اقتراح إنشاء منطقة عقارية للسعديات: حلّ مستدام أم تأجيل مواجهة المشكلة؟

استديو أشغال عامة

17/11/2025

انشر المقال

يشكل اقتراح القانون الرامي إلى إنشاء منطقة عقارية لبلدية السعديات، الذي تقدم به النائب بلال عبد الله، نقطة ارتكاز لنقاش أعمق حول العلاقة المعقدة بين الإدارة المحلية، التاريخ، التركيبة السكانية، والمصالح الطبقية في لبنان.

يستهل  النائب عبد الله الأسباب الموجبة قائلاً "كانت بلدية السعديات قد نشأت بعد سلخ بلدة السعديات عن بلدية الدامور"، مشيراً إلى اشكالية فصل السعديات أساساً. وبالرغم من نشأة بلدية السعديات، فما زالت العقارات الواقعة فيها تصنّف كجزء من منطقة الدامور العقارية.

وبالفعل، كان القرار رقم 1649 لسنة 2022 قد صدرعن وزير الداخلية والبلديات، القاضي بسام مولوي، بإنشاء بلدية جديدة في بلدة السعديات الواقعة في قضاء الشوف في محافظة جبل لبنان. وكان الهدف من هذا القرار هو فصل بلدة السعديات عن بلدية الدامور التي كانت تابعة لها، وإعطاءها استقلاليتها البلدية الخاصة بها.

تتكرّر القوانين الهادفة إلى إنشاء بلديات أو أحياء جديدة، كحالة قرية ضهور الهوا، أو حي جبل محسن، أو إنشاء محافظة البقاع الغربي-راشيا ومركزها جبّ جنّين.

على سبيل المثال، كان اقتراح قانون معجل مكرّر في نيسان 2024 بإنشاء “حيّ جبل محسن” في طرابلس، يهدف إلى تمكين الناخبين العلويين في تلك المنطقة من اختيار مخاتيرهم وإدارة شؤونهم المحلية. ينطلق الاقتراح في أسبابه الموجبة من أنّ إنشاء هذا الحيّ يعبّر عن الواقع الجغرافي والاجتماعي الحقيقي في طرابلس، ومن أننا نعيش في لبنان في مجتمع لا يزال ينتخب سلطته السياسية بناءً على أسس طائفية، وبالتالي، فإن سكّان جبل محسن ما زالوا غير ممثّلين سياسياً- طائفياً على مستوى الحيّ.

بالفعل، تفتح هذه القوانين نقاشًا أعمق يتعلّق بتاريخ هذه المناطق وحدودها الاجتماعية التي تبدّلت بمرور الزمن. في حال الدامور، مثّلَت المنطقة رمزًا للأزمة السياسية العميقة التي أحدثها التغيير الديموغرافي في منطقة ساحل الشوف، نتيجة التحوّلات التي طرأت عليها وموجات التهجير المتكرّرة منها وإليها. كما أصبحَت انعكاسًا للنزاعات السياسية الطائفية التي تهدف إلى السيطرة على المناطق، في حين كان بعض السكان يطالبون البلدية بالتسجيل والحصول على حقّ التمثيل.

قصة الدامور، القرية الزراعية، والسعديات

صورة جويّة للسعديّات

في بداية القرن العشرين، احتلّت الدامور كقرية ساحلية، المرتبة الأولى بين القرى المنتجة لشرانق الحرير في لبنان. وفي سنة 1905، كان في الدامور خمسة معامل لإنتاج الحرير[1]. خلال الاستعمار الفرنسي، شهد موسم الحرير في الدامور ركوداً غير عادي وزيادة ضرائب، ممّا أدّى إلى أزمة كبيرة تمثّلت في إفلاس العديد من تجار الشرانق وأصحاب المصانع فيها[2]. خلال سنوات قليلة، تحوّل سهل الدامور إلى زراعة الموز والليمون، وقد تحوّلت تبعاً لذلك العادات وأساليب العيش. اجتازت الدامور نكبة الحرير وتضاعف فيها عدد البيوت والمتاجر وأصبح عدد السكان حوالي عشرين ألفاً بحلول عام 1975. تكاثُر عدد السكان وقرب المسافة من العاصمة وسهولة المواصلات معها جعل من الدامور خلال السبعينيات شبه ضاحية ريفية لبيروت الكبرى.

كانت الدامور عام 1968 قرية زراعية بامتياز، يصفها ميشال غريّب في كتابه "دامور، من أنت" من خلال ربيعها المميز، "ربيع الساحل الداموري الناعم"، حيث أشجار التوت المنتشرة في السهل؛ إلى أن أتى أول تصميم توجيهي ساعياً لتنظيمها من حيث الاستجابة إلى واقعها في ذلك الحين، وتجسيد التوّجهات السائدة آنذاك.

بموجب هذا التصميم، تم تقسيم النطاق البلدي إلى ست مناطق بشكل يشجّع البناء في بلدتها القديمة للحدّ من الزحف العمراني باتجاه الأراضي الزراعية والمناطق الطبيعية. بموازاة السهل الزراعي وعلى امتداد الشاطئ، تمّ تخصيص منطقة للسياحة والبيوت الخاصة الفاخرة. بهذا، حافظ التصميم التوجيهي على الزراعة، إلا أنه أطلق رؤية لجذب النشاطات السياحية على الشاطئ وإقامة فيلات للعائلات المتموّلة، من ضمنها قصر الرئيس شمعون على ساحل السعديات في الجزء الجنوبي من الدامور حيث سكن تاريخياً ما يسمى بعرب السعديات.

فمنذ القرن السابع عشر، استوطنت العشائر ساحل إقليم الخروب وامتلكت معظم أراضي السعديات وعملت في الزراعة وتجارة المواشي. ومع مرور السنوات، بدأ بعضهم ببيع أراضيهم وانتقلوا إلى بيروت للعمل في تجارة المواشي ثم في المسلخ، ليُعرفوا لاحقاً باسم "عرب المسلخ". وعندما أبدى كميل شمعون، الذي لم يكن رئيساً حينها، رغبته في شراء أرض للسكن قرب البحر، باعوه أراضي في السعديات. على ضوئه، نشأت علاقة وطيدة مع شمعون، حوّلت أبناء العشائر إلى "شمعونيين" متعصبين له بعد وصوله إلى الرئاسة. واستمرّت العلاقة قوية بعد الرئاسة، حيث أمّن لهم شمعون العديد من الوظائف في الدولة.

صدمة الحرب والعودة الباهتة

مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وفي إثر مجزرة مؤلمة، شهدت الدامور تحوّلات سريعة وتهجيراً مأساويًا لسكانها، وهُدم حوالي 620 مبنى، وتحوّل سهلها الأخضر إلى أرض مهجورة، واختفى 25 مترًا من شاطئها بفعل شفط الرمال.

بعد انتهاء الحرب، تبدّلت ديموغرافية البلدة للأبد. فلم تعد سوى نسبة ضئيلة من سكانها المسيحيين الأصليين، لأن الحياة كانت قد استقرّت بهم في أماكن أخرى. ورغم صدور قانون (رقم 322 في 1994) لتشجيع عودة المهجرين وبناء بيوتهم، بقيت العودة محصورة إما عبر إعادة بناء بعض البيوت في البلدة القديمة من قبل أهلها؛ أو عبر مشاريع كبرى خاصة على تلال الدامور، على شكل gated community ، تحديداً مشروع المشرف الذي انطلق بعد عام 1994، ممّا خلّف شعوراً مريراً وصفه غريب في كتابه على أن الدامور اليوم بالنسبة لأهلها هي "صورة من نسج الخيال".

الدامور الجديدة: رؤية طبقية بسياج طائفي

منذ التسعينيات، ظهر انقسام حادّ بين الدامور المسيحية والسعديات المسلمة السنيّة، في ظلّ مطالبات أهالي السعديات بالانفصال عن الدامور[3]. وقد كان عدد سكان السعديات حوالى 9 آلاف شخص، بينهم 185 ناخباً فقط يقترعون في الدامور، ممّا دفع الأهالي للمطالبة بالحصول على مختار يمثّل حيّهم، والمشاركة في البلدية عبر أحد الأعضاء، إلّا أن أحداً لم يستجب. فتحوّل المطلب إلى الانفصال عن الدامور بدل المشاركة في بلديّتها.

وتفاقم التوتر مع قدوم عائلات (غالبيتها من المسلمين) إلى الدامور والقرى المحيطة هرباً من كلفة السكن الباهظة في بيروت وفي ظل سياسات السكنية التي أدت إلى الإخلاء، مما غذّى خطاب التخويف الطائفي.

وجاء التصميم التوجيهي الجديد لعام 2008، حاملاً رؤية البلدية لمستقبل الدامور: بلدة سياحية-بيئية، لكنها في جوهرها طبقية. لضمان أن تكون الدامور "مرتبة" و"تجذب الناس من الخارج"، قرّرت البلدية خفض معدلات الاستثمار بشكل غير مسبوق. ببساطة، تمّ وضع شروط بناء تجعل العقارات أكبر والشقق أفخم (بحدود 200 متر مربع)، ممّا يرفع كلفة السكن ويجعلها حكراً على الأثرياء. هذه الخطوة استهدفت ضمنياً استبعاد السكان الأقل دخلاً، خاصة الوافدين الجدد.

وهنا تبرز السعديات. في مقابلة أجراها استوديو أشغال عامة في عام 2018 مع متعهد بناء يعمل في الدامور، قال:

 “المتعهدون (المسلمون) عم بيعمروا بالإقليم وساحل الشوف، وبيجيبوا معارفهم يسكنوا. بس الدامور منسميها صحراء الدامور، لأنهم مانعين تسجيل الأشغال والبناء لغير المسيحيين ليمنعوهم من تجارة البناء… باستثناء السعديات، التي تقع في الجزء الجنوبي من الدامور وهي ذات غالبية سكان مسلمة”.

توازى هذا "التضييق" مع ازدهار المشاريع الشاطئية الفاخرة (17 منتجعاً) والمجمعات السكنية المغلقة. أبرز هذه المشاريع كان "المطل" من خلال شراكة سياسية ما بين رئيس البلدية آنذاك شارل غفري والنائب إيلي عون. ولإقامة هذا المشروع، غيّر تصميم 2008 تصنيف الأراضي ليسمح بالبناء عليها، ممّا أثار غضب الأهالي، بحيث شعروا بأن أراضيهم تُباع لتُبنى عليها مشاريع غير مسموح لهم بالسكن فيها. جاء الجواب من أصحاب مشروع المطل، فصدر قرار مفاده أنك إذا كنت «داموريّاً» أصيلاً، تحصل على خصم 30% لشراء شقة في المشروع. تجدر الإشارة هنا، أنّ البلدية أصدرت قراراً مشابهاً فيما يتعلق بالمنتجعات الشاطئية، حيث يستطيع الداموريون “الأصيلون” الدخول مجاناً إلى بعض المنتجعات في بعض أيام الأسبوع.

بذا، تحوّلت شعارات "أرض الدامور ليست للبيع" و"الدامور للدوامرة" إلى عناوين للمعارك الانتخابية في 2016. لكن خلف الخطاب الطائفي وهواجس الخلل الديموغرافي، ظل الجوهر الحقيقي هو المصالح الاقتصادية والرؤية الطبقية الإقصائية التي ترسم مستقبل الدامور، مُستثنية من لا يستطيع دفع ثمن العيش فيها.

خاتمة

تتمو المناطق وتزدهر بسبب تنوّعها على كل المستويات، اقتصادياً، اجتماعياً، دينياً، سياسياً. يأتي ذلك من كون المنطقة أو الحي أو الشارع حتى مساحةً مفتوحةً للجميع، تستقبل السكان وممارساتهم الثقافية الاجتماعية والدينية، وتجعلهم جزءاً من الجماعة حتى لو لم يكونوا كذلك على الورق، وتقدّم لهم الخيارات الاقتصادية التي تجعل من الطبقة المفقّرة قادرة على التواجد في المكان نفسه مع الأكثر غنى.

 ما يحصل في الدامور هو ممارسات إقصائية على المستوى الطبقي والديني والاجتماعي، وتقسيم للمنطقة بين "الأهالي" الذين وُلدوا هناك ولديهم أوراق قانونية تثبت انتماءهم للمنطقة، و"القادمين الجدد" وهم من منطقة ودين وطبقة مختلفة. وبالتالي، تسعى السلطة المحلية للدامور إلى وضع القادمين الجدد في غيتو خاص بهم، وهو ما نجحت به من خلال الممارسات الاجتماعية والقانونية.

ربّما يكون إنشاء بلدية السعديات هو المخرج الوحيد حالياً من واقع يحتلّ فيه الفصل الطبقي الديني المنطق المقبول في لبنان، وليستطيع "القادمون الجدد" خلق منطقة يعيشون فيها و ينتمون إليها. لكنّ تقسيم المناطق وتفتيتها ليس الحل: هو ليس الطريقة الناجعة والمنطقية لإنتاج نسيج اجتماعي متماسك، لتطوير الحس الجماعي وماهية الجماعة في الأساس.


[1] مصدر الأرقام عن كتاب “دامور من أنتِ” و “دليل لبنان” لمؤلفه ابراهيم الأسود، الطبعة الثانية بعبدا سنة 1906.

[2] لم تتدخل الدولة المنتدبة لحماية الصناعة الوطنية ولإنشاء مصرف لتسليف الصناعيين.

[3] UNDP, An urban suburb with the capacities of a village: The social stability context in the coastal Chouf area, Beirut, 2017.