آلية الصّرف في شركتيْ الخلوي: القانون لا يُنفّذ قبل تعديله

إيلي الفرزلي

05/11/2021

انشر المقال
هم أنفسهم الذين أصرّوا على تضمين قانون موازنة العام 2020 (أُقرّت في 5 آذار 2020) بنداً يضبط هدر المال العام في شركتيْ الخلوي، عادوا وأصرّوا على تعديله.  المادة 36 من تلك الموازنة صُنّفت في خانة المواد الإصلاحية، قبل أن تتحوّل سريعاً، ليس إلى مادة "غير قابلة للتنفيذ" فحسب، بل إلى مادة تتحمّل مسؤولية "تعريض القطاع لمخاطر كبيرة".  بالنتيجة، وبعد سنتين من إقرارها لم تُنفّذ المادة التي تنصّ على تحويل شركتيْ الخلوي إيراداتهما إلى حساب الخزينة العامّة، بعد حسم الرواتب، "على أن تُحدّد آلية دفع النفقات والأعباء والمشتريات وخلافها بموجب قرار يصدر عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزيرَيْ الاتصالات والمالية". ما حصل أنّ آلية الدفع لم تُحدّد من قِبل هذين الوزيرين إلّا في تموز، وعندما صدرت، كانت مخالفة للقانون بشكل جليّ. وقد أوقف مجلس شورى الدولة العمل بها عبر قرار إعدادي صدر في حزيران 2021، بعد طعن قدّمه المساهم في "تاتش" وسيم منصور في تشرين الأوّل 2020. وإذا كان الدفع للمورّدين قد توقّف بعد صدور القرار، فقد شهدت الفترة التي سبقتْ مخالفات بالجملة للقانون، أبرزها الاستمرار في دفع بعض النفقات التشغيلية من الشركتيْن مباشرة. في 30 آب الماضي، وقّع أربعة نواب (حسين الحاج حسن، نقولا صحناوي، عماد واكيم وأنور جمعة)، يُمثّلون كتل حزب الله والتيار الوطني الحر والقوّات اللبنانية، اقتراح قانون لتعديل تلك المادة. وفي الجلسة التشريعية الأخيرة، كان متوقّعاً أن يُقرّ التعديل، بعدما أقرّته لجنتا الاتصالات والمالية النيابيّتان، لولا أن تمّ تطيير النصاب واللافت أنّ النوّاب برّروا اقتراحهم، وفق ما ورد في أسبابه الموجبة، بعدم وجود أي آلية للدفع للمورّدين حالياً، ما يُهدّد قطاع الاتّصالات بالشلل، ربطاً بتوقّف هؤلاء عن تقديم خدمات الدعم والصيانة للتجهيزات والأنظمة المشغّلة للشبكة.  وهنا، من المفيد العودة إلى أسباب إقرار البند 36 من قانون موازنة 2020، الذي يُلزم شركتيْ الخلوي تحويل كامل إيراداتهما إلى الخزينة، بعد حسم ما تُنفقانه على الرواتب فقط. فهذه الأسباب تُظهر أنّ الغاية الأساس التي هدفتْ لجنة الاتصالات النيابية إلى تحقيقها، كانتْ وقف الهدر في قطاع لطالما شكّل باباً خلفياً للتنفيعات السياسية والانتخابية. على سبيل المثال، تُظهر أرقام اللجنة نفسها أنّه خلال الفترة الممتدة بين 2010 و2018، تراجعت مداخيل شركة "تاتش" المحوّلة إلى خزينة الدولة من 79% إلى 57% من مجموع إيراداتها بعدما ارتفع مجموع مصاريفها التشغيلية والاستثمارية المقتطعة من قبل الشركة قبل إجراء التحويل من 289 إلى 661 مليون دولار سنوياً.  لذلك، هدف إقرار المادة من حيث المبدأ في 2020 إلى إنهاء الحالة الشاذة التي شكّلت صندوقاً أسود لوزراء ومسؤولين على مرّ السنوات. لكن الواقع يبيّن أنّ إقرارها، أسوة بغيرها من القوانين والمواد الإصلاحية لم يكن سوى انحناءة مؤقّتة أمام عاصفة الضغوط الدولية، سرعان ما سعى منفّذوها إلى التراجع عنها بمجرّد هدوء العاصفة. قرار "الشورى" بالرغم من أنّه لم يصبح نهائياً، إلّا أنّ مقدّمي اقتراح القانون وجدوا فيه سبباً إضافياً يوجب إقرار اقتراح التعديل. فوقْف مجلس الشورى لآلية الدفع يعني أنّ لا إمكانيّة لدفع مستحقّات المورّدين، ويوجب بالتالي إيجاد آليّة تسمح بذلك.  يؤكد النائب حسين الحاج حسن، أحد مُقدّمي الاقتراح، لـ"المفكرة القانونية" أنّ الاقتراح لم يأتِ، حكماً، ليسهّل على الشركات عملية صرف المال العامّ، بل على العكس، لا يزال الهدف الذي سعت إليه لجنة الاتصالات النيابية هو الغاية الأساس. لكن، يوضح الحاج حسن أنّه لا بأس بالوصول إليه بطريقة أقلّ تعقيداً وقابلة للتنفيذ، لاسيما أنّ طبيعة شركتيْ الخلوي قد تغيّرت بعد أن استعادت الدولة إدارتهما.  ويشير الحاج حسن إلى أنّ اقتراح التعديل يفرض مجموعة من القواعد التي تُساهم في مراقبة الإنفاق في شركتيْ الخلوي وضبطه بشكل جدّي، وهي: 
  • أيّ إنفاق يجب أن يكون وارداً في موازنة الشركة ومُصدّقاً عليه من مجلس إدارتها ومن وزير الاتصالات.
  • التحويل إلى الخزينة العامّة يجب أن يتمّ كلّ شهر بدلاً من كلّ يوميْ اثنين وخميس.
  • النفقات الرأسمالية تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء.
  • إخضاع حسابات الشركتين للرقابة اللاحقة لديوان المحاسبة.
تجزم مصادر مُتابعة أنّ المشكلة ليست في إمكانية إصدار قانون يُعدّل الآليّة السابقة، بل في عدم قيام الوزراء بواجبهم لناحية إقرار آليّة تُراعي القانون ولا تخالفه. فالكلام عن عدم القدرة على التنفيذ يعني حقيقة أنّ أحداً لم يسعَ إلى وضع الآلية المناسبة أو بكلام آخر لم يرد ذلك. وإذا كانت الحجّة أنّ الآلية، أي ربط المصاريف التشغيلية بموافقة وزيريْ المالية والاتصالات، تؤخّر المعاملات، فالبديل كان بالتوقّف عن الدفع تماماً، وهو السبب الفعلي في احتمال تعرّض القطاع للخطر. في حين كان يكفي البدء بالتنفيذ، وهو أمر ممكن إجرائياً على ما يؤكّد عاملون في القطاع، إلى حين إقرار التعديل. لذلك، فإنّ الإشارة إلى أنّ عدم القدرة على الصرف من جرّاء المادة 36، ثم بسبب وقف مجلس الشورى تنفيذ الآلية التي أقرّت، إنّما يندرج في إطار الضغط لتعديل القانون بدلاً من تنفيذه أوّلاً، ثمّ الاعتراض عليه ضمن الأطر القانونية.  صحيح أنّ الآلية الجديدة تضع سلسلة من الشروط التي قد تُساهم في إخضاع الإنفاق في شركتي الخلوي للرقابة، إلّا أنّها تسمح أيضاً بالتنصّل منها. فمسألة الإشارة إلى النفقات في الموازنة لا قيمة لها إذا لم تكن الموازنة مفصّلة، بمعنى تحديد أبواب الصّرف تماماً. أمّا بشأن توقيع الوزير، فمن السهل أن نتذكّر أنّ معظم الهدر لم يكن يتمّ في أغلب الأحيان إلّا تحت أنظار الوزير المعني وبدفع وتواطؤ منه.  الجديد هو تثبيت إخضاع شركتيْ الخلوي، للمرّة الأولى، لرقابة ديوان المحاسبة. لكنّ المأخذ الذي يُطرح في هذه الحالة أن التجربة تُثبت أن الرقابة اللاحقة لم تكن يوماً بالفعالية المطلوبة، ويُخشى تالياً أن يؤدي إقرار الاقتراح بصيغته الحالية إلى تثبيت حالة "اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب"، بخاصّة في ظلّ تضخّم الحصانات وتكريس وتوسّع جزر الهروب من المسؤولية.  ذلك يخالفه رئيس الديوان محمد بدران، الذي يؤكد لــ"المفكرة" أنّ الرقابة اللاحقة، على الأقلّ في السنوات الأخيرة، بدأتْ تشكّل رادعاً فعلياً. إذ لم تعُدْ أيّ إدارة قادرة على التسليم بأنّ صفقاتها لن تخضع للرقابة اللاحقة. وبالتالي، فإنّ القيّمين عليها صاروا مضطرّين لمراجعة حساباتهم. وقد بدا ذلك جليّاً في كشف الديوان لأكثر من صفقة مشبوهة بعد تنفيذها، منها على سبيل المثال تأهيل نفق سليم سلام الذي تبيّن أنّ كلفة تنفيذه فاقت بنسبة 77% الكلفة الفعلية (9 مليون دولار بدلاً من مليوني دولار). كما يستحضر بدران أكثر من قضية أكّد الديوان فيها حصول المخالفة في إطار الرقابة اللاحقة (تنفيذ خطّة النقل الحضري في بيروت، تلزيم قطاع البريد إلى شركة ليبان بوست، تلزيم منشآت النفط في المطار…) وسطّر مخالفات بحق وزراء وموظفين، كما أحال ملفّاتها وفق قوله، إلى النيابة العامّة التمييزية لاحتمال وجود مخالفات جزائية.  التعديل سيتأخّر مجدّداً بانتظار تحديد جلسة تشريعية جديدة. لكن هذه المرّة يؤكّد المعنيّون أنّه متى أُقرّ القانون فلا مجال للتهرّب من تنفيذه.