اقتراح قانون إعلان حياد لبنان: ليس بالقانون وحده يصنع الحياد
20/06/2025
تقدمت النائبة بولا يعقوبيان بتاريخ 23 أيّار 2025 باقتراح قانون "يرمي إلى إعلان حياد لبنان الدائم"، وينصّ في مادته الأولى على أن "يُعلن لبنان حياده الدائم ويحافظ على هذا الحياد ويدافع عنه بكل ما يملك من وسائل ويسعى للاعتراف به وضمانه دوليًّا، مع عدم الإخلال بحقّ لبنان الطبيعي في الدفاع عن النفس وفقًا لميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي".
وقد عملت الأسباب الموجبة على تعريف الحياد الدائم على أنّه "وضع معترف به في القانون الدولي تعلن الدولة بموجبه وبمحض إرادتها التزامها بالبقاء دائمًا بعيدة عن الحروب والنزاعات المسلّحة مقابل ضمان سلامتها من قبل المجتمع الدولي والقوى الكبرى". وأشارت الأسباب الموجبة إلى أنّ الحياد يأتي من خلال معاهدة دوليّة أو إعلان فردي من الدولة المحايدة ويكرّس دوليًّا "بموافقة أو اتفاقية دوليّة". وتعطي الأسباب الموجبة أمثلة عن بعض الدول التي أقرّت حيادها بقانون كالنمسا أو بإعلان كاللاووس وقد تم الاعتراف بحياد الدولتين دوليًّا.
وقد ذكّرت الأسباب الموجبة بالموجبات المترتبة على الدول المحايدة مثل "عدم الاشتراك بالنزاعات المسلحة" و"عدم تحالفها مع القوى المتحاربة" و"عدم سماحها لتلك القوى باستعمال أرضها ومرافئها وأجوائها ولو اضطرّت في ذلك إلى استخدام القوّة". وأضافت أنّه يقتضي على الدول المحايدة "الابتعاد عن أيّ نفوذ أجنبي لكنها ليست مضطرّة إلى اتباع سياسة نزع السلاح الدائم، بل على العكس من ذلك فهي بحاجة إلى جيش وطني قادر على ردّ أيّ اعتداء خارجي وحماية حيادها وإن تكن القوى الدولية هي الضامن لهذا الحياد وحمايته من كلّ اعتداء".
بالإضافة إلى ما تقدّم، اعتبرت الأسباب الموجبة أنّ لبنان يتميز "بتنوّع عائلاته الروحيّة وبموقعه الجغرافي في منطقة الشرق الأوسط التي تعدّ منطقة ملتهبة بالصراعات بين المحاور والقوى الكبرى" وقد دفع أثمانًا باهظة في صراعات المنطقة. وأنّه جرّاء ما تعرّض له لبنان في الحرب الإسرائيليّة الأخيرة عليه وأمام التطوّرات المتسارعة في سوريا والمنطقة، فإنّ كلّ ذلك قد أثار "الخشية على كيانه ككلّ فبات من الضروري إبعاد لبنان عن صراعات الكبار ومحاورهم حماية له وحفاظًا على وجوده وتأمينًا لاستقراره في خضمّ هذا الجوّ المشحون الذي وضع المنطقة بأسرها فوق صفيح ساخن". وقد ذكّرت الأسباب الموجبة بما اعتبرته مطالبات تاريخيّة ومتعددة للبنان بالحياد أوّلها ما صدر عن مجلس إدارة متصرفيّة جبل لبنان في 10 تموز 1920 الذي تضمّن المطالبة بحياد لبنان السياسي "بحيث لا يُحارِب ولا يُحارَب ويكون بمعزل عن أيّ تدخّل حربي"، بالإضافة إلى أنّ الميثاق الوطني سنة 1943 حمل "مقاربة جديدة للبنان" قامت على الحياد تحت شعار "لا شرق ولا غرب"، وأنّ أسلوب الحياد فرض نفسه بعد أحداث عام 1958، يضاف إلى ذلك انضمام لبنان إلى حركة عدم الانحياز عام 1961. كما كان الرئيس شارل اقترح حيادًا قانونيًّا على الطريقة النمساويّة وقد أيّده في ذلك الرئيس حسين الحسيني، وأنّ المجتمعين في هيئة الحوار الوطني عام 2012 قد خرجوا بنصّ يشتمل على تكريس مبدأ الحياد في إعلان بعبدا وأنّ مجلس الوزراء قد أخذ بفكرة الحياد "بشكل أو بآخر" على حدّ قول الأسباب الموجبة عندما قرر بالإجماع عام 2017 "التزام الحكومة اللبنانيّة بكلّ مكوّناتها السياسيّة النأي بنفسها عن أيّ صراعات أو نزاعات أو حروب أو عن الشؤون الداخليّة للدول العربيّة، حفاظًا على علاقات لبنان الاقتصاديّة والسياسيّة مع أشقّائه العرب".
وفي النهاية، اعتبرت الأسباب الموجبة أنّ حياد لبنان الدائم بحاجة لإطار قانوني ملزم وواضح حيث لا ينفع الاكتفاء بالبيانات. كما أنّ الدستور لا يحمل أيّة أحكام تتناقض مع الحياد "ما يصحّ معه إعلان هذا الحياد بموجب قانون صادر عن مجلس النواب كسلطة اشتراعيّة ممثلة للأمة جمعاء" على أن يجري إبلاغه للأمم المتحدة "للاعتراف به وتأييده بقرار من الجمعيّة العامة للأمم المتحدة أسوة بحالة تركمانستان" ولحشد التأييد له من الدول الكبرى، وأنّ حياد لبنان لا يعني نزع سلاحه أو التخلي عن حقوقه المشروعة بل يتطلب وجود جيش قادر عن الدفاع عن لبنان على أن يتكامل ذلك مع الضمانات التي تقدمها الدول الكبرى في هذا المجال، ومن دون الإخلال بحقّ الدفاع عن النفس كما حدده ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
جرّاء ما تقدّم، لا بدّ أولا من استعراض سريع لمفهوم الحياد وأنواعه ومن ثم إبداء بعض الملاحظات بخصوص تطبيق مفهوم الحياد على لبنان.
الحياد وتعدد أنواعه
إنّ الحياد بالنسبة للدول يعني عدم اشتراكها في النزاعات المسلّحة بين دول متنازعة، ويكون هنالك نزاع مسلّح عندما تعلن دولة الحرب ضدّ دولة أخرى أو تنشب معارك بين الدول. فضلًا عن ذلك، فإنّ تطبيق الحياد يأخذ أشكالاً مختلفةً بحسب الدول، فيعتبر حيادًا دائمًا عندما لا تشترك الدولة المحايدة في أية حرب، لا تعلنها على غيرها وتمنع نفسها من الانزلاق إليها. وهذا حال سويسرا والنمسا على سبيل المثال. وقد يكون الحياد ظرفيًّا أي أنّ دولة ما تقرر البقاء على الحياد في إطار نزاع مسلّح يدور حولها، ولكافة الدول الإمكانية بأخذ هذا الموقف ما لم تكن جزءاً من معاهدة تعاون دفاعيّة. وقد قرر الأردن على سبيل المثال البقاء على الحياد في حرب العراق سنة 1990 فيما شارك في حرب 2003 ضمن تحالف تحت قيادة الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الحياد قد يكون سياسيًّا أي أنّه لا يستند إلى أيّ موجب قانوني يقع على الدولة بل يأخذ طابع الموقف السياسي. وهذه هي حال إيرلندا، حيث يكمن الحياد في قرار الدّولة عدم الدخول في تحالفات دفاعية عسكريّة كحلف شمال الأطلسي مثلًا، بينما تتبّع دول أخرى حيادًا قانونيًّا يأخذ طابع الموجب الدستوري مثل سويسرا والنمسا ومالطا وقد يكون مرفقًا بالتوقيع على معاهدات دوليّة مثل معاهدة لاهاي الصادرة سنة 1907 والمتعلّقة بالحياد.
وقد يترافق الحياد أحيانا في بعض الدول مع نزع سلاحها مثل ما حدث في كوستاريكا، فيما أكثريّة الدول المحايدة تحتفظ بجيوشها بغرض الدفاع عن نفسها ومنع التعرّض لحيادها كسويسرا التي تتمتع بجيش قوي بالنسبة إلى حجمها كدولة[1].
وعلى صعيد القانون الدولي، تمّ تكريس مفهوم الحياد بمعاهدتي لاهاي الخامسة والثالثة عشرة سنة 1907. وقد شهد القانون الدولي منذ ذاك الحين تطوّرًا مستمرًّا على شكل أعراف دوليّة متأتية من ممارسات الدول المحايدة بحيث بات بالامكان تحديد حقوق وواجبات هذه الدول. فمن حقوق الدولة المحايدة، عدم التعرّض لأراضيها من قبل الدول المتنازعة بأي شكل من الأشكال وعدم استخدام إقليمها البري والبحري والجوي من أجل نقل الجنود والعتاد الحربي. ويحقّ للدولة المحايدة الحفاظ على حريّة دورتها الاقتصادية على ألّا يكون ذلك لأغراض عسكريّة، كما يحقّ لها تأمين سلامتها حتّى من خلال الوسائل العسكريّة.
أمّا واجبات الدولة المحايدة فهي الامتناع عن وضع أراضيها بتصرّف الدول المتنازعة، بالإضافة إلى واجبها في السهر على ضمان عدم التعرّض لأراضيها ضمن حدود إمكانياتها. ويمنع على الدولة المحايدة أن توفّر مساندة عسكريّة في إطار نزاع مسلّح. كما يمنع عليها تسليم مواد تستخدم لأغراض عسكريّة تأتي بها من مخزونها كدولة. وتتحمل الدول المحايدة موجب تأمين العدالة بين المتنازعين إذ يطلب منها احترام التوازن في حال قررت وضع موانع على تصدير أشخاص القانون الخاص لمواد تستعمل لأغراض عسكريّة[2].
الحياد في مجتمعات تعدديّة كلبنان
يعتبر ارند ليبهارت وهو من أهم المنظرين لمبدأ الديمقراطية التوافقية، أنّ الحياد يعتبر ملائمًا للمجتمعات التعدديّة لأنّه يؤدي إلى تخفيف الحمل عن السلطة المركزية في اتّخاذ قرارات إشكالية تجلبها الاصطفافات الخارجيّة[3]. ولا شكّ أنّ تركيبة لبنان المجتمعيّة المتعددة أفسحت في المجال أمام تدخلات أجنبيّة متعددة خلال تاريخه الحديث، إذ انقسم اللبنانيون إلى تيارات متعددت قالت بالوحدة السورية أو العربية أو المطالبة بحماية غربية فضلا عن الانقسام حول دور لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي وموقفه من القضية الفلسطينية.
لكن التنوع الطائفي لا يعني بالضرورة فتح البلاد أمام النفوذ الخارجي كون هذا الأمر لا يتم إلا في ظل وجود دولة ضعيفة بحيث تستغل الأحزاب الطائفية هذا الواقع من أجل استدعاء القوى الخارجية من أجل تعزيز سيطرتها على المجتمع وضمان مصالحها في الدولة. وبالتالي لا يمكن الكلام عن حياد إلا في مجتمعات نجحت في بناء دولة قوية ووصلت إلى قناعة بأن حماية التنوع في شقيه السياسي والمجتمعي يتطلب كشرط مسبق وجود دولة قانون تضمن حقوق الجميع بحيث لا تجد القوى الخارجية أي ذريعة تسمح لها باستغلال التنوع من أجل التدخل في شؤون تلك الدولة.
جرّاء ما تقدم، يتبين أن للاقتراح مبررات نظرية عندما يقرن بين التعددية في لبنان وضرورة الحياد. لكن لا يعقل أن يكون الحياد مجرد نتيجة لإقرار قانون بذلك من خارج أي سياق يؤدي إلى بناء توافق داخلي حول ضرورته، وتعزيز قدرات الدولة وتمكينها من القيام بدورها للدفاع عن المجتمع. لذلك، وكي يكتسب هذا الاقتراح مقدارا من الجدية، لا بدّ من دراسة حياد لبنان انطلاقا من مسألتين تشكلان الركائز الأساسيّة لأيّ حياد حقيقي وثابت ألا وهما: موافقة غالبيّة اللبنانيّين على الحياد، وموافقة الدول المجاورة للبنان على حياده وقدرة لبنان على حماية حياده بنفسه.
موافقة اللبنانيين على الحياد
إنّ الإجماع الداخلي يشكّل إحدى الركائز الأساسيّة لحياد أيّ دولة. وفي هذا الإطار تشكّل سويسرا والنمسا مثلًا معبّرًا حيث أنّ 97٪ من السويسرانيين يؤيّدون حياد بلادهم[4] فيما 70% من النسماويين يعتبرون حياد بلادهم مهمّا جدًّا لهم[5]. أمّا في لبنان، فإنّ ردّات الفعل على مسألة الحياد مختلفة جدًا، منها المساند بشكل قوي له تحت شعار النأي بالنفس عن مشاكل المنطقة لا سيما الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والانخراط ضمن محاور إقليمية، ومنها الرافض تحت شعار استحالة الحياد في ظلّ وجود العدو الإسرائيلي على الحدود واحتلاله أجزاء إضافيّة من الأراضي اللبنانيّة وتهديد يومي لكامل جنوب لبنان بعد الحرب الأخيرة التي اندلعت في أيلول 2024.
وهكذا يصبح جليّا أنّ الحياد يحتاج إلى قناعة راسخة يتمّ تشييدها على قواعد متينة ولا يمكن أن يحصل في ظل نظام سياسي تهيمن عليه الزعامات التي تعمل على إضعاف الدولة والإبقاء على الانقسام الطائفي عبر التحريض والزبائنية. وبالتالي، فإنّ الخلاف بين اللبنانيين حول نظرتهم إلى موقع لبنان ودوره الإقليمي يتم استغلاله من قبل الأحزاب الطائفية التي تجعل من العلاقات الدولية مجرّد وجهة نظر أو تكتيك سياسي من أجل تعزيز نفوذها في الداخل بينما يتم منع المؤسسات الدستورية من حسم هذه الأمور وفقا لمصالح الدولة. فالحياد يحتاج إلى توافق شعبيّ حوله، وهذا لا يتمّ عبر اقتراح قانون لكن عبر بناء شرعية سياسية ترى في الحياد مصلحة للوطن وتجد في الدولة الوسيلة للحفاظ على هذه المصلحة.
هل دول الإقليم مقتنعة بضرورة حياد لبنان؟
لا يكفي إعلان الدولة حيادها كي تحمي نفسها من الصراعات الإقليمية والدولية، لكن يجب أن تتمكن أيضا من فرض احترام هذا الحياد على الدول المحيطة بها. وهكذا يتبين مجددا أن الحياد لا يحتاج فقط إلى تحصين داخلي من أجل منح الدولة الشرعية المطلوبة لاتخاذ كل القرارات في مجال العلاقات الدولية، لكن أيضا تعزيز قدرات الدولة الخارجية عبر الصّعد الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية كافّة.
فالاقتراح يكتفي بإعلان حياد لبنان ويفرض على الدولة العمل على الحفاظ عليه والدفاع عنه، وكأن هذا الإعلان يكفي بينما موقع لبنان الجغرافي يضعه على تماس مع دولة إسرائيل التي لم تعد تجد أيّ حرج في خرق كل قواعد القانون الدولي، هذا فضلا عن انتهاكها اليومي للقانون الدولي الإنساني في حربها المفتوحة على غزة، وصولا إلى ارتكاب أخطر الانتهاكات: الإبادة الجماعية. فإذا كانت إسرائيل لا تأبه بالقانون الدولي وقرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، هل يعقل أن تحترم حياد لبنان بمجرد إقرار هذا الاقتراح في مجلس النواب؟
والتحليل نفسه ينطبق على النظام الحاكم في سوريا سواء كان النظام القديم أو النظام الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع. فوجود دولة ضعيفة في لبنان تهيمن عليها مجموعة من الزعماء هو في الحقيقة دعوة لأي نظام حاكم في سوريا كي يعمل على تعزيز مصالحه عبر التدخل في شؤون لبنان الداخلية.
من البديهي أن الحياد يتطلب قدرة الدولة على حماية هذا الحياد عبر السيطرة على حدودها بشكل فعال لكي تتمكن من منع نقل السلاح أو استخدام أراضيها للهجوم على دول مجاورة. ويتطلب الحياد احتكار الدولة للعنف المسلح، وسيطرتها الكاملة على إقليمها، أي أن الحياد هو في الحقيقة انعكاس لسيادة الدولة. ولا شك أن كل هذه العناصر تحتاج إلى قدرات بشرية ومادية كبيرة لا يمكن حشدها إلا ضمن إطار دولة حديثة يكون الحياد النتيجة النهائية لها وليس نقطة انطلاق نظرية يتمّ تكريسها في قانون منفصل كليا عن الواقع.
في مطلق الأحوال، إن الحياد يصبح صعبا جدا في محيط إقليمي تهيمن عليه دول غير ديمقراطية ولا تقيم وزنا للقانون الدولي. لذلك، لا يمكن الاكتفاء إطلاقا بإعلان حياد لبنان عبر قانون إذ أن الشرط الجوهري كي يتمكن لبنان من فرض احترام الحياد على الدول المحيطة به وجود دولة تحظى بالاحترام على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهو أمر لا يمكن أن يتمّ في ظل هيمنة النظام السياسي الحالي على المجتمع.
كذلك يتطلب الحياد اقتناع الدول المجاورة بأن الحفاظ على حياد لبنان هو في مصلحتها أيضا من أجل الإبقاء على التوازن بين القوى الإقليمية بحيث يؤدي التدخل في شؤون لبنان إلى الإخلال بهذا التوازن ما يعرّض مصالح تلك القوى للتهديد. ولا شكّ أنّ هذا الأمر يتطلّب سلطة سياسيّة قادرة على تنفيذ قراراتها والالتزام بتعهدّاتها أمام المجتمع الدولي، وهذا لا يمكن أن يوجد إلا في دولة تشكل مؤسساتها الدستورية المرجع الوحيد لكل القرارات والسياسات العامة لا سيما قرار الحرب والسلم. لا بل أن الحياد في الدول التعددية التي تقوم على الديمقراطية التوافقية قد يتمّ فرضها من قبل الدول الكبرى، لأن النزاع الذي قد يندلع في هذه الدول التعددية قد تكون له تداعيات إقليميّة تهدد التوازن الدولي[6].
هل يمكن إقرار الحياد بمبادرة نيابيّة فرديّة؟
إنّ العلاقات الدوليّة في معظم الدول الديمقراطيّة هي من مسؤوليّة السلطة التنفيذيّة، وفي لبنان كذلك حيث المادة 52 من الدستور تنص على أنّ رئيس الجمهوريّة هو من يتولّى المفاوضات "في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة. وتصبح مبرمة بعد موافقة مجلس الوزراء." وبما أن الحياد هو أوّلًا مسألة تتعلّق بالعلاقات الدوليّة، فهو يدخل بالتّالي في صلب مهامّ الحكومة التي لها أن ترسم سياسة الدولة مع الدول المحيطة بها، وأن تحدّد موقف لبنان من الصراعات الدوليّة، كما لها في حال سارت بفكرة الحياد أن تقوم من خلال القنوات الديبلوماسيّة الرسميّة بتأمين الدعم الإقليمي والدولي له.
بالتالي، فإنّ التقدم باقتراح قانون من قبل نائبة منفردة بهدف إقرار حياد الدولة يخالف المنطق الدستوري السليم إذ إنّه يستبعد الحكومة التي لها دور جوهري في هذه المسألة لا يمكن تخطّيه. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ إقرار هكذا قانون قد يعتبر انتقاصا من صلاحيات الحكومة في مجال العلاقات الدولية، هذا فضلا عن أن إقرار مبدأ الحياد من دون تأمين الشروط الضرورية لنجاحه، وهي شروط تدخل كليا في صلاحيات السلطة التنفيذية، قد ينتهي الأمر به إلى أن يكون مجرّد إعلان نوايا من دون وجود أي إمكانيّة فعليّة لتطبيقه.
هل القانون هو الوسيلة الفضلى لتثبيت حياد الدولة؟
في بحث حول الدول المحايدة مثل سويسرا والنمسا، يتبيّن بشكل واضح أنّ إعلان الحياد حصل بعد المرور بمسار سياسيّ وفي لحظة تاريخيّة مؤاتيّة. وقد تمّ تكريس هذا الحياد لاحقا في الدستور أو في الاتفاقيات الدوليّة. فعلى سبيل المثال، تمّ في النمسا إدخال الحياد في الدستور سنة 1955 كنتيجة للاتفاقيّة حول استقلال النمسا التي وقّعتها الدول التي كانت تحتلّها عقب الحرب العالميّة الثانية وهي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والاتحاد السوفياتي، وقد انضمّت فيما بعد يوغوسلافيا إلى الموقعين. أمّا سويسرا فبدأ مسار قوننة حيادها في الزمن المعاصر حينما توحّدت في كونفيديراليّة كانتونات سنة 1815 عقب الحروب النابوليونيّة، ومن ثمّ أتى مؤتمر فيينا في السنة عينها ليعترف بهذا الحياد ومن بعده معاهدة باريس أيضًا في سنة 1815 لتثبيته. وقد تمّ تكريس ذلك في الدستور السويسري الأول سنة 1848 عندما انتقلت هذه البلاد من كونفيديراليّة كانتونات إلى دولة فيديراليّة.
انطلاقًا ممّا تقدّم، لا بدّ من الملاحظة أنّ الدولة التي أدخلت مسألة الحياد إلى هيكلتها القانونيّة قد عدّلت دساتيرها ووقّعت على اتفاقات دوليّة من أجل ذلك. ومردّ ذلك هو أنّ القانون العادي يخضع بسهولة للتقلّبات السياسيّة مع تغيّر الأكثريات البرلمانيّة. لذلك لا يمكن أن يكون مبدأ الحياد، الذي يشكّل ركيزة أساسيّة في سياسات الدولة، معرّضًا في أي لحظة إلى التغيير.
إنّ هذا التثبيت للحياد في الدساتير يتلاءم بشكل واضح مع طبيعة الديمقراطيات التوافقية، إذ أنّه يشكّل ضمانة لكافة مكونات المجتمع على غرار الضمانات الدستورية الأخرى مثل التشاركيّة في الحكم. لذا، فإنّ إعلان الحياد في لبنان، نظرًا إلى مستوى التوافق الذي يتطلّبه بين أطراف المجتمع كافة، وإلى ضرورة تحصينه بوجه التقلبات السياسية والتحالفات العابرة بين الأحزاب، لا بدّ من أن يتمّ تكريسه في الدستور وليس بمجرد قانون عادي.
خلاصة
في الخلاصة، يتلاءم ربما الحياد مع طبيعة المجتمع التعدديّ اللبناني، وقد يكون شرطا ضروريا للحفاظ على استقرار النظام السياسي. ولا شكّ أنّ الحياد يتجلّى على صعد مختلفة إذ هو قد يكون موقفا أخلاقيا أو سياسيا أو عسكريا. فعلى الصعيد الأخلاقي قد يكون الحياد مدانًا إذ لا يمكن الوقوف على مسافة واحدة والمساواة بين المجرم والضحية، وبين مرتكب المجازر والشعب الذي يتعرض لها. لكن الحياد في العلاقات الدولية قد تفرضه الواقعية السياسية بحيث يكون الوسيلة الوحيدة للحفاظ على مصالح الدولة. لكن حتى الدول التي تفرض مصالحها عليها الالتزام بالحياد قد تتمكن من لعب دور دبلوماسيّ لا يتوافق مع الحياد عبر تأييد قضية عادلة والدفاع عنها في المحافل الدولية. فالحياد الحقيقي المطلوب هو الحياد العسكري، أي عدم انخراط الدولة في نزاعات مسلحة لا طاقة لها على تحمل تكلفتها بسبب الانقسام الداخلي حولها أو التفاوت العسكرى المهول بينها وبين الدول الأخرى. وهذا ما قد يكون واقع لبنان، مع وجوب التركيز دائما أن تبنّي الحياد العسكري لا يعني بالضرورة الحياد الأخلاقي والسياسي بل هو نتيجة لعدم قدرة لبنان على الدخول في نزاع مسلح مع القوى الإقليمية.
وهكذا يصبح جليا أن الاقتراح ربما يهدف نظريا إلى تحقيق غاية مشروعة تصب في مصلحة لبنان لكنه يبقى منفصلا بالكامل عن الشروط الموضوعية التي تجعل من هذا الحياد حقيقة وليس مجرد شعارات تدخل ضمن منطق التنافس السياسي بين الكتل البرلمانية. فالحياد يحتاج أولا إلى دولة تبنيه وتحميه، وإلى مجتمع مقتنع بضرورته للحفاظ على مصالحه.
[1] “Clarté et orientation de la politique de neutralité”, Rapport du Conseil fédéral en réponse au postulat 22.3385 de la Commission de politique extérieure du Conseil des États du 11 avril 2022, 22 octobre 2022, Conseil Fédéral suisse, p.2.
[2] “Clarté et orientation de la politique de neutralité”, op. cit., p.5
[3] Jürg Steiner et Jeffrey Obler, Does the Consociational Theory Really Holds for Switzerland ?, p.337-338, cité par Arend Lijphart, Power-Sharing in South Africa, p.94
[4] “Clarté et orientation de la politique de neutralité”, op. cit., p.3
[5] https://de.statista.com/statistik/daten/studie/992825/umfrage/wichtigkeit-der-neutralitaet-in-oesterreich/
[6] “La neutralité a été imposée aux quatre démocraties consociatives européennes, en un temps ou un autre, par un accord clair ou implicite des grands Etats étrangers. Arend Lijphart écrit: «Si un petit État est une société plurale, sa dimension et sa nature plurale, qui conduisent à un conflit interne se répercutant sur la scène internationale, accroissent en même temps les chances de neutralité et même l'imposent ». Gerhard Lehmbruch va plus loin: « La sauvegarde de l'équilibre interne impose un allégement des demandes extérieures sur le système politique ».” Messarra Antoine Nasri, “Le modèle politique libanais et sa survie, essai sur la classification et l’aménagement d’un système consociatif”, Publications de l’Université libanaise, Beyrouth 1983, p.466.