ملاحظات دستورية حول قرار إصلاح المصارف
04/10/2025
أصدر المجلس الدستوري القرار رقم 16 بتاريخ 3 تشرين الأول 2025 حول قانون المتعلق بإصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها. وقد خلص بإجماع الأعضاء إلى القول بدستورية القانون في أحكامه الأساسية مكتفيا بإبطال بعض الأحكام الواردة فيه التي لا تتعلق بجوهر القانون والخاصة بالعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية واستقلال السلطة القضائية والإخلال بمبدأ المساواة بين الدائنين الذين يوجدون في الوضعية القانونية ذاتها. وقد عالج القرار أيضا مسألة حماية المودعين والتمييز بين الودائع الاستثمارية والودائع العادية، وخلص إلى أن أصحاب هذه الودائع يوجدون في أوضاع قانونية مختلفة، الأمر الذي يجيز التمييز بينهم من دون أن يؤدي ذلك إلى الإخلال بمبدأ المساواة الدستوري.
جرّاء ما تقدم، سيعمد هذا المقال إلى تحليل قرار المجلس الدستوري في شقه المتعلق بعمل المؤسسات لناحية العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية نظرا لتضمنه مجموعة مهمة من المبادئ، بينما سيتم تخصيص مقال آخر يتناول القرار في شقّه المتعلق بالمصارف، وخصوصًا لجهة ردّ المجلس الدستوري ما أثارته الجهة الطاعنة بشأن قدسية الودائع بعدما أقرّ خلافا لمجلس شورى الدولة بأنه للمشرع أن يتدخل للموازنة بين الحفاظ على الانتظام العام الاقتصادي والمالي للدولة من جهة وحماية الودائع من جهة أخرى.
لا رقابة دستورية على "الأسباب الموجبة"
أثارت الجهة الطاعنة التعارض بين أهداف القانون المحددة في المادة الثالثة منه التي تنص على ضرورة تعزيز الاستقرار الماليّ وحماية الودائع في عمليّة التصفيّة والإصلاح وتلك المُشار إليها في الأسباب الموجبة التي تتكلّم عن ضرورة وضع إطار قانونيّ حديث للتعامل مع الأزمات الماليّة كافّة وفي مقدّمها الأزمة الحاليّة.
وقد ردّ المجلس الدّستوري على هذه الحجة معتبرًا أنّ "الأسباب الموجبة للقانون، ولو صار الاستئناس بها أحياناً من أجل تفسير أحكام القانون المطعون فيه والغاية منه، فإنها لا تتمتع بحدّ ذاتها بطابع قانوني caractère juridique خلافاً لأحكام القانون الذي ترافقه، وهي بالتالي لا تخضع لرقابة المجلس الدستوري وفق اجتهاده المستقرّ".
ولا شكّ أن موقف المجلس في هذه النقطة سليم لأن مجلس النواب لا يصوت على الأسباب الموجبة التي لا تتمتع بقوة تشريعيّة ولا يمكن البناء عليها من أجل تحديد مدى دستورية أحكام القانون. وهكذا يكون المجلس الدستوري قد وافق على ما سبق وأن كتبته المفكرة القانونية بخصوص مرسوم ردّ تعديلات قانون النقد والتسليف الذي أشار أن الأسباب الموجبة هي جزء لا يتجزّأ من القانون، وهو موقف خاطئ كما أعلنه بوضوح المجلس الدستوري في قراره الحالي.
تعليق نفاذ القانون على صدور قانون آخر "سابقة غير مألوفة"
من الخصائص الفريدة لقانون إصلاح وضع المصارف تعليق نفاذه على إقرار ونشر قانون آخر. فقد نصّت المادة 37 منه على تعليق نفاذ القانون "إلى حين إقرار ونشر قانون الانتظام الماليّ واسترداد الودائع"، ما يطرح تساؤلات حول مدى دستوريّة هكذا إجراء كون القانون الصّادر لن يكون مكتملًا إلا عند صدور قانون مختلف في مستقبل مجهول.
وقد شعر المجلس الدستوري بأن تعليق نفاذ القانون بهذه الطريقة هو أمر مستغرب وغير مألوف فقال عبر جملة اعتراضية بأن ذلك" يشكّل سابقة غير مألوفة تزعزع الأمان التشريعي في دولة القانون، التي عليها أن تضمن استقرار القواعد القانونية، وجودة التشريع، وأن تكفل ثقة الأفراد في النظام القانوني". إلا أنّه أضاف أن هذا التعليق "لا يشكّل مخالفة للدستور أو للمبادئ ذات القيمة الدستورية التي تفضي إلى الإبطال" لا سيما وأن "قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع المعلّق عليه نفاذ القانون الراهن، هو متلازم ومكمّل، كما يفترض، للقانون الأخير، إلى حدّ لا يمكن تنفيذه بمعزل عن القانون اللاحق".
والحقيقة أنّ تعليق نفاذ القانون بصدور قانونٍ آخر لا يشكل مخالفةً للدستور لأن تحديد متى تدخل القوانين حيّز التنفيذ يُعدّ من ضمن صلاحيات السلطة التشريعية. إذ أنّ العديد من القوانين في لبنان تعلن أنّها لا تصبح نافذةً إلا بعد مرور مهلة زمنية معينة على نشرها في الجريدة الرسمية، ما يعني أنها غير نافذة لناحية مضمونها إلا بعد انقضاء الشرط المحدد في المهلة الزمنية. وبالتالي يصبح ربط نفاذ قانون ما بصدور قانون آخر شكلا من أشكال تعليق النفاذ الذي يعدّ مادة تشريعية يعود تقديرها لمجلس النواب بوصفه صاحب السلطة التشريعية وفقا للدستور.
لا بل أن إشارة المجلس الدستوري إلى مبدأ الاستقرار التشريعي، على الرغم من أهميّته، لا يقع في موقعه الصحيح في الحالة الراهنة لأن الاستقرار التشريعي يتعلق بأحكام قانونية نافذة يتمّ تبديلها بطريقة غير متوقّعة ما يؤدّي إلى تعريض الحقوق المكتسبة للمواطنين إلى الخطر. لكن أحكام قانون إصلاح وضع المصارف لم تدخل حيّز النفاذ وهي بالتالي غير معرّضة للتهديد، لا بل يمكن تعديلها في أيّ وقت كان لأنها غير سارية المفعول ما يعني أنّ تعديلها لن يمسّ بالاستقرار التشريعي الذي يصبح فقط مهددا في حال كانت الأحكام القانونية باتت نافذة بحيث يؤدي تعديلها الاعتباطي إلى الحدّ من الأمان الذي منحته الحقوق التي كرسها هذا القانون للأفراد. فالعديد من القوانين، على الرغم من نفاذها، يظل تطبيقها متعثرا في حال كان ذلك يحتاج إلى صدور مراسيم تضع أحكام القانون موضع التنفيذ، لكن هذا الأمر لا يفقد القانون دستوريته. والأمر نفسه ينسحب وبشكل أولى على القانون الذي يشترط لنفاذه صدور قانون آخر لأن وجود هذا الأخير يتعلق فقط بمشيئة مجلس النواب الذي يستطيع ساعة يشاء إقراره.
حول إلزام الحكومة بمبادرة تشريعية
من اللافت أن المجلس الدستوري بادر من تلقاء نفسه إلى معالجة مسألة لم ترد في الطعن. فقد نصت المادة الأولى من القانون التي تتعلق بتعريف قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع بأن الحكومة "ملزمة بإحالته إلى المجلس النيابي ليصار إلى إقراره".
وقد تنبّه المجلس الدستوري إلى أنّ نصّا مماثلًا يطرح إشكاليات دستوريّة مهمّة تتعلّق بالفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية والتوازن بينهما. فقد أعلن المجلس أن مبادئ النظام البرلماني القائم على الفصل المرن بين السلطات والتعاون فيما بينها، لا يجيز "أن تلزم السلطة التشريعية السلطة التنفيذية بالمبادرة إلى إحالة مشروع قانون ما إليها، إذ يعتبر ذلك تدخلاً في أعمال السلطة التنفيذية ويشكّل إخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في الفقرة "ه" من مقدمة الدستور، ما يقتضي معه إبطال عبارة ”الملزمة الحكومة إحالته إلى المجلس النيابي ليصار إلى إقراره“ كونها مخالفةً للدستور".
ولا شكّ أنّ تحليل المجلس الدستوريّ يتّسم للوهلة الأولى بالصحّة. فالدستور نفسه في المادة 18 منه يعطي السلطة التنفيذية الحقّ باقتراح القوانين ما يعني أن لمجلس الوزراء أن يمارس هذا الحقّ اختياريّا ولا يمكن إرغامه على التقدم بمشروع قانون كون الصلاحيات الدستوريّة تعطي لصاحبها الحقّ المطلق بممارستها كما يشاء ولا يمكن الحدّ من ذلك إلا بنصّ دستوري. فلمجلس النواب أن يطلب من الحكومة التقدّم بمشروع قانون وله أن يتمنى عليها القيام بذلك لكنه لا يستطيع أن يوجّه أمرًا لها في نص قانوني يلزمها بممارسة صلاحية دستوريّة. وهذا لا يعني أنّ الطلب الذي يوجّهه المجلس لا قيمة له، لكن تداعيات تخلف الحكومة عن الاستجابة لطلب المجلس تظلّ محصورة بالجانب السياسيّ، إذ يعود لمجلس النوّاب معاقبة الحكومة وسحب الثقة عنها في حال أصرّت على رفض طلب المجلس. فالنصّ الملزم في القانون الذي يأمر الحكومة بالتقدّم بمشروع قانون قد يعتبر حدّا من حرية هذه الأخيرة ومسا بالفصل بين السلطات، الأمر الذي يجعل من هكذا إلزام مخالفًا للدستور.
وفي هذا الاتجاه، يقول "أوجين بيار" أن الحدّ من المبادرة التشريعيّة للنائب في النظام الداخليّ لمجلس النواب هو أمر جائز لكن الحدّ من المبادرة التشريعية للحكومة عبر منعها مثلا من التقدم بمشروع قانون مرة ثانية مباشرة بعد رفضه من قبل البرلمان لا يجوز لأن المبادرة التشريعية للحكومة هي في الحقيقة ممارسة لصلاحية دستوريّة، والحدّ الوحيد لها لا يمكن أن يوجد إلا في الدستور. لذلك، العقوبة الوحيدة على قيام الحكومة بإساءة استخدام حقها بالتقدّم بمشاريع قوانين لا يمكن أن يكون إلا عبر مسؤوليتها السياسية وطرح الثقة بها[1].
وفي الاتجاه نفسه، إن القبول بحق مجلس النواب بإلزام الحكومة بالتقدم بمشروع قانون يعني ضمنيا القبول بحقّه أيضا بإلزامها بسحب مشروع قانون سبق وأن تقدّمت به، وهذا لا يجوز كونه يؤدي إلى تعطيل الصلاحيات الدستورية للسلطة التنفيذية. فكما أن المجلس لا يحق له إلزام الحكومة بسحب مشروعها كذلك لا يحق له إلزامها بالتقدم بمشروع ما[2].
ومن جهة ثانية، إن الطلب من الحكومة التقدم بمشروع قانون لا يعيق عمل مجلس النواب في حال امتنعت الحكومة عن ذلك، لأن النواب يظلّون محتفظين بحقّهم بالتقدّم باقتراح قانون يتناول الموضوع ذاته، ما يعني أن مجلس النواب يمكن له أن يقرّ قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع من دون انتظار الحكومة.
لكن هذا المنطق السليم يصطدم بموقف آخر صريح "لأوجين بيار" نفسه الذي أعلن أن المبادرة التشريعية للحكومة ليست دائما حرّة كون العديد من القوانين في الجمهورية الثالثة في فرنسا (1875-1940) تقوم بتوجيه أوامر إلى الحكومة تلزمها بالتقدم بمشاريع قوانين معينة. لا بل أن بعض هذه القوانين يفرض مهلة زمنية على الحكومة كي تتقدّم بمشروع القانون[3]. فقانون إصلاح وضع المصارف يكتفي بإلزام الحكومة بالتقدّم بقانون الانتظام الماليّ لكن لا يفرض أي مهلة زمنية عليها، ما يفقد هذا القيد جدواه.
ويناقش العلامة "ليون دوجي" هذا الموضوع فيعتبر أن تضمين القانون نصا يلزم الحكومة بالتقدم بمشروع قانون هو مخالف للدستور، على الرغم من وجود سوابق في هذا المجال، لأن صلاحية الحكومة لا يمكن الحدّ منها إلا بموجب نصّ دستوريّ وليس مجرّد نصّ تشريعيّ[4]. لكن التمنّي فقط أو إقرار توصية يطلب من خلالها مجلس النواب من الحكومة التقدّم بمشروع قانون لا يشكّل مخالفة للدستور لأن ذلك ليس من شأنه خلق موجب قانونيّ ملزم بل مجرد تنبيه الحكومة بأن مسؤوليتها السياسية ستصبح على المحك في حال لم تستجب لطلب المجلس، وهذا أمر دستوري بالكامل[5].
والحقيقة أن كل هذا النقاش لا معنى دستوري له ولا يمكن فهمه إلا بعد الأخذ بالاعتبارات السياسية التي أملتْ ربط قانون إصلاح المصارف بقانون الانتظام المالي. فالتسوية السياسية هي التي حتّمت هكذا حلّ هجين ومستغرب، لكن هذا الحلّ لا طائل من المبالغة في تحليل أبعاده الدستورية لسبب بسيط: فلا الحكومة ملزمة بمهلة زمنية لتقديم مشروع القانون، وحتى لو كانت ملزمة بهكذا مهلة فإن انقضاء هذه المهلة لن يرتّب أي نتائج قانونية عليها، بل فقط يمكن لمجلس النواب أن يعاقبها عبر سحب الثقة منها، وهو أمر يخضع بالكامل للتوازن السياسي بين الكتل النيابية. لا بل أكثر من ذلك، حتى لو تقدمت الحكومة بالمشروع لا شيء يضمن قيام مجلس النواب باقراره إذ قد يكون هذا الأخير قد صرف حينها نظره عن هذا الموضوع بالكامل.
وهكذا يتبين أن حماسة المجلس الدستوري لإبطال هذا النص تقع في موقعها السليم لناحية ضرورة احترام التوازن بين السلطات، لكن هذه الحماسة لا يجب أن تؤدي إلى حجب الأنظار عن القيمة الفعلية للنص. فإلزام الحكومة بالتقدم بمشروع قانون من دون تحديد مهلة هو مجرد تدبير سياسيّ منعدم النتائج القانونية على السلطات الدستورية، إذ لا الحكومة ملزمة فعليا بالاستجابة، ولا مجلس النواب محتاج دستوريا إلى الحكومة للتشريع في هذا المجال، وجل ما يمكن فعله هو نزع الثقة عن الحكومة، وهذا تدبير يمكن لمجلس النواب اللجوء إليه في أيّ وقت كان بوجود الطلب الملزم للحكومة أو من دونه. لكن هذا لا يمنع أن موقف العلامة الفرنسي "دوغي" هو الأكثر صوابا، وهو الموقف نفسه الذي أقره المجلس الدستوري على الرغم من أنه لم يميّز بين الأوامر الملزمة للحكومة في نص القانون، والتمنيات التي تؤدي إلى ترتيب نتائج سياسية فقط على الحكومة.
استقلالية السلطة القضائية
كان من اللافت أن مبدأ استقلالية السلطة القضائية عرف أكثر من تطبيق في القرار. فقد اعتبر المجلس أن وجود محكمة خاصة في بيروت تم استحداثها سنة 1991 تختص بالنظر في الطعون ضد قرارات الهيئة المصرفية العليا لا يشكّل مخالفة للدستور في حال لم يتمّ استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى بوصفه من ضمن الضمانات التي يتوجب توفيرها عملا بمبدأ الفصل بين السلطات لأن "القانون المطعون فيه يرعى بشكل أساسي إصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، وقد أحال في بعض مواده الى المحكمة الخاصة في بيروت التي تمّ إنشاؤها بموجب قانون سابق، فلا يكون بالتالي من عداد القوانين التي يجب استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى فيها قبل إقرارها".
وبغضّ النظر عن هذا الموقف، يتبيّن أن المجلس الدستوري بقوله أن المحكمة الخاصّة أنشئت بموجب قانون قديم يعني ضمنيا أن المجلس يرفض تطوير اجتهاده من خلال القبول بالنظر في دستورية قوانين يحيل إليها القانون المطعون به، وهو موقف سبق له وأن اتخذه في قراره رقم 1 الصادر بتاريخ 7 كانون الثاني 2016 حول قانون استعادة الجنسية. فالمجلس الدستوري الفرنسي مثلا أقرّ بقرار[6] شهير له سنة 1985 بإمكانية إعمال رقابته على قانون قديم في حال كان القانون موضوع الطعن يؤدّي إلى تعديل أو إكمال أو توسيع نطاق تطبيق أحكام القانون القديم أو حصرها. فالمجلس الدستوريّ الذي وافق على النظر بدستوريّة مرسوم نشر الموازنة، على الرغم من الإشكاليات الدستوريّة الكبيرة في ذلك، انطلاقا من حرصه على توسيع رقابته ومنع الإفلات من الرقابة، كان عليه من باب أولى أن يبادر إلى القبول بالنظر بدستورية قانون قديم حتى لو كانت النتيجة الإقرار بدستورية هذه المحكمة الخاصة.
وفي السياق نفسه، أعلن المجلس الدستوري أنّ "الحدّ من حقّ التقاضي بالطريقة التي ورد فيها في المادة 31 من القانون المطعون فيه بعدم الإجازة للمحكمة وقف تنفيذ القرار المطعون فيه أو إبطاله وحصر صلاحياتها بالحكم بالتعويضات المالية دون غيرها من المطالب يشكّل انتقاصاً من الضمانات التي أوجبت المادة 20 من الدستور حفظها للمتقاضين، ويتعارض مع أحكام الدستور ومع المبادئ ذات القيمة الدستورية، ما يقتضي معه ابطال العبارة الواردة في ذيل المادة 31 المذكورة".
فالقانون حصر صلاحيات المحكمة الخاصة بتحديد التعويضات المالية للمتضررين من قرارات الهيئة المصرفية العليا ما يعني أن هذه المحكمة هي محدودة الصلاحيات جدا ولا تشكل ضمانة فعلية للمتقاضين ما يوجب توسيع صلاحياتها والسماح لها بالنظر بقرارات تلك الهيئة. وهكذا يتبين أن هذه المحكمة هي بالحقيقة محكمة إدارية خاصة لا سيّما وأن المجلس الدستوري اعتبر أن الهيئة المصرفية العليا هي هيئة إدارية مستقلة بحيث تقبل قراراتها "الطعن أمام مرجع قضائي، والمتمثل في الحالة الراهنة بالمحكمة الخاصة في بيروت، لا سيما وأنّ القرارات الصادرة عن الغرفة الأولى من الهيئة تتعلق بالعقوبات الادارية، وبالتالي فإنّ إمكانية الطعن بقرارات الهيئة، بغرفتيها، أمام القضاء المختص، يشكّل بالنسبة للمتقاضي المتضرّر إحدى الضمانات الأساسية التي نصت عليها المادة 20 من الدستور".
وعلى الرغم من صوابية موقف المجلس الدستوري لجهة إصراره على ضرورة توسيع صلاحيات المحكمة الخاصة -ما يطرح إشكالية علاقة هذه المحكمة بمجلس شورى الدولة- لكن توصيفه بأن الهيئة المصرفية العليا هي هيئة إدارية مستقلة يطرح في الحقيقة علامات استفهام كونه يقول بكل وضوح أن هذه الهيئة ترتبط مالياً وعضوياً بمصرف لبنان الذي يتحمّل نفقات الهيئة، هذا فضلا عن طريقة تأليفها إذ لا يترأسها قاضٍ بل حاكم مصرف لبنان في غرفتيها، وممارستها بشكل أساسي لمهام تنظيمية وتقريرية. فإذا كان من الواضح أن الهيئة المصرفية العليا لا تتمتع بالصفة القضائية، وهو الأمر الذي يعلنه المجلس الدستوري، لكن ارتباط الهيئة بمصرف لبنان عضويا وماليا وكيفية تأليفها وممارستها لصلاحياتها تجعل من تصنيفها من ضمن الهيئات الإدارية المستقلة أمرا موضع تشكيك ويحتمل التأويل ما يوجب عدم التسرع في تحديد الطبيعة القانونية لتلك الهيئة.
ومن النقاط المهمة المتعلقة باستقلالية السلطة القضائية تلك التي أثارها المجلس الدستوري عفوا حول الفقرة الثانية من المادة 29 من القانون المطعون فيه والتي تنص على إحالة أي دعوى عالقة أمام محكمة الدرجة الأولى في لبنان وتتعلّق بنزاع قائم بين دائن أو مودع والمصرف، ولم يصدر قرار نهائي بشأنها، بالصورة الإدارية إلى المحكمة الخاصة في غضون شهر من تعيين المصفي/ لجنة التصفية. وقد تنبه المجلس الدستوري إلى إشكالية سحب دعوى من أمام محكمة بموجب قرار إداري لأن من شأن ذلك أن "يشكل تدخلاً في عمل السلطة القضائية برفع يدها عن نزاع عالق أمامها" ما يخالف مبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ استقلالية القضاء "اللذين يتمتعان بالقيمة الدستورية ويمنعان على أي قانون أو عمل إداري، ان يتدخل في عمل القضاء سواء برفع يده عن قضية عالقة أمامه في حين هو وحده صاحب الصلاحية في إعلان عدم اختصاصه، أو إلزامه بإعادة النظر في قضية سبق ونظرها، أو إقرار صلاحياته حيالها، أو إلغاء أحكام قضائية مبرمة".
لكن النقطة التي أغفلها المجلس هي أن نقل الصلاحية تم بموجب القانون وليس بموجب قرار إداري صادر عن سلطة غير قضائية. وقد أجاب كل من "بارتيليمي" ودياز" على هذه المسألة خلال معالجتهما لمدى جواز تعديل قانون جديد لاختصاصات محكمة معينة، فاعتبرا أن القانون يمكن له نقل الصلاحية حتى قبل صدور القرار القضائي النهائي لأن حق المتقاضي بوجود سلطة قضائية مختصة تنظر في قضيته ليس حقا شخصيا بل حالة قانونية موضوعية وعامة وبالتالي فإن تعديل قواعد الاختصاص يجب أن تطبق مباشرة إلا في حال نص القانون على خلاف ذلك[7].
وهكذا يتبين أيضا أن القانون يؤدي فعليا إلى تعديل اختصاص السلطة القضائية عبر تعزيزه من صلاحيات محكمة استثنائية ما كان يفرض، وفقا لاجتهاد المجلس الدستوري نفسه، استشارة مجلس القضاء الأعلى وليس الاكتفاء بالقول أن القانون الذي أنشأ المحكمة الخاصة هو قديم، لأن التعديل في الصلاحية حصل بموجب القانون المطعون فيه .
في الخلاصة، يتبين أن قرار المجلس الدستوري عالج إشكاليات دستورية لم ترد في مراجعة الطعن وتطرق في أكثر من نقطة إلى موضوع الفصل بين السلطات والتوازن بينها وجاء منسجما مع اجتهاداته السابقة وإن كان بإمكانه التوسع في التعليل.
[1] “L’initiative gouvernementale est l’exercice d'une prérogative constitutionnelle et contre ses abus il n'y a d'autre sanction que la mise en mouvement de la responsabilité ministérielle” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 72).
[2] “Lorsque le Gouvernement retire un projet de loi, il agit en vertu de son initiative propre. Une Chambre n'aurait pas le droit de voter et le Président ne pourrait pas mettre aux voix une résolution invitant le Gouvernement à lui apporter un décret portant retrait d'un projet de loi déposé sur son bureau; une telle motion ne tendrait à rien moins qu'à mettre en échec la prérogative constitutionnelle inscrite dans le premier paragraphe de l'article 3 de la loi du 25 février 1875 (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1919, p.76).
[3] “L'initiative des ministres ne s'exerce pas toujours librement; elle peut être la conséquence de dispositions légales ou même de simples résolutions. Plusieurs de nos lois contiennent l'injonction faite au Gouvernement de présenter un projet sur un objet déterminé. La loi a même souvent marqué le délai dans lequel la présentation devait être faite” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 74).
[4] “Mais si une disposition de ce genre était votée actuellement par le parlement, elle serait, à mon avis, incorrecte au point de vue constitutionnel. La loi constitutionnelle donne au gouvernement le droit d’initiative sans réserve; le législateur ordinaire ne peut apporter une restriction à ce droit constitutionnel, en imposant au gouvernement l’obligation de déposer un projet; a fortiori, il ne peut pas lui imposer l’obligation de déposer un projet dans un certain délai” (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel, Tome 4, Paris, 1924, p. 311).
[5] “Je n’en dirai pas autant des résolutions par lesquelles une des chambres invite le gouvernement à déposer un projet de loi et fixe même un certain délai. Alors, en effet, il n’y a point une disposition législative créant une limitation que la loi constitutionnelle n’a pas établie. La chambre qui vote une pareille résolution ne fait pas autre chose qu'exercer son droit de contrôle sur les actes, sur la politique du gouvernement (…) La résolution invitant le gouvernement à déposer un projet de loi n’a point pour but, comme l’aurait une loi, de faire naître, pour le gouvernement, une obligation légale de déposer le projet; elle avertit seulement le gouvernement que sa responsabilité politique pourrait se trouver engagée s’il ne déposait pas tel projet de loi. Cela est d’une correction constitutionnelle parfaite” (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel, Tome 4, Paris, 1924, p. 312).
[6] Décision n° 85-187 DC, État d’urgence en Nouvelle-Calédonie du 25 janvier 1985.
[7] “Une loi modifie la juridiction compétente pour statuer sur certaines catégories d’affaires. Incontestablement, la loi nouvelle s’appliquera aux procès futurs, mais vaudra- t-elle pour régir les procès en cours ? Dans le silence de la loi, la juridiction désormais incompétente qui avait commencé à connaître du procès, devra-t-elle se dessaisir ? Il faut répondre affirmativement parce que le droit à la compétence pour le justiciable n’implique qu’une situation juridique générale, impersonnelle, objective. Les lois de compétence et de procédure s’appliquent donc immédiatement” (Joseph-Barthélemy et Paul Duez, Traité de droit constitutionnel, Librairie Dalloz, Paris, 1933, p. 769).