تساؤلات مشروعة حول قرض البنك الدولي: 200 مليون دولار تموّل مشروع التحوّل الأخضر
27/06/2025
دعيت الهيئة العامة لمجلس النواب للانعقاد في 30 حزيران القادم، ومن أبرز البنود المدرجة على جدول أعمالها، مشروع الحكومة الرامي إلى الموافقة على إبرام اتفاقية قرض من البنك الدولي للإنشاء والتعمير. وقد بلغت قيمة القرض 200 مليون دولار أميركي، وهو يهدف لتمويل مشروع التحوّل الأخضر للأغذية الزراعية في سبيل التعافي الاقتصادي - GATE. وكانت اللجان المشتركة قد أقرت في تاريخ 19 حزيران المنصرم، الاقتراح مع توصية بإقراره "كما هو".
وللإحاطة بالغاية من القرض، تواصلت المفكّرة القانونية مع وزير الزراعة د. نزار هاني، الذي أفادنا بأن مشروع التحوّل الأخضر يهدف إلى تحسين قدرة المزارعين والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في قطاع الأغذية الزراعية اللبناني على الصمود، وأن السبب الرئيسي لتمويل القطاع الزراعي، يتمثّل في "بناء الأمن الغذائي وإعادة ثقة المزارعين والمستثمرين في القطاع وخلق فرص عمل جديدة." وأن الإستثمار يغدو ملحاً، إذ تم رصد "أكثر من 37% من السكان يعيشون حالة انعدام أمن غذائيّ حادّ، وأنّ نسب الفقر والهشاشة ترتفع بصورة غير متناسبة في بعلبك-الهرمل وعكار والجنوب"، وفق معطيات الوزير.
ويضيف هاني أنّ "انهيار البنى التحتية والخدمات العامّة أدّت إلى تقويض قدرة المزارعين على الإنتاج والتسويق". إضافة إلى أن تلوّث المياه والتربة وتهالك شبكات الري تُقْوِض استدامة الإنتاج. ويشير هاني إلى أن انعدام الملاءة في القطاع المصرفي، حالت دون حصول المزارعين والمستثمرين على التمويل، وأن: "أكثر من 450 مليون دولار من إمكانات لبنان التصديرية غير مستغَلّة، بسبب ضعف المعايير والبنية التحتية الرقابية". ويوجز هاني أن "التمويل الدولي للقطاع لا يتجاوز 40 مليون دولار سنوياً ــــ أي نحو 1.5 في المئة من الناتج الزراعي، ما يكشف عن فجوة تمويلية هائلة".
وعليه يأتي التمويل المُقترَح، وفق معطيات هاني لمعالجة "ضعف الاستثمارات الخاصة، عبر تحسين سلامة الغذاء، ودعم البنى التحتية الريفية، وتقديم خدمات إرشادية ومالية متخصصة، وصولاً إلى زيادة القدرة التنافسية وتوليد موارد إضافية للاقتصاد الوطني"، فضلا عن تشجيع اعتماد التقنيات الذكية بهدف "رفع الإنتاجية وتقليص الأثر البيئي السلبي."
وفق ما أفادنا به هاني، "سينفذّ المشروع على نطاق وطني شامل، ومن المتوقّع أن يستفيد نحو 80,000 مزارع بشكل مباشر من خدمات الإرشاد الرقمي. وأن المشروع سيسهم في الحفاظ على مصادر رزق أكثر من 22,000 مزارع وعامل، وخلق حوالي 2,200 فرصة عمل جديدة. حيث سيشارك حوالي 15,000 مزارع في تدريبات على الممارسات الزراعية الذكية، وسيطال المشروع 450 مجموعة مزارعين تضم ما لا يقل عن 6,750 عضواً، بالإضافة إلى 700 مزارعا فرديا سيستفيدون من دعم مالي مباشر. كما ستستفيد 390 مؤسسة صغيرة ومتوسطة تعمل مع ما يقارب 7,800 مزارع من الوصول إلى التمويل عبر تسهيلات قروض، وسيتم تحصين 9,900 رأس ماشية ضمن حملة وطنية. وسيستفيد حوالي 17,000 مزارع من تحسينات تشمل شبكات الري، والطرق الريفية، والبنى التحتية الزراعية، بما في ذلك مراكز عرض المنتجات الزراعية. كذلك، يُتوقع أن تستفيد نحو 110 بلديات من تحسين في الخدمات والبنى التحتية."
ولا شكّ أن القطاع الزراعي كسواه في لبنان، يحتاج إلى التمويل وإلى تحريك عجلته بعد الأزمات المتتالية الاقتصادية والبيئية والأمنية والسياسية والحروب التي شلّت معظم مفاصل البلاد. إلا أنه يبقى أن القرض الحالي يثير مخاوف عدة وبخاصة على ضوء التجارب الدولية، يجدر التوقف عندها. ففي موازاة الصورة الواعدة التي تبثّها وزارة الزراعة، رصدت المفكّرة في مقابلاتها مع ائتلاف الزراعة البيئية في لبنان وعدد من المزارعين وأصحاب الاختصاصات والخبرات العلمية والأكاديمية والزراعية والبيئية والجمعيات المعنية بالزراعة البيئية والسيادة الغذائية، هواجس عدة حول النتائج المرتقبة من القرض.
وقبل عرض هذه الهواجس، يسجّل أن بعض هؤلاء الخبراء سجّلوا إيجابيات، قوامها تنظيم العمل التعاوني للمزارعين وتطوير الإرشاد الرقمي من جهة ودعم صغار المزارعين وتأهيل البنية التحتية من جهة أخرى ولكنها إيجابيات لا تحقق الغرض منها من دون الالتزام بمعايير السيادة الغذائية.
الهواجس التي يثيرها القرض
أبرز الهواجس التي تم تسجيلها في مقابلة ائتلاف الزراعة البيئية في لبنان وعدد من الخبراء، هي الآتية:
1. وقوع لبنان مجددا في مصيدة القروض، وشروطها الصارمة التي تقوّض سيادته، عوض البحث عن البدائل الداعمة وعلى ضوء استراتيجيات وطنية واضحة.
وثمة مخاوف من أن تؤول أعباء هذا القرض إلى فرض مزيد من القيود على لبنان، في حين يستفيد منه أساسا كبار المستثمرين أو المزارعين أو اللاعبين الكبار في النظام الغذائي. وهنا توضح الخبيرة في العدالة البيئية والإجتماعية كورين جبّور للمفكّرة، أن القروض الكبيرة من مؤسسات مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، تاريخياً، وفي حالات عديدة، كانت مصحوبة بشروط وخطط للتكيّف الهيكلي Structural Adjustment Programs، والتي أدّت للمساس بالسيادة الوطنية. وتضيف جبّور أن من الشروط التي تفرضها هذه المؤسسات تغيير القوانين المحلية، مثل قوانين البذور أو الملكية الفكرية، لتتناسب مع متطلبات التجارة الدولية أو مصالح الشركات الأجنبية على حساب الفئات الفقيرة والمهمشة. كما حدث مع دول إفريقية (غانا، نيجيريا، زامبيا...) والمكسيك ودول آسيوية (إندونيسيا، تايلاند)، حيث فرضت سياسات تقشّف وخصخصة وتدمير للزراعة الصغيرة. وتلفت جبّور إلى أن هذه القروض تُقدّم كأداة "للتنمية" أو "التعافي"، لكن غالباً ما تُعيد هيكلة الاقتصاد والمجتمع بطرق تخدم مصالح الجهات الدائنة وكبار الفاعلين الاقتصاديين، بينما تتحمل الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع وطأة هذه "الإصلاحات".
2. تخدم الاتفاقيّة وفق توجّهاتها ومصطلحاتها متطلبات السوق العالمية، وتنحاز لمعايير الثورة الخضراء المروّج لها عالميّا كأولوية على حساب الأمن الغذائي المحلي والسيادة الغذائية، ما يعزز هيمنة الشركات العالمية الكبرى.
3. يخلو نصّ الاتفاقية تماما من مصطلحات "السيادة الغذائية" و"سيادة البذور" و"الزراعة البيئية" و"استقلالية المزارعين"، وكلها معايير تضمن العدالة البيئية والإجتماعية والسيادة الغذائية. كما تخلو الاتفاقية مما يدعم مباشرة الزراعة الإيكولوجية المحلية التي تعزز التنوّع البيئي والاستقلال الاقتصادي.
4. ثمة مخاوف من وقوع صغار المزارعين والمنتجين في فخّ أو دوامة القروض الصغيرة. وفي هذا الإطار، وجّهت كورين جبور دعوة للاستفادة من دروس الماضي العالمية والمحلية، حيث التاريخ العالمي شهد موجات انتحار مزارعين في الهند والمكسيك نتيجة الديون القاتلة وعجزهم عن سدادها. ومحليّا استحضرت جبور من بحث للدكتور زياد ياغي، ما حصل في عهد الرئيس شهاب حيث أتت القروض بنتائج عكسية وانقلبت على أصحابها، وعوض ترسيخ المزارعين بأراضيهم أدت إلى تهجيرهم منها بحثاً عن فرص عمل.
5. ثمة غموض وضبابيّة في بعض العبارات المستخدمة في اتفاقية القرض وأدبيات وزارة الزراعة حولها، إذ يلفت سيرج حرفوش، مؤسس " بذورنا جذورنا" والخبير في السيادة الغذائية والزراعة الإيكولوجية أن استخدام عبارة الاستثمار "الذكي مناخيا" Climate Smart قد يلعب دور حصان طروادة، بحيث يحمل معه أو يفرض حتى ممارسات خطيرة قد تمسّ بالسيادة الغذائية: كاستخدام بذور GMO والمقصود بها الكائنات المعدلة وراثيًا - Genetically Modified Organism، أو البذور المحمية ببراءات اختراع، والتي قد تؤدي تدريجيا إلى حرمان المزارع من ممارسة حفظ البذور التقليدية التي تشكل جوهر سيادة البذور وإلى زيادة أكلاف الحصول عليها. ومؤدّى هذا الأمر إرغام المزارعين على الشراء المتكرر للبذور من الشركات، والتقليل من التنوّع الجيني، وجعلهم عرضة لاحتكارات السوق وتقلبات الأسعار.
6. يخشى أن يكرّس القرض نموذجاً قوامه تسليع الغذاء وكلّ عناصر النظام الغذائي، بمعنى أنه يقارب الغذاء كسلعة وليس كحقّ أساسي، وهو نموذج يناقض النموذج الذي يؤمل أن ترسيه الزراعة البيئية أو السيادة الغذائية والعدالة البيئية والاجتماعية. ويوضح في هذا السياق "ائتلاف الزراعة البيئية في لبنان" أن السيادة الغذائية، بمفهومها الجوهري، ترتكز على حقوق الشعوب في تحديد أنظمتها الغذائية والزراعية الخاصة بها. وهي تضمن الحصول على غذاء صحي ومناسب ثقافياً، يُنتج بطرق مستدامة، وتُعطي الأولوية القصوى للإنتاج المحلي الموجّه للاستهلاك المحلي. كما تؤكّد على ضرورة تحكم المزارعين في بذورهم ومواردهم، وتدعو إلى حوكمة ديمقراطية للأنظمة الغذائية. من هذا المنظور، فإن الغذاء ليس سلعة، بل هو حق أساسي".
في المقابل، فإن تركيز إتفاقية القرض على مفاهيم مثل "الأسواق" و"التحديث" و"القدرة التنافسية" و "المعايير الدولية" و"الشهادات" بالإضافة إلى "تشجيع التصدير"، يعكس أولوية مختلفة تماماً. هذا التوجه يُقارب الغذاء كسلعة تُباع وتُشترى في السوق العالمية، بهدف تحقيق الربح وتوليد العملات الأجنبية. إن هذه المقاربة، التي تزيد من الاعتماد على السوق العالمية، تجعلنا أقل مرونة وأكثر ضعفاً في مواجهة الأزمات مثل الحروب، الأوبئة، أو أي اضطرابات قد تطرأ على التجارة والشحن العالميين، وتهدد أمننا الغذائي بشكل مباشر.
7. من هم المزارعون الذي يسعى المشروع لتعزيز صمودهم؟
ثمة مخاوف من تهميش صغار المزارعين والمنتجين، وهم يشكلون الفئة الأكثر هشاشة، بسبب التحوّل الرقمي الكبير واعتماد الاستثمارات "الذكيّة مناخيا"، مما يفاقم من تبعيّتهم لأدوات وأجهزة ذكية مرتفعة الثمن، أو يقصيهم بسبب دعم القرض لمشاريع معينة من دون اعتماد سياسات تشاركية حقيقية من المجتمعات المحلية.
وعليه أثير قلق حقيقي إزاء صغار المزارعين، على اعتبار أن أي برامج لتشجيع استخدام بذور هجينة أو أسمدة كيميائية عبر شروط منح الدعم يهدد سيادة البذور، ويجبرهم على الاعتماد على الشركات الكبرى والركون تحت رحمتها عند أي أزمة أو ارتفاع بفاتورة البذور.