صلاحياتها في مراقبة الإنفاق الانتخابي في القانون الصادر سنة 2017. إذ إنّ قانون 25/2008 كان يسمح للهيئة في المادة 60 البند الثاني بالاطلاع على حساب الحملة الانتخابية حين تشاء ممّا يسمح لها بالمراقبة الحثيثة لهذا الحساب، ومقارنة المعطيات التي تمكنت من جمعها مباشرة من المصارف مع البيان الحسابي الشامل المقدم في نهاية الانتخابات. غير أن قانون 2017 لا يأتي على ذكر هذا الحق بل يوكل مدقق الحسابات المعيّن من قبل اللوائح والمرشحين بإطلاع الهيئة بشكل دوري على حركة الأموال في الحساب علما أن الالتزام بهذا الموجب كان محدوداً أيضا.

يبقى أن حساب الحملة غير خاضعٍ للسرية المصرفية بحسب القانون الحالي في مادته التاسعة والخمسون. فعند سؤالنا رئيس الهيئة عن فعالية رفع السرية المصرفية، كان الجواب بأن الهيئة في الوضع الحالي لم تتمكن حتى أن تطّلع على تحريك هذه الحسابات، بل فقط على ميزانيّة الحساب المجرّدة من أية تفاصيل، وأشار إلى أن المصارف تمارس اعتباطيّة وتفرّدا في موضوع الإفصاح عن المعلومات التي قد تطلبها الهيئة منها.

في كلّ الأحوال، تبقى السريّة المصرفية سدّا منيعا بوجه هيئة الإشراف على الانتخابات إذ أنها تمنعها من الوصول إلى حسابات المرشح الشخصية أو حسابات أقاربه المقرّبين، ما يفتح المجال لاستعمال هذه الحسابات لدفع أموال تتخطى السقوف الإنتخابية دون الخضوع لأيّة مراقبة. 

  • عدم إمكانية ضبط الإنفاق الانتخابي من خلال القنوات المصرفية وتفلّت الاقتصاد النقدي (cash economy)

يهدف قانون الانتخاب إلى حصر التمويل الانتخابي في جمع التبرعات كما في إنفاق الأموال بالقنوات المصرفية لما تؤمّنه من إمكانية تتبع للأموال المرصودة والمنفقة على الحملة الانتخابية. غير أن الأزمة الاقتصادية الراهنة في لبنان التي دفعت بالمواطنين إلى اللجوء إلى استخدام العملة النقدية والابتعاد عن القنوات المصرفية قد انسحبت أيضاً على ادارة الأموال في الحملة الانتخابية. أدّى ذلك إلى تجاهل المرشحين للعديد من الضوابط التي يضعها قانون الانتخابات على الإنفاق الانتخابي والتي تحتّم المرور بحسابات مصرفية والدفع بالشيكات لتمكين هيئة الإشراف من ترصد حركة الأموال، مما أدّى في نهاية الأمر إلى جعل مهمة مراقبة الإنفاق صعبة وتشوبها نواقص كبيرة، وأدّى ذلك إلى تفلّت كبير في الإنفاق الانتخابي.

فبعدما عرّف القانون الإنفاق الانتخابي في المادة 58 على أنها الأموال المنفقة من المرشح أو اللائحة أو لحسابهما او مصلحتهما من قبل أي شخص طبيعي أو معنوي أو حزب أو جمعية، شرط أن تتعلق بالعملية الانتخابية، أتت المادة 59 من القانون كي تنص على أنّه يتوجب على كلّ مرشح فتح حساب انتخابي في أحد المصارف اللبنانية من أجل إيداع جميع المساهمات ودفع جميع النفقات عبره حصراً خلال كامل فترة الحملة الانتخابية على ألا يكون خاضعا للسرية المصرفية.

كما فرضت المادة 59 عدم قبض أو دفع أي مبلغ يفوق المليون ليرة إلّا بموجب شيك. وهو موجب سيتجاهله أكثريّة المرشحين إن لم نقلْ جميعهم، لأسباب عديدة أحياناً خارجة عن إرادتهم بسبب العوائق التي باتت المصارف تفرضها اعتباطيا نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها لبنان، وما نتج عن ذلك من عدم إمكانيّة العديد من المرشحين تحريك حسابهم الانتخابي. فالاقتصاد اللبناني الذي أصبح اقتصاداً نقديًّا بشكل كبير جعل من استخدام وسيلة للدفع كالشيك أمرا مستبعدا لا يمكن الاعتماد عليها من أجل تأمين المتطلبات المالية للحملة الانتخابية.

وتأتي المادة 59 على ذكر تفاصيل أخرى كواجب كلّ لائحة أو مرشح بتعيين مدقق لحساب الحملة يتكفّل بإدارة هذا الحساب، كما تفتح مجالاً أمام من يتعذّر عليه فتح حساب مصرفي في الاستعانة بصندوق عامّ يتم انشاؤه في وزارة المالية ويقوم مقام الحساب الانتخابي. وهذه الإمكانية الأخيرة هي لتدارك احتمال وجود مرشح يخضع لعقوبات أجنبية لا تتيح له التعامل مع المصارف اللبنانية ما يفرض عليه الاستعانة بخيار الصندوق المستحدث في وزارة المالية. 

أمّا المادة 60 من القانون، فهي تسمح للمرشح باستخدام ماله الخاص في الحملة وتعرّف عن المال الخاص بأنه أيضاً مال الزوجة أو مال أي من الأصول والفروع، وتخضعه لسقف الإنفاق. كما تنص المادة على إمكانية استلام المساهمات بينما تمنع ذلك في حال كان مصدر المال شخصيات طبيعية أو معنوية أجنبية.

ولا شك أن السماح باستلام المساهمات من الأشخاص المعنويين شرط أن يكونوا لبنانيين يتشابه مع ما يعمل به في الولايات المتحدة إذ إن التمويل الانتخابي فيها يتّكل بشكل كبير على مساهمات ضخمة لشركات أميركية. إلّا أنّ الوضع في فرنسا مغاير إذ يمنع استلام المساهمات من الأشخاص المعنويين لأيّ جنسيّة انتموا. ويعود السبب في ذلك إلى منع أي تضارب مصالح بين المرشح وهذه الشركات خصوصاً في حال وصوله إلى سدّة الحكم، ما قد يوثّر سلباً على خياراته ويفقده استقلاليته بسبب خضوعه للتمويل من جهة معيّنة.

ومن المعلوم أن مساهمة الأشخاص المعنويين في تمويل المرشحين يتفوق على مساهمات الأفراد، غير أنّ تأثيراته السلبيّة على أداء المرشح تكون أكبر، فضلاً عن إمكانيّة التضارب بين مصالح الأشخاص المعنويين الممولين ومصالح المواطنين الأفراد التي قد تُهمل من قبل المرشحين في حال استفادوا من مساهمات ضخمة من شركات ومؤسسات معينة.

وتضيف المادة 60 على أنه "لا يجوز أن تتجاوز المساهمة المقدمة من قبل شخص لبناني طبيعي أو معنوي واحد لأجل تمويل الحملة الانتخابية لمرشح أو للائحة، مبلغ 50% من سقف الإنفاق الانتخابي" مع تشديدها على ضرورة أن "تكون دوما بموجب عملية مصرفية (حوالة، شيك، بطاقة ائتمانية...)". وأخيراً تمنع المادة قبول مساهمة تتخطى سقف الإنفاق الانتخابي وقبول مساهمات عن طريق وسيط.

  • تشريع للرشوة المقنّعة

يعاني قانون الانتخابات، في إطار ضبطه للرشاوى الانتخابية والإنفاق الانتخابي، من تفخيخ مقصود لمضمونه عبر ثغرات تتيح للمرشحين أن يتهرّبوا من موجبات القانون ومن ضرورة التصريح عن نفقاتهم الانتخابية للشروع في تقديم الخدمات والأموال والمساعدات على الناخبين لاستمالتهم. في هذا الإطار، تبرز المادة 62 من القانون الإشكاليّة بامتياز، إذ إنّها تضع استثناءً على منع التقديمات كافة والتي تعتبر رشوة انتخابية، فتبيح هذه التقديمات في حال كانت "بذات الحجم والكمية بصورة اعتيادية ومنتظمة منذ ما لا يقل عن ثلاث سنوات قبل بدء فترة الحملة الانتخابية"، ما يفتح باب الرشاوى الانتخابية على مصرعيه.

قد ذكر تقرير بعثة المراقبة الأوروبية أن جزءاً كبيراً من الإنفاق الإنتخابي تمّ على شكل المساعدات العينيّة والإعانات من مرشحين استفادوا من هذه الإمكانيّة القانونية للاستمرار بتوزيع المساعدات خارج نطاق سقوف الإنفاق التي يمكن للهيئة مراقبته. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الهيئة صرّحت في تقريرها الصادر عام 2018 أنها لم تتمكّن من مراقبة هذا الإنفاق المسموح به بموجب الفقرة الثانية من المادة 62 بسبب تعذّر حصولها على سجلات وقيود المؤسسات المعنيّة. فالقانون الذي نظّم مسألة الإنفاق الانتخابي عبر وضع ضوابط لها عاد وأدخل استثناءً عليها من دون تحديد آلية شفافة تسمح بمراقبة ما قد يدخل ضمنه. وقد طالبت حينها الهيئة بتعديل القانون لتمكينها من أداء هذه الرقابة بشكل فعال لكن توصياتها لم يتمّ الأخذ بها حتى الآن. وفي سؤالنا له، أفادنا رئيس الهيئة أنّ هذه السجلّات بقيت خارج متناول الهيئة في انتخابات 2022 أيضاً.

يأتي إذاً نص القانون هذا ليشكل تشجيعا واضحا للمستثمرين في السياسة بأن ينشئوا منظمات خدماتيّة تستمرّ في ترسيخ شبكة الزبائنية التي أضحت من سمات العمل السياسي في لبنان. وفي حديثنا مع رئيس هيئة الإشراف، اعتبر أنّ هذه التقديمات غير المحتسبة "هي رشوة مقنّعة، فالمادة 62 تفتح مجالاً للفساد في الانتخابات." وأعرب رئيس الهيئة عن ضرورة إلغاء هذه المادة.

  • تكبيل الهيئة بدراستها للبيانات خلال مهلة تعجيزية

بالرجوع إلى المادة 64 من قانون الانتخابات، يتبيّن أنّ البيان الحسابي الشامل يتوجب إعداده بعد انتهاء العملية الانتخابية، على أن يتضمن "بالتفصيل مجموع الواردات المقبوضة والمساهمات العينية، بحسب مصادرها وتواريخها، ومجموع النفقات، المدفوعة أو المترتبة بحسب طبيعتها وتواريخها، منذ بدء الحملة الانتخابية." كما تنص هذه المادة على ضرورة تقديم هذا البيان إلى الهيئة خلال مهلة 30 يوما بعد انتهاء الانتخابات.

في هذا الإطار، ينص البند السادس من المادة 64 على أن البيان الحسابي الشامل الذي يقدمه المرشح أو تقدمه اللائحة يعتبر مقبولاً في حال انقضاء مهلة  الثلاثين يوما على بداية دراسته من قبل الهيئة دون أن تكون هذه قد أبدت رأيها فيه. ولا شك أن هذه المهلة قصيرة جداً، وهذا ما عبّرت عنه الهيئة في تقريرها لانتخابات 2018 حيث ذكرت أن هيئة الإشراف سنة 2009 استفادت من مهلة مفتوحة لدرس البيانات، مع توفير لها إمكانات أوسع ومع عدد مرشحين أقل، بينما هيئة سنة 2018 لاقت استحالة في إتمام دراسة البيانات مما أجبرها على الاستعانة بمدققي حسابات مجازين لإتمامها كما ذكرناه سابقا. وفي حديثنا معه، وصف رئيس الهيئة هذه المهلة ب"الهرطقة القانونية" و"تقييد لعمل الهيئة" الذي يشي بنية مبيتة لإفشال الهيئة ومنعها من القيام بعملها الرقابي. وبالمقارنة، فإن المهلة المعطاة في فرنسا لهيئة مراقبة الإنفاق الإنتخابي هو ستة أشهر لإتمام التدقيق في الحسابات.

وقد نشرت الهيئة قراراً يحمل الرقم 10 تفصح فيه عن استعانتها بموظفين من ديوان المحاسبة للتدقيق بالبيانات الحسابيّة لكي تتمكن بالحد الأدنى من تحقيق دراسة البيانات الحسابية في هذه المهلة القصيرة، لاسيما بسبب شح الإمكانيات المادية والبشرية التي بحوزتها لإتمام هذه المهمة.

5- سلطة المساءلة والملاحقة

تمتلك الهيئة أدوات محدودة في الملاحقة، فيقتصر دورها في موضوع الإنفاق الانتخابي في الطلب من وزارة الداخلية والبلديّات بتغريم المخالفين، كما الإحالة إلى النيابة العامة في حال تبيّن لها وجود مخالفة معاقب عليها قانوناً. غير أنّه كاد أن يكون للهيئة صلاحية مهمّة في ملاحقة مُخالفي قواعد الإنفاق والتمويل الانتخابي لولا تدخل المشرّع وتعديل مواد القانون، بحيث جرّد هيئة الإشراف والمجلس الدستوري معاً من إمكانية ملاحقة المخالفين ما لم يوجد طعن في صحة الانتخابات من قبل مرشح خاسر.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ القانون لا يعطي الهيئة سلطة تنبيه للمخالفين على عكس ما ورد في موضوع الإعلام والإعلان الانتخابيين حيث تعطي المادة 81 هذه الصلاحية للهيئة.

أمّا فيما يخصّ تلقّي الشكاوى، فقد أبدتْ الهيئة في بداية الحملة الانتخابية عن استعدادها لتلقي الشكاوى من خلال إعلان رقم 9 أشارت فيه إلى هذا الموضوع. غير أنها لم تشارك العموم من خلال منشوراتها الرسمية على موقع الانتخابات الإلكتروني بتلقّيها أيّ شكوى في أيّ موضوع لاسيما موضوع الإنفاق الانتخابي. علماً أن التيار الوطني الحرّ كان قد أعلن على الإعلام عن تقديم شكوى ضدّ حزب القوات اللبنانيّة متّهماً إيّاه بتخطي النفقات الإنتخابيّة من دون أن تقوم الهيئة بأيّ تصريح أو تحرّك علنيًّ في هذا الشأن توضيحاً ما إذا كانت هي الجهة التي تلقت أو قد تتلقى هذه الشكوى. 

  • محدودية أدوات الهيئة لردع المخالفات: عدلت سقوف الإنفاق تبعا لانهيار العملة الوطنية من دون تعديل غرامات تجاوزها

تتجلى في مضمون المواد 65 و 66 و 67 من القانون محدودية أدوات الهيئة لردع المخالفات المتعلّقة بالإنفاق الانتخابي.

فللهيئة بحسب البند الأول من المادة 65 التي تتحدث عن الشكاوى والملاحقات الجزائية المتعلّقة بالإنفاق الانتخابي، أن "تحيل مخالفة أحكام هذا الفصل إلى النيابة العامة المختصة إذا تبيَّن لها أن هذه المخالفة ينطبق عليها وصف الجرم الجزائي". وينص البند الثاني أنّه "يعاقَب كل من يقدم عن قصد على ارتكاب مخالفة وفقاً لأحكام الفقرة الأولى بالحبس لمدة أقصاها ستة أشهر وبغرامة تتراوح بين خمسين مليون ليرة لبنانية ومائة مليون ليرة لبنانية أو باحدى هاتين العقوبتين وذلك دون المساس بالعقوبات التي تتناول جرائم جزائية منصوص عليها في قانون العقوبات وفي القوانين الجزائية الخاصة". كما ينص البند الثالث أن الإنفاق الممنوع والمنصوص عليه في المادة 62 أي التقديمات على أنواعها تعتبر بمثابة جرم الرشوة المنصوص عليه في قانون العقوبات.

أمّا في المادة 66، فيتبيّن أنّ القانون يفرض غرامات عن المرشحين المخالفين لموجبات البيان الحسابي الشامل. فيتوجب على المرشح الذي لم يقدم البيان الحسابي الشامل دفع غرامة قدرها مليون ليرة لبنانية عن كل يوم تأخير، أمّا المرشح الذي تجاوز سقف الإنفاق فيتوجب عليه دفع غرامة توازي ثلاثة أضعاف قيمة التجاوز لصالح الخزينة ويُحال الملف من قبل الهيئة إلى المجلس الدستوري. وتنص المادة 67 على تطبيق العقوبات نفسها على المرشحين غير الفائزين.

من الملفت هنا أن التعديل الاستثنائي لقانون الانتخابات الذي صدر في تشرين