اقتراح لتحسين التمثيل الطائفي لقرى صيدا: الطائفية ليست المعيار الوحيد لعدالة التمثيل النيابي
29/10/2025
تقدم النائب شربل مسعد باقتراح قانون معجل مكرر بتاريخ 9 أيلول 2025 يرمي إلى "تعديل التقسيم الانتخابي وضمّ قرى قضاء صيدا ذات الغالبيّة المسيحيّة إلى دائرة الجنوب الأولى (صيدا-جزين)".
وينصّ هذا الاقتراح في مادته الوحيدة على أن "تعدّل الفقرة المتعلقة بتقسيم الدوائر الانتخابيّة في الجنوب، بحيث تضمّ" القرى التي يعددها الاقتراح "إلى دائرة الجنوب الأولى (صيدا-جزين)". أمّا القرى هذه فهي مغدوشة وعبرا والهلالية ومجدليون وكفريا والقرية وعين الدلب والمية ومية ودرب السيم وطنبوريت وبرتي والبرامية والحجة وعقتانيت والعدوسية والصالحية والمعمرية وكفرشلال وجنجلايا وبقسطه.
كذلك ينص الاقتراح على أن تعتبر هذه القرى "جزءًا من دائرة الجنوب الأولى في كل الاستحقاقات النيابية المقبلة، ويتمّ اعتمادها في لوائح الشطب والفرز وفقًا لذلك". بالإضافة إلى ذلك، يعدلّ الاقتراح "عدد مقاعد النواب المخصص لدائرة الجنوب الأولى ليصبح ستة نواب موزعين على الشكل الآتي : نواب سنة (2)، نواب موارنة (2)، نواب كاثوليك (2)".
وقد شددت الأسباب الموجبة على أنّ "قرى شرق صيدا ترتبط عضويًّا بمدينة صيدا وجزين من حيث الامتداد الجغرافي، والحركة الاقتصاديّة والعلاقات الاجتماعيّة" إلّا أنّ "الواقع الحالي يحرم هذه القرى من تمثيل سياسي متوازن يعكس خصوصيتها وهويتها وتفاعلها التاريخي مع صيدا وجزين". وأشارت الأسباب الموجبة أيضا أنّ "الهدف الأساس هو تعزيز مبدأ العيش المشترك والتمثيل العادل المتوازن بين مختلف المكونات اللبنانية" وبالتالي فإنّه "من واجب الدولة أن تعيد النظر في بعض الحدود الانتخابية بما يحقق العدالة التمثيليّة ويحافظ على خصوصيّة كلّ منطقة".
بناء على ما تقدّم، يجدر إبداء الملاحظات التالية :
مراجعة أرقام الانتخابات تظهر مشاكل التمثيل
لا يخفي الاقتراح الهواجس الطائفية التي ينطلق منها وهو يطرح إشكاليات حقيقية تتعلق بطبيعة التمثيل السياسي في لبنان، لذلك لا بد من استعراض نتائج الانتخابات الأخيرة بالأرقام أولا من أجل تبيان حقيقة المشكلة التي يريد الاقتراح معالجتها.
في مراجعة لنتائج الانتخابات النيابيّة التي حصلت في أيّار 2022 في دائرة الجنوب الثانية التي تضمّ صور وقرى صيدا-الزهراني، يتبيّن وجود فوارق كبيرة في توزيع الأصوات التفضيليّة بين المرشحين عن مقعد الروم الكاثوليك في مختلف اللوائح. إلّا أنّ المرشح الذي فاز في المقعد هو الذي نال العدد الأدنى من هذه الأصوات التفضيليّة. إذ إنّ المرشح عن لائحة القرار الحرّ روبير ملحم كنعان قد نال 4238 صوتًا تفضيليًّا والمرشح عن لائحة معًا للتغيير هشام بولص حايك قد نال 3987، غير أنّ المرشح الفائز كان النائب ميشال موسى عن لائحة الأمل والوفاء التابعة لحركة أمل ب1364 صوتًا تفضيليًّا فقط. وللمفارقة فإنّ النائب ميشال موسى قد احتفظ بهذا المقعد النيابي منذ أن فاز فيه لأوّل مرّة عام 1992 حتّى اليوم، وذلك مع اختلاف القوانين الانتخابيّة التي جرت الانتخابات على أساسها.
ويعود ذلك إلى ترشح النائب موسى على لائحة الرئيس نبيه برّي، الذي ضمن لنفسه فوز لائحته كاملة في كلّ الاستحقاقات إن كان على أساس النظام الانتخابي الأكثري أو النسبي، وقد عزّز تقسيم الدوائر، لا سيّما ضمّ قرى صيدا ذات الأغلبية المسيحيّة إلى دائرة الجنوب الثانية مع قرى صور في القانون النسبي الحالي، من إبقاء مقعد الروم الكاثوليك تحت سيطرة الزعيم الأقوى في تلك المنطقة أي الرئيس نبيه برّي. فالأرقام تشير أيضًا إلى أنّ الحاصل الانتخابي المرتفع الذي بلغ 23297.571 صوتًا في هذه الدائرة لم يسمح لأيّة لائحة بالتأهّل لمرحلة توزيع المقاعد إلّا لائحة الرئيس برّي التي نالت 138242 صوتًا.
يضاف إلى ذلك أنّ الحاصل الأوّلي في دائرة الجنوب الأولى بلغ في الانتخابات الماضية 12258 صوتًا ما مكّن لائحتين من التأهّل إلى مرحلة توزيع المقاعد هما لائحة وحدتنا في صيدا وجزين ب13948 صوتًا وننتخب للتغيير ب 18783 صوتًا. علمًا أنّ لائحتين أخريين كانتا قد اقتربتا من الحاصل وهما لائحة الإعتدال قوتنا ب 11719 صوتًا ومعًا لصيدا وجزين ب 9846 صوتًا. بالتالي، فإنّ الحاصل المنخفض في هذه الدائرة بالنسبة إلى دائرة الجنوب الثانية وغياب هيمنة جهة حزبيّة واحدة عليها يجعل من دائرة صيدا وجزين مساحة تنافس أفضل بين المرشحين، توفّر حظوظًا أكبر لإيصال أصوات الناخبين في قرى صيدا وتمكينهم من التأثير على هويّة الفائر عن مقعد الروم الكاثوليك.
وهكذا يتبين أن حتى نظام الاقتراع النسبي الذي جرى تبنيه سنة 2017 من أجل تأمين عدالة التمثيل فشل في دائرة الجنوب الثانية من تمكين المواطنين الذين يرفضون هيمنة الزعيم من إيصال ممثلين عنهم، وهي مشكلة لا تتعلق فقط بحسن التمثيل الطائفي لكنها تعكس خللا عاما في النظام السياسي الذي يحد من قدرة اللبنانيين بغض النظر عن انتمائهم الطائفي، على التحرر من هيمنة أحزاب السلطة وسطوتها على مختلف الدوائر الانتخابية.
وحدة معايير تقسيم الدوائر
يشير المجلس الدستوري في قراره رقم 4 الصادر في السابع من آب 1996 الذي قضى بإبطال بعض مواد قانون الانتخابات، إلى أنّ المجلس النيابي ملزم عند وضعه قانون الانتخابات النيابيّة باحترام الدستور لا سيّما مبدأ المساواة المنصوص عليه في مقدمته. وبالتالي اعتبر المجلس الدستوري أنّه بالنسبة إلى تقسيم الدوائر الانتخابيّة، فإنّ "القانون يجب أن يكون واحدًا لجميع المواطنين، انطلاقًا من مبدأ إعطاء كل صوت القيمة الاقتراعيّة ذاتها في مختلف الدوائر الانتخابيّة، ومن خلال المساواة في محتوى قانون الانتخاب بالنسبة إلى تقسيم هذه الدوائر". وأضاف أنّ "صدقيّة النظام التمثيلي لا تتوقف فقط عند المساواة في حق التصويت، بل وترتكز أيضًا على قاعدة تقسيم للدوائر الانتخابيّة تكون ضامنة للمساواة في التمثيل السياسي".
وقد أعلن المجلس الدستوري في قراره المذكور "أن المبدأ الأساسي في تقسيم الدوائر الانتخابيّة والتمثيل السياسي يجب أن ينطلق، بصورة مبدئيّة، من قاعدة ديموغرافيّة حتى يتحقق التمثيل الصحيح للإقليم والمواطنين"، إلّا أنّه أشار أيضًا أنّ هذه القاعدة ليست "مطلقة، إذ يبقى للمشرّع أن يأخذ بعين الاعتبار مقتضيات المصلحة العامة التي من شأنها التخفيف من قوة هذه القاعدة الأساسيّة، كما يمكنه، بصورة ضيّقة، الخروج عن تطبيق مبدأ المساواة، مراعاة لأوضاع وظروف خاصة واستثنائيّة".
إنطلاقًا مما تقدّم، لا بدّ من الملاحظة أنّ القانون الانتخابي الحالي يعتمد القضاء في تقسيم الدوائر الصغرى الانتخابيّة مثل جبيل وكسروان والمتن وبشري والكورة، لكنه يشذ عن ذلك في أماكن أخرى إذ يجمع بين قضاءين مثل مرجعيون وحاصبيا، أو يفصل مدينة صيدا عن عن سائر القرى التي يتألف منها قضاء صيدا.
ولا شك أن فصل قرى صيدا (الزهراني) عن مدينة صيدا وبتر القضاء الواحد بهذه الطريقة يؤدي إلى الإخلال بمبدأ وحدة المعايير الذي أكده المجلس الدستوري ولا يمكن تفسير هذا الأمر إلا لضرورات تتعلق بالتمثيل الطائفي الخاص لمدينة صيدا. وبالتالي يصبح هذا الوضع الاستثنائي الذي تم تكريسه لسنوات طويلة مبررا من أجل تبني استثناء جديد قوامه فصل بعض قرى صيدا ذات الأغلبية المسيحية عن دائرة الجنوب الثانية (صور-الزهراني) وإلحاقها بدائرة الجنوب الأولى (مدينة صيدا-جزين).
وهكذا يتبين أن الاقتراح يطرح في الحقيقة إشكالية دستورية كبرى تتعلق بتحديد ما هو المعيار الواجب اتباعه لتأمين صحة التمثيل. فالملاحظ أن قوانين الانتخابات بشكل عام، ومن بينها القانون النافذ حاليا، تتردد في تبني معيار واحد لكنها تتذبذب بين المعيار الجغرافي الذي ينطلق من القضاء كوحدة إدارية أساسية من أجل تقسيم الدوائر الانتخابية، والمعيار الطائفي الذي لا يتوافق دائما مع هذه الوحدة الإدارية. لذلك لا بد من الاعتراف بأن ما نصّ عليه المجلس الدستوري لجهة أن يكون تقسيم الدوائر ضامن "للمساواة في التمثيل السياسي"، يغيب عن دائرة الجنوب الثانية بالنسبة لمقعد الروم الكاثوليك نظرًا إلى وجود مشكلة تمثيليّة واضحة بخصوص هذا المقعد، لا سيّما وأنّ القرى التي يعددها الاقتراح هي قريبة جغرافيًّا من مدينة صيدا وتمتدّ على طول الطريق المؤدّي من صيدا إلى جزين، ما يعزز فكرة ضمّها إلى دائرة الجنوب الأولى طالما أن قضاء صيدا نفسه لا وجود له كدائرة انتخابية واحدة.
في الخلاصة، يبدو جليا أن الإشكالية التي يطرحها هذا الاقتراح لا تقتصر على واقع الحال في قضاء صيدا لكنها تتعلق بطبيعة النظام السياسي برمته في لبنان. وعلى الرغم من أن المادة 27 من الدستور اللبناني تنص على أن النائب يمثل "الأمة جمعاء" لكن الأحزاب المهيمنة على مجلس النواب باتت تنظر إلى النائب كممثل عن طائفته وتنتظر من الجميع أن يقر لها بهذه الحقيقة ما يمنحها حصانة سياسية يصعب تخطيها، علما أن إصلاح التمثيل النيابي في لبنان لا يجب أن يقتصر على الاعتبارات الطائفية لأن تحرير بعض قرى صيدا من هيمنة زعيم معين لا يعني تحريرا من سطوة سائر الزعماء وإن كانوا ينتمون إلى الطائفة نفسها، لكن تأمين حسن التمثيل لا يمكن أن يتم من دون تحرير كل الدوائر الانتخابية من سطوة الزعماء وشبكة العلاقات الزبائنية التي تمكنوا من إقامتها خلال عقود من الهيمنة.