جدل بشأن مجلس الشيوخ في اللجان النيابيّة: فزّاعة الدائرة الانتخابية الواحدة
01/04/2025
تضمن جدول أعمال اللجان المشتركة التي عقدت في 24 آذار 2025 اقتراحي قانون يرمي الأوّل منهما إلى إرساء نظام انتخابات نيابيّة جديد قائم على الدائرة الواحدة لكلّ لبنان مع الإبقاء على التوزيع الطائفي للمقاعد، والثاني إلى تنظيم انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ. وكان هذان الاقتراحان، اللذان يحملان توقيعيْ النائبين السابقين في كتلة التنمية والتحرير ابراهيم عازار وأنور الخليل، قد قدّما في الولاية السابقة للمجلس النيابي التي انتهت في أيّار 2022، وتحديدًا في تاريخ 16 أيلول و17 أيلول 2020 تباعًا وبادر مؤخرا النائب علي حسن خليل إلى تبنّيهما. وقد أثارت إعادة هذين الاقتراحين إلى التداول بشكل مفاجئ جدلًا واسعًا في اللجان النيابيّة بعد اعتبار النواب المسيحيين في المجلس أنها تحمل دلالات سياسيّة أثارت حفيظتهم، خصوصًا في موضوع الدائرة الانتخابيّة الواحدة.
اقتراح قانون إنشاء مجلس الشيوخ وفق "القانون الأرثوذكسي"
يعود مجلس الشيوخ المزمع إنشاؤه إلى واجهة النقاش السياسي من حين إلى آخر، كعنوان مزدوج لتطبيق اتفاق الطائف ولكن أيضا لتجاوز الطائفية السياسية. آخر مرة حصل فيها ذلك كانت في سنة 2016 في إطار الحوار الوطني حين أثار الرئيس بري الموضوع في محاولة لتخطي الأفق المسدود في الأزمة السياسيّة. وبالتالي، من المفيد الغوص في إشكاليات هذا المجلس ومن ثم معرفة الغاية السياسيّة منه لتوضيح كيفيّة استخدامه من قبل القوى السياسيّة في إطار السجالات الدائرة والمعركة على السلطة فيما بينها.
ومن دون التوسع في مختلف أحكام الاقتراح، فإنه ينصّ في مادته الأولى على إنشاء مجلس الشيوخ مكوّن من ستة وأربعين عضوًا تكون مدّة ولايتهم ستّ سنوات، يُنتخبون في دورة واحدة على أساس نظام نسبي يعتبر فيه لبنان دائرة واحدة. وينص في مادته الثانية على أن توزع المقاعد مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين وفق جدول مرفق يحدّد طريقة توزيع المقاعد على المذاهب والمحافظات.
وقد ذكرت الأسباب الموجبة أن إنشاء مجلس الشيوخ منصوص عليه في وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في الطائف وفي التعديلات الدستورية التي جرت عملا بها سنة 1990 إذ أصبحت المادة 22 من الدستور تنصّ على أنّه "مع انتخاب أوّل مجلس نوّاب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحيّة وتنحصر صلاحيّاته في القضايا المصيريّة". كما اعتبرت أنّه ثلاثون سنة على هذا التعديل الدستوري من دون تطبيقه (وكان ذلك التعداد عند تاريخ تقديم الاقتراح)، فيما أثبتت "الدراسات المقارنة للبلدان التي تعتمد مؤسسة مجلس الشيوخ" عن وجود "أهميّة خاصّة لجهة تمثيله لمكوّنات المجتمع الوطني ودوره في تعزيز مبدأ فصل السلطات ودعم وتطوير العمل البرلماني والديمقراطي"، بالإضافة إلى أنّ مجلس الشيوخ يشكّل "ضمانة لاستقرار النظام وأداة لحلّ الخلافات والتناقضات خاصّة في المجتمعات المتعددة لا سيّما مثل النسيج اللبناني". وقد ذهبت الأسباب الموجبة إلى حدّ تفسير مفهوم الدستور اللبناني لمجلس الشيوخ معتبرةً أنّه "يشكّل مؤسّسة دستوريّة مخصّصة للمسائل الكيانيّة"، وأنه الإطار الملائم "لتنظيم حقوق الطوائف في النظام اللبناني و… وسيلة ترابط بين النظام السياسي والتركيبة المجتمعيّة".
لذلك كان لا بد من استعراض ولو بشكل مختصر النظام الانتخابي الذي يعتمده هذا الاقتراح مع أبرز الإشكاليات التي يطرحها ومن ثم معالجة الأبعاد السياسية لطرح موضوع انشاء مجلس الشيوخ اليوم.
ينتظم المرشحون بحسب المادة 19 من هذا القانون في المقاعد المحدّدة لكل مذهب وفقًا للمناطق في لوائح مقفلة ومكتملة، مرتّبة الأسماء مسبقًا. ولكل ناخب بحسب المادة 18 أن يقترع للائحة واحدة تضم المرشحين من مذهبه من بين اللوائح المتنافسة من المذهب ذاته، في ما يستعيد منطق القانون الأرثذوكسي الذي قدّم سنة 2013 وجرى التداول به حينها بشكل كثيف في مختلف وسائل الإعلام. أمّا فوز اللوائح بحسب المادة 19 فهو يحصل عند الوصول للحاصل الانتخابي ومن بعدها يحدّد حصة كل لائحة من خلال قسمة عدد أصواتها على الحاصل الانتخابي على أن يتم توزيع المقاعد بين لوائح كل مذهب.
إلّا أنّ اشكاليّة أولى تطرح عند التدقيق بالاقتراح وهي كيفيّة تمثيل المواطنين اللبنانيين الذين ينتمون إلى طوائف معترف بها قانونا في ظلّ عدم تخصيصهم بأي مقعد في مجلس الشيوخ كاليهود والإسماعيليين. وبالتالي سيؤدّي غياب هذه المقاعد إلى استبعاد الناخبين من هذه الطوائف ليس فقط من حقهم بالترشّح ولكن أيضا من حقّهم بالاقتراع، على غرار الطوائف الأخرى المذكورة في الجدول كون حق الانتخاب مرتبطًا بوجود مرشحين من الطائفة نفسها للناخب.
من جهة أخرى، إنّ إشكاليّة ثانية تطرح وهي وجود مقعد واحد فقط يتنافس عليه المرشحون لكلّ من العلويين والأرمن الأرثوذكس والأرمن الكاثوليك والإنجيليين والأقليات يتضارب تمامًا مع نظام الانتخابات النسبي وانتظام المرشحين في لوائح، إذ لا يعقل تقسيم مقعد واحد نسبيًّا على أكثر من لائحة كون اللائحة غير موجودة أصلا لأن تمثيل هذه الطوائف محصور بشيخ واحد لكل طائفة منها. لذلك كان على الاقتراح أن يلحظ هذه المشكلة من خلال النص مثلا على أحكام استثنائية بحيث يتم تطبيق نظام الاقتراع الأكثري على الطوائف التي ينحصر تمثيلها بمقعد واحد.
أخيرًا، من اللافت إلى أنّ الاقتراح عمد إلى تخفيض سنّ الاقتراع إلى 18 سنة بعكس ما ينصّ عليه الدستور الذي ينص في المادة 21 منه على أن سن الاقتراع هو 21 سنة، وبالتالي يكون الاقتراح قد استند إلى تفسير يجيز خفض سن الاقتراع إلى 18 سنة.
إصدار قانون لا يكفي لإنشاء مجلس الشيوخ
من الضروري الإشارة في أوّل المطاف إلى أنّ اقتراح القانون المقدّم لا يكفي لإنشاء مجلس الشيوخ بل إنّه يرسي فقط النظام الانتخابي لأعضائه، وبالتالي لا وجود قانوني مكتمل الأوصاف لهذا المجلس كون إنشاء هكذا هيئة دستوريّة بحاجة إلى تعديل دستوري وفقا للآلية الخاصة التي ينص عليها الدستور.
فمجلس الشيوخ من المفترض أن يكون جزءا من السلطة التشريعية، أي أن البرلمان اللبناني لن يقتصر على مجلس النواب، بل هو سيتألف من غرفتين: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. لذلك لا بدّ من تحديد صلاحيات مجلس الشيوخ في الدستور نفسه وتنظيم علاقته بمجلس النواب عبر التحديد مسار الآلية التشريعية التي باتت تتطلب المرور ليس فقط بمجلس النواب لكن بمجلس الشيوخ أيضا.
بالإضافة إلى ذلك، نصت المادة 22 من الدستور على حصر صلاحيات مجلس الشيوخ "بالقضايا المصيريّة" ما يوجب تعداد تلك القضايا بشكل واضح وإدراجها في الدستور نفسه، أي مجددا تعديل الدستور بغية تحديد صلاحيات مجلس الشيوخ. ولا شك أن حصر الصلاحيات التشريعية لمجلس الشيوخ بالقضايا المصيرية يعني أن موافقة هذا الأخير لن تكون مطلوبة على جميع القوانين ما يعني مجددا ضرورة تعديل الدستور بغية تنظيم كل هذه التفاصيل.
لذلك لا يمكن الاكتفاء باقتراح قانون يحدد كيفية انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ من دون وجود نص دستوري يستحدث هذا المجلس ويحدد دوره.
إنشاء مجلس الشيوخ أو ذر الرماد في العيون
ليست المرة الأولى التي يتم فيها طرح مسألة إنشاء مجلس للشيوخ إذ يتم دائما العودة إلى هذه المسألة عند كل حديث يتعلّق بتعديل النظام السياسي اللبنانيّ. ولا شكّ أن الاقتراح الحالي يخالف المادة 22 من الدستور التي تنص على إنشاء مجلس شيوخ عقب "انتخاب أوّل مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي" أي أن إنشاء مجلس الشيوخ يجب أن يتزامن مع إلغاء التمثيل الطائفي في مجلس النواب كتتويج للمرحلة الانتقالية المذكورة في المادة 95 من الدستور والتي تهدف إلى إلغاء الطائفية السياسية.
والنائب علي حسن خليل بتبنيه الاقتراح الحالي يكون قد استمر في النهج الذي خطه رئيس مجلس النواب نبيه بري سنة 2016 عندما طرح استحداث مجلس شيوخ طائفي بالإضافة إلى الإبقاء على التمثيل الطائفي في مجلس النواب ما يعني تكرار تجربة المجلس النيابي بشكل مصغّر وبالتالي الوصول إلى النتيجة نفسها عبر تعقيد عمل السلطة التشريعيّة.
ولا شك أن إعادة التداول باقتراح إنشاء مجلس الشيوخ وباقتراح تعديل قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب لجعل لبنان دائرة واحدة لا يمكن فصله عن الصراع السياسي بين مختلف أحزاب السلطة لا سيما بعد التطورات التي شهدها لبنان عقب العدوان الإسرائيلي على لبنان وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة.
وبالتالي، فإن التلويح بالدائرة الواحدة للانتخابات النيابيّة من قبل الرئيس برّي وما يثيره ذلك من تحفظات كبيرة لدى الكتل المسيحية، يدخل من ضمن سياق رفع السقف لنيل تعديلات على قانون الانتخاب الحالي لا سيما في موضوع الصوتين التفضيليّين الذي يطالب به بري. لكن المفارقة التي لا بدّ من الإشارة إليها هي أن اقتراح الدائرة الانتخابيّة الواحدة الذي أعيد طرحه من قبل الرئيس بري لا يلغي التمثيل الطائفي بل يبقي عليه، إلّا أنّه يؤدّي نظريا إلى تقليص وزن المسيحيين في العملية الانتخابية نظرًا لاختلال التوازن الديمغرافي لصالح المسلمين.
وعليه، سرعان ما أجج طرح إنشاء مجلس للشيوخ واعتماد لبنان كدائرة واحدة للانتخابات النيابية الخلافات بين القوى السياسية المسيطرة على مجلس النواب إذ جوبه هذا الطرح بمواقف طائفية. فقد أعاد النائب السابق ريشار قيومجيان التذكير ردًا على طرح حسن خليل بما كان يحصل زمن الوجود السوري في لبنان، حيث كانت المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان تقابل بالتهديد المبطّن بإلغاء الطائفيّة السياسيّة أو تحويل لبنان إلى دائرة دائرة انتخابيّة واحدة، ما يثير الهواجس لدى المسيحيين كأقلية عددية.
وفي السياق نفسه، دخل التيار الوطني الحرّ في منطق الابتزاز الطائفي نفسه من خلال إعادة طرح قانون "اللقاء الأرثذوكسي" الذي يجعل انتخاب النائب مقتصرا على الناخبين الذين ينتمون إلى ذات طائفة النائب. كما اعتبر النائب أبي خليل أنّ إلغاء الطائفيّة لا يكون بالسياسة فقط بل يجب أن يشمل نظام الأحوال الشخصيّة ووصولاً إلى العلمنة الشاملة. وهي الاستراتيجية المعهودة عند كل تلويح بإلغاء الطائفية السياسية إذ تعمد الأحزاب المسيحية إلى المطالبة بالعلمنة في كل المجالات بما فيها مسألة الأحوال الشخصية الأمر الذي لا توافق عليه الأحزاب المسلمة.
من جهة أخرى، اعتبرت النائبة حليمة القعقور في حديث للمفكرة أنّ طروحات علي حسن خليل أتت بمثابة رسالة سياسيّة واضحة للخصوم السياسيين مشيرة انها لا ترضى بذلك، إلّا أنّ هذا الأمر لا يجب أن يمنع النقاش وهو ما فعله نواب القوات، بل يجب الأخذ بالجانب الإيجابي لما حصل وهو أن نضع على بساط البحث قوانين تمكّن من تخطّي الطائفيّة السياسيّة والوصول إلى إلغائها وإرساء العلمنة الكاملة المنشودة في الدولة اللبنانيّة.
أمّا الحزب الاشتراكي فاعتبر على لسان نائبه هادي أبو الحسن أنّ إلغاء الطائفيّة مطلب تاريخي لحزبه لكنّه طالب بأن تجري الأمور في الإطار الصحيح، وذلك من خلال البحث بالاقتراح الذي تقدّمت به كتلة اللقاء الديمقراطي حول إنشاء الهيئة الوطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة والسير به كخطوة أولى، يتبعها إصلاح النظام السياسي برمّته وصولًا إلى إنشاء مجلس الشيوخ.
جراء ما تقدم، يتبين كيف أن القوى الحاكمة تستخدم مسألة إلغاء الطائفية أو إنشاء مجلس للشيوخ كوسيلة من أجل تحقيق مكاسب سياسية عبر التحريض أو التخويف. فبدل أن تكون هذه المسألة قضية وطنية تهدف إلى تطوير النظام وتعزيز حقوق المواطنين أصبحت وسيلة من أجل الاستثمار في خوف اللبنانيين وتحريضهم على بعضهم البعض من أجل تحقيق مكاسب سياسية عبر ممارسة الابتزاز المتبادل.
ومن تجليات هذا الواقع الخطاب الذي اعتادت قوى السلطة على اختلافها بترداده ومفاده أن الطائفية هي سبب كل المشاكل التي يعاني منها لبنان. وكنت المفكّرة القانونيّة قد استعرضت في مقال سابق الأهداف السياسية الحقيقية التي تكمن وراء خطاب ضرورة إلغاء الطائفية لا سيما في شقها السياسي الذي يتجلى بتأمين تمثيل معين لمختلف الطوائف في السلطتين التنفيذية والتشريعية وفي إدارات الدولة ورأت أنها تهدف إلى عدم تحميل مختلف أركان السلطة مسؤولية الانهيار الاقتصادي والفساد السياسي وتعطيل مؤسسات الدولة عبر تلطيهم وراء الطائفية السياسية بوصفها مصدر كل الشرور ما يسمح لهم بتفادي المحاسبة والاستمرار في لعبة تقاذف التهم والتحريض المتبادل.
في الخلاصة، يتبين أن المبادرة التشريعيّة التي أعاد إحياءها النائب علي حسن خليل لم تكن تهدف فعلا إلى إدخال إصلاحات حقيقية تهدف إلى تحصين مؤسسات الدولة وتعزيز حقوق المواطنين لكنها في الحقيقة رسالة سياسية تهدف إلى الضغط على الخصوم السياسيين من أجل تمهيد الطريق للتفاوض على مستقبل التوازن السياسي بين الزعماء. وما يعزّز هذا النظرة لمبادرة حسن خليل هو افتقار الاقتراحين إلى الجديّة حيث أنّ اقتراح إنشاء مجلس الشيوخ لم يترافق مع التعديلات الدستورية الواجب تبنيها من أجل تحديد صلاحياته، إذ لا يعقل ولا يمكن تبني قانون ينص على كيفية انتخاب مجلس الشيوخ من دون تحديد صلاحيات هذا الأخير أو معرفة دوره وكيفية ممارسته لاختصاصاته. أمّا اقتراح لبنان دائرة واحدة فهو لا يلغي الطائفيّة في التمثيل النيابي تطبيقًا لمندرجات الدستور بل يعمد فقط إلى إقامة فزّاعة سياسيّة للقوى المسيحيّة للمقايضة بها على مكاسب سياسيّة أخرى.