أسسٌ نظريّة لتصويب النقاش المتجدد حول مجلس الشيوخ
30/05/2025
سجّل المرصد البرلماني في الأسابيع الأخيرة تقديم 3 اقتراحات لإنشاء مجلس شيوخ على أساس المادة 22 من الدستور. الاقتراح الأول قدمه النائب علي حسن خليل، الاقتراح الثاني قدّمه النائبان ملحم خلف ونجاة عون صليبا والاقتراح الثالث قدمه النائب نعمة افرام. وقد أنشئت لجنة فرعية ضمن اللجان المشتركة لدرس هذه الاقتراحات. الباحث الدستوري وسام اللحام يحاول هنا وضع الأسس النظرية لتصويب النقاش المتجدد في هذا الشأن (المحرر).
بعد التغييرات السياسيّة التي شهدها لبنان عقب انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، عاد مجلس الشيوخ ليحتلّ حيّزا مهمّا في النقاش العامّ كخطوة إصلاحيّة يعلن كثيرون أن لا بدّ منها. وقد تجلّى ذلك عبر تعدُّد اقتراحات القوانين من مختلف الكتل النيابيّة التي هدفت إلى استحداث مجلس للشّيوخ وتحديد طريقة انتخاب أعضائه أو حتى النصّ على صلاحيّاته. وتستند جميع هذه الطروحات على وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّت في مدينة الطائف سنة 1989 والتي أعلنت في البند السابع من الفقرة "أ" التالي: "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطنيّ لا طائفيّ، يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية"، وقد أدرج هذا النص سنة 1990 في متن الدستور وأصبح المادة 22 الحالية.
وهكذا يتبيّن أنّ الدّستور اشترط إلغاء الطائفيّة السياسيّة كخطوة ضروريّة قبل إنشاء مجلس للشّيوخ. ولتحقيق هذا الهدف، وضعت المادة 95 من الدستور آليّة محدّدة تتضمن قيام مجلس النواب "المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين" بتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تتولّى إقرار خطّة مرحليّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة، ما يعني أن استحداث مجلس للشيوخ لا يمكن أن يتم قبل إلغاء التمثيل الطائفي في الرئاسات وداخل مجلس النواب والحكومة. لكن هذه النصوص الواضحة لم تمنع رئيس مجلس النواب نبيه بري سنة 2016 من تفسير تعبير "مجلس نواب وطني لا طائفي" بمعنى المناصفة بين المسيحيين والمسلمين بحيث يتمّ انشاء مجلس شيوخ لتمثيل الطوائف مع الإبقاء على تمثيل طائفي ما في مجلس النواب.
ويلحظ أنّ موضوع مجلس الشيوخ يدخل في فتراتٍ من السّبات العميق، كي يبرز إلى العلن عند حدوث تبدّلات في التوازن السياسي، أو عند قيام مختلف أركان النّظام الحاكم بالتفاوض على توزيع السلطة فيما بينهم. وغالبًا ما يقترن هذا النّقاش بخطابٍ إصلاحيّ يجد في الطائفيّة السبب المباشر لكلّ المشاكل التي يعاني منها لبنان. فعلى سبيل المثال، عقب سقوط الرئيس بشارة الخوري وانتخاب الرئيس كميل شمعون سنة 1952، جرى التّداول بمشاريع إصلاحية كبيرة، لعلّ أبرزها تلك التي أعلنت عنها الحكومة عندما جرى إصدار قانون انتخابي جديد (مرسوم اشتراعي رقم 6 تاريخ 4 تشرين الثاني 1952) خفض عدد النواب من 77 إلى 44 ينتخبون على أساس الدوائر الصغرى لكن مع الإبقاء على التوزيع الطائفي للمقاعد علما أن الحكومة "كانت تود أن تضرب صفحا عن أي اعتبار طائفي في قانون الانتخاب الجديد (...) لكنها آثرت في الوقت الحاضر أن لا تحرم الأقليات الطائفية حق التمثيل الذي تتمتع به". وتبرر الحكومة في المذكرة التي وضعتها من أجل شرح النظام الانتخابي الجديد خفض عدد النواب كونها "تفكر بإعداد مشروع دستوريّ يقضي بإنشاء مجلس أعلى لا يزيد عدد أعضائه عن نصف عدد مجلس النواب يشترك معه في سن القوانين ودرس الموازنة وإقرارها إلى جانب قيامهما معًا بمراقبة السلطة الاجرائية" لأن "التجارب البرلمانية في الدول العريقة أثبتتْ أنّ القوانين يجب أن تدرس بتمعّن ورويّة وأن يشترك بسنّها إلى جانب مجلس النواب مجلسٌ ثان من حيث تشكيله وخبرته واتّزانه ما يضمن للقوانين تحقيق الأغراض التي تسنّ من أجلها وتمشّيها مع التطوّر الاجتماعي" (جريدة الرواد، عدد 5 تشرين الثاني 1952).
فمنذ إلغاء مجلس الشيوخ في لبنان سنة 1927، ظلّت هذه المؤسّسة حاضرة في الوجدان الدستوريّ، ويتمّ استحضارها دائمًا كحلّ سحريّ للمشكلة الطائفية وتستخدمها الكتل النيابية المهيمنة على مجلس النواب كورقة تفاوض عند كل استحقاق سياسيّ من شأنه إعادة توزيع السلطة في البلاد. لذلك، كان لا بدّ من تصويب النقاش المتعلق بمجلس الشيوخ عبر وضعه في إطاره النظري الصحيح وتحريره من مصالح الأحزاب الحاكمة.
المسوغ الدستوري لإنشاء مجلس للشيوخ في لبنان
تعتبر ثنائية السلطة التشريعية، أي أن يكون البرلمان مؤلفا من غرفتين، من المواضيع التقليدية التي عالجتها النظرية الدستوريّة ووجدت لها ثلاثة أسباب رئيسية:
- السبب الأول يوجد في الدول الفدرالية حيث تتألف الدولة من اتحاد أقاليم لا بد من المحافظة على استقلاليتها الذاتية وتأمين مشاركتها في السلطة المركزية. لذلك تنقسم السلطة التشريعية عادة في النظم الفيدرالية إلى غرفتين بحيث تقوم الغرفة الأولى بتمثيل الشعب كمجموعة من المواطنين في دولة واحدة (كمجلس الممثلين في الولايات المتحدة الأميركية) بينما تقوم الغرفة الثانية بتمثيل الأقاليم الاتحادية (كمجلس الشيوخ الأميركي). ومن غير الضروري أن يكون ممثل الإقليم منتخبًا إذ قد يكون معيّنا من قبل حكومة الإقليم كأعضاء المجلس الاتحادي الألماني (Bundesrat).
- السبب الثاني يوجد في الدول الوحدوية كون انقسام السلطة التشريعية إلى غرفتين يهدف تاريخيا إلى الحدّ من سلطة البرلمان الكبيرة لا سيّما وأن الرقابة على دستوريّة القوانين لم تكن موجودة عند ظهور النظام البرلماني. لذلك، ومن أجل الحدّ من استبداد المجالس التمثيلية المنتخبة الذي لا يقلّ خطورة عن استبداد الملوك، كان لا بد من اعتماد ثنائية المجالس ما يحمي السلطة التنفيذية من طغيان السلطة التشريعية، ويسمح بإيجاد توازن سياسي بين أجهزة السلطة: مجلس الشيوخ ومجلس النواب والحكومة. وهذا ما يشرح لماذا يتمّ عادةً انتخاب الشيوخ وفقا لنظام اقتراع أقلّ ديمقراطية من انتخاب النواب، ما يتيح لمجلس الشيوخ التحرّر من تقلّبات الرأي العامّ ويسمح له بالحد من غلواء المواقف المتطرفة التي قد تسيطر على مجلس النواب عبر تقديم قراءة أكثر رصانةً للقوانين، لا سيما وأن ولاية المجلس تكون عادة أطول من ولاية المجلس النيابي وغالبا ما يتمّ تجديد العضوية بشكل جزئيّ بحيث لا يتمّ انتخاب جميع الشيوخ دفعة واحدة بل فقط قسم منهم.
- السبب الثالث يعتبر أن الحفاظ على التوازن داخل المجتمع يتطلب تمثيل مختلف الطبقات الاجتماعية في السلطة العليا في الدولة (البرلمان) بحيث يختصّ مجلس الشيوخ بتمثيل طبقة النبلاء بينما يقوم مجلس النواب بتمثيل الفئات الشعبية. وقد تمّ التخلّي بعد بروز الفكر الدستوريّ الحديث عن هذه النظريّة التي تقول بالنظام المختلط لأن الحفاظ على السّيادة الشعبيّة بات يتطلب انبثاق السلطة التشريعيّة عن الشعب بأكمله الذي ينظر إليه كجسم واحد وليس كمجموعة طبقات.
جراء ما تقدّم، يتبيّن أنّ إنشاء مجلس للشّيوخ كما يتمّ طرحُه في لبنان هو أقرب إلى الفكر الفيدراليّ إذ المطلوب منه تأمين تمثيل اللبنانييّن كطوائف بينما يتولى مجلس النواب تمثيل اللبنانيين كمواطنين، على الرغم من أن ذلك لا يكفي كي يتحول لبنان إلى دولة فيدرالية لأن شروط هذه الأخيرة لا تتحقق باستحداث فقط مجلس الشيوخ لتمثيل الطوائف.
لكن حتى هذه المقاربة تفتقر إلى الدقّة كونها تنطلق من فرضية أن مجلس النواب اليوم هو طائفي في حين أن الحقيقة خلاف ذلك لأن الطائفية تقتصر على الترشيح ما يضمن توزيع المقاعد النيابيّة على مختلف الطوائف، بينما الانتخاب يتمّ في دوائر انتخابية تضم لبنانيين من جميع الطوائف، ما يعني أن النائب المنتخب لا يمثل طائفته بل الأمة جمعاء وفقا للمادة 27 من الدستور، علما أن الممارسة تختلف عن هذه المقاربة الدستورية لأن الجميع بات ينظر إلى النائب كممثل سياسيّ لطائفته.
ولا شكّ أن هذا الواقع وضع مجلس النواب في لبنان أمام حالة متناقضة، كونه بات يمثّل بغالبيّته العظمى اللبنانيين كطوائف بينما المطلوب منه تمثيلهم كشعب. فالمقاربة الفيدرالية للسلطة التشريعية تعيد الاتّساق المنطقيّ للنظام الدستوري كونها تؤدّي إلى تمثيل اللبنانيين كشعب في مجلس النواب وتمثيلهم كطوائف في مجلس الشيوخ، علما أن الفيدرالية تقوم على تكريس الاعتراف الدائم بالوجود السياسي لأقاليم (فيدرالية جغرافية) أو مجموعات (فيدرالية شخصية)، بينما إنشاء مجلس الشيوخ في لبنان يجب أن يحصل بعد خطة طويلة لإلغاء الطائفية، ما يطرح علامات استفهام حول مبرر الحفاظ على الطائفية في مجلس الشيوخ بعد التمكن من تخطّيها في كل مؤسسات الدولة الأخرى.
من جهة أخرى، في حال كانت الوظيفة المطلوبة من مجلس الشيوخ الحدّ من هيمنة مجلس النواب وإدخال مقدار من الاعتدال والرويّة في العملية التشريعية، فإن ذلك لا يتحقق في لبنان إلا عبر استحداث مجلس الشيوخ غير طائفي بينما يستمرّ التمثيل الطائفي في مجلس النواب. فالطائفيّة كظاهرة اجتماعية هي حقيقة لا يمكن إنكارها، لا بل هي استفحلت في السنوات الأخيرة بسبب هيمنة الأحزاب الطائفية ما يعني أن الانتخابات التي تعتمد الاقتراع العام المباشر ستؤدي إلى هيمنة تلك الأحزاب على المجلس النيابي. لذلك يكون الهدف من إنشاء مجلس الشيوخ وانتخاب أعضائه وفقا لنظام اقتراع خاص (كالاقتراع غير المباشر مثلا) ايجاد غرفة تشريعية ثانية تساهم في كبح الطائفية المستفحلة لدى النواب وحماية حقوق اللبنانيين كمواطنين والحفاظ على حرياتهم بعيدا عن الاعتبارات الطائفية.
فالحلّ الأول (مجلس شيوخ طائفيّ) هو بعيد المنال ومتناقض إذ يأتي بعد مسارٍ طويل لتخطّي الطائفية، ومن ثم بعد النجاح في تخطّيها يتم تكريسها مجددا في مجلس يعمل من ضمن منطق فيدرالي لا يدوم إلا بالاعتراف بالحقوق السياسية للمكوّنات الفيدرالية. أما الحلّ الثاني (مجلس شيوخ لا طائفي) فهو أكثر واقعية ويمكن تطبيقه اليوم لأنه يعترف بالواقع الطائفي ويسمح بالحفاظ على التوازن السياسي داخل مجلس النواب (الذي يتمتع بصلاحيات أكبر من مجلس الشيوخ) مع تعزيز مفهوم المواطنة في مجلس غير طائفي، وكل ذلك في ظل الإبقاء على الطبيعة الوحدوية للدولة اللبنانية ومن دون الحاجة إلى تبني مقاربات فيدرالية.
كيفية إنشاء مجلس الشيوخ وصلاحياته
نصت المادة 22 من الدستور فقط على إنشاء مجلس الشيوخ عند إلغاء الطائفية في مجلس النواب وحصر صلاحياته في الأمور المصيرية. ولا شكّ أن هذا النص مستغرب إذ هو في الحقيقة عبارة عن اتفاق سياسيّ أقرّه اتفاق الطائف ومن ثم جرى إدراجها في متن الدستور من دون التمعّن في طبيعته القانونية. فهكذا مادة لا ترتب أي نتائج دستورية فعلية لها لأن استحداث مجلس الشيوخ يحتاج إلى تحديد صلاحياته ليس فقط بشكل دقيق لكن لا بدّ من تنظيم علاقته بمجلس النواب وشرح كيفية عمل السلطة التشريعية التي ستصبح ثنائية. كذلك يتوجب تحديد علاقة مجلس الشيوخ بالحكومة ومعرفة ما إذا كانت الحكومة مسؤولة سياسيّا أمامه وتحديد أيضا دوره في مجال تعديل الدستور. وإذا كان رئيس الجمهورية يُنتخب من مجلس النواب، فمن المنطقيّ أن ينتخب رئيس الجمهورية من قبل البرلمان مجتمعا، أي في جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب وهو ما يحصل في كل دول العالم حيث انتخاب رئيس الدولة يتم من قبل البرلمان.
ولا يعقل تخيل استحداث مجلس الشيوخ لا يشارك بالسلطة التشريعية حتى لو كانت صلاحياته أقل من مجلس النواب. فالاختلاف في الصلاحيات بين المجلسين هو أمر مألوف جدا في النظم البرلمانية ولا يمنع مشاركة الغرفتين في العملية التشريعية. لذلك، لا يمكن القول أن المادة 22 حسمت أي نقاش بخصوص مجلس الشيوخ المرتقب لجهة كيفية انتخاب أعضائه أو تحديد صلاحياته لكنها حسمت نقطة واحدة أكيدة من دونها يفقد المجلس أي معنى سياسي ودستوري له، أي ضرورة تمتع المجلس بصلاحيات تشريعية، ما يعني أن البرلمان سيتألف حكما من غرفتين. لكن حتى هذا التحليل يحتمل إعادة النظر إذ لا شيء يفرض على اللبنانيين إنشاء مجلس الشيوخ إذ عند تعديل الدستور قد يكون التوجه إلغاء المادة 22 برمتها والعدول نهائيا عن هذه الفكرة.
من جهة أخرى، تفرض المادة 95 من الدستور قبل "إلغاء الطائفية السياسية" تشكيل هيئة وطنيّة برئاسة رئيس الجمهورية من أجل وضع خطّة مرحليّة يتمّ عرضها على مجلسي النواب والوزراء تمهيدا للوصول إلى هذا الهدف. فضرورة عرض هذه الخطّة على المؤسّسات الدستوريّة يعني أن التدابير المقترحة يتوجّب إقرارُها بالطرق القانونية، إذ أن بعضها قد يتطلب اتخاذ مراسيم فقط، بينما بعضها الآخر قد يحتاج إلى إصدار قوانين وبعضها سيحتاج حتما إلى تعديل دستوري. فمجلس الشيوخ يجب أن يتم مع انتخاب "أول مجلس النواب على أساس وطني لا طائفي" ما يعني أن مجلس الشيوخ لا يمكن أن يوجد قبل تعديل المادة 24 من الدستور التي تفرض توزيع المقاعد طائفيا على النواب. لا بل أن المادة 24 تنص على التمثيل الطائفي "إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي". وبما أن هذا القانون سينفرد مجلس النواب بوضعه فإن ذلك يعني حكما أن مجلس الشيوخ لن يكون له وجود عند سن هذا القانون إذ في حال وجوده يتوجب مشاركته في إقرار القانون المذكور بوصفه شريكا في السلطة التشريعية.
وبما أن التفاصيل تغيب بشكل شبه كامل عن المادة 22، من الممكن اعتماد أي صيغة ممكنة لانتخاب الشيوخ. إذ من غير الضروري أن يقتصر الانتخاب على شيوخ ينتمون إلى الطوائف المعترف بها بل يمكن توسيع التمثيل كي يشمل كل المواطنين الذين لا يريدون تصنيف نفسهم إداريا من ضمن طوائف إذ لا يعقل حرمان هؤلاء من التمثيل وخرق مبدأ المساواة بحجّة عدم تصنيفهم من ضمن طوائف. ولا شكّ أنّ أيّ انتخاب للشيوخ من قبل طوائفهم يجب أن يتمّ وفقا لنظام اقتراع نسبيّ يسمح بالحفاظ على التعددية في تلك الطوائف علما أن فوائد الاقتراع النسبي تتضاءل لدى الطوائف الصغرى أو تنعدم في حال كانت الطائفة لا تحظى إلا بشيخ واحد.
أما المواضيع المصيرية التي يجب حصر صلاحيات مجلس الشيوخ فيها، فهي أيضا مبهمة ومتقلبة وفقا للتعريف الذي يعطى "للعائلات الروحية". فهل هذه العائلات هي الطوائف التاريخية أو هي تقتصر على الأديان الموجودة في لبنان، أي المسيحية والإسلام واليهودية؟ والجواب يحتاج إلى فهم وظيفة مجلس الشيوخ وطبيعة صلاحياته المصيرية. فإذا كان المقصود الأمور التي تتعلق بالطوائف كمجموعات دينية فإن الأمور المصيرية ستشمل فقط كل ما يتعلق بالحريات الدينية والأحوال الشخصية وحرية التعليم. أما إذ كان يتمّ النظر إلى الطوائف كمجموعات سياسية يجب تأمين مشاركتها في السلطة، فإن الأمور المصيرية تتوسع كي تشمل مثلا تعديل الدستور وقانون الانتخابات وقانون الجنسية واللامركزية.
إن كل هذه الاعتبارات لم يتم حسمها وهي مفتوحة للنقاش العام لذلك لا يعقل إقرار هكذا تفاصيل جوهرية من دون إطلاق حملة وطنية تخضع جميع هذه الأمور للبحث والتداول العلني تطبيقا للمادة 95 من الدستور التي تقول بمشاركة شخصيات فكرية واجتماعية، أي جهات من المجتمع المدني، في تحديد المستقبل السياسي للوطن. إذ لا يعقل أن يقتصر التباحث في هكذا موضوع مصيري على الكتل النيابية التي تستخدمه فقط عند الحاجة من أجل تسجيل النقاط أو الابتزاز السياسي أو رفع سقف التفاوض.
في مطلق الأحوال، إنّ أيّ نقاش اليوم في مجلس الشيوخ سيكون من دون جدوى في ظلّ استمرار هيمنة أحزاب الزعماء على المجتمع، لا بل هو قد يؤدّي إلى تعزيز سطوة هؤلاء الذين سيجدون في توزيع مقاعد مجلس الشيوخ فرصة لتوسيع قاعدتهم الزبائنية عبر إرضاء الأتباع ومنحهم الوجاهة التي يطمحون إليها. كذلك قد يساهم هذا النقاش في حرف الأنظار عن مسؤولية نظام الزعماء على الحالة التي وصل إليها لبنان عبر تكرار مقولة التي تجد في الطائفية سبب كل المشاكل وأن الحلّ السحري يكمن في إلغائها. ومن اللافت أن هذه الفكرة هي قديمة جدّا وقد طرحت سنة 1950 عندما كتب محرر جريدة الرواد في عدد 7 آذار من تلك السنة تعليقا على احتمال إنشاء مجلس للشيوخ معتبرا أن الدافع ليس ضرورة المجلس بل "استرضاء أكبر عدد ممكن من الأشخاص" عبر "تخفيف الضغط عن مجلس النواب وتفاديا من زيادة عدد النواب" من خلال انتقال بعض النواب "الإقطاعيين" إلى مجلس الشيوخ "واخلاء مقاعدهم للطامحين إلى النيابة من العناصر القوية التي لا تحصى بين صفوف المعارضة ولكنها ستصبح معارضة مئة في المئة إذا ظلت المقاعد النيابية خاضعة للإقطاعية المسيطرة على اللوائح" في إشارة إلى الزعماء التقليديين. إذ أن شعار مجلس الشيوخ الذي يتكرر دائما في الخطاب السياسي بوصفه من أهم الخطوات الإصلاحية هو في الحقيقة اليوم مجرد وسيلة زبائنية أخرى تضاف إلى الأدوات التي يستخدمها الزعيم لإحكام سيطرته على المجتمع.