أين المجلس النيابي مما يحصل في غزّة ؟

وسام اللحام

30/10/2023

انشر المقال

لا يقتصر الاختصاص السياسي للمجالس النيابية التي تتبع النظام البرلماني على مراقبة الحكومة ومنحها الثقة بل يمتدّ ليشمل التباحث في العلاقات الدولية والتطورات التي تحدث في الدول الأجنبية لا سيما المجاورة منها. ويتمّ التعبير عادةً عن موقف السلطة التشريعية عبر التصويت على قرارات أو توصيات تعبّر عن التضامن مع شعوب أخرى تمرّ في ظروف صعبة أو تندد بحادثة معينة.

وقد سارعت البرلمانات في دول مختلفة إلى عقد جلسات مخصّصة للتباحث في العدوان الذي تشنّه إسرائيل على قطاع غزة وما رافقه من أهوال وانتهاكات صارخة للقانون الدولي وارتكاب جرائم حرب بحق الأبرياء.

لكن المستغرب أنّ مجلس النّواب اللبناني ظلّ غائبا عن المشهد علما أن الحرب وصلتْ إلى حدود لبنان الجنوبية وباتت هاجسا يثقل بظله واقع اللبنانيين وحياتهم اليومية. لذلك كان لا بدّ من دراسة هذا الموضوع انطلاقا من مقاربة دستورية تشرح دور السلطة التشريعية عندما يتعلق الأمر بحرب تطال دولا صديقة ومن ثم استعراض السوابق التاريخية التي عرفها لبنان في هذا المجال.

قرارات مجلس النواب التضامنية وأصول إقرارها   

ينص النظام الداخلي لمجلس النواب في مادته 87 على أنه يمكن للمجلس التصويت على توصيات أو قرارات في جلساته العامة من دون أن يستفيض في الشرح في هذا الموضوع. إلا أن السوابق البرلمانية تظهر أن هذه الأدوات غالبًا ما يكون لها طابع بروتوكولي موجّه إلى دول أخرى، أي أنها تشمل تهنئة أو إعلانا تضامنيا في وضع معيّن قد يكون حدادًا وتأخذ غالبًا في هذه الحالات تسمية قرارات. أمّا التوصيات التي يصوّت عليها المجلس فعادة ما تكون بشأن أمور داخلية لبنانية وتكون موجهة إلى السلطة التنفيذية.

وعلى الرغم من الطبيعة المقتضبة للنظام الداخلي الذي لا يشرح بشكل وافٍ الفرق بين القرارات والتوصيات وكيفية إقرارها، إلّا أن مجلس النواب عمد في أكثر من مناسبة إلى التصويت على قرارات وتوصيات في لحظات مهمة من تاريخ الدولة اللبنانية، كما في لحظات تاريخية عاشتها البلدان العربية المحيطة وكان لها تداعيات ما على لبنان.

وبالعودة إلى العلّامة "أوجين بيار" نجد أن الممارسة في مجلسي النواب والشيوخ في الجمهورية الثالثة الفرنسية (1875-1940)، قد اتّخذت تسمية التصويت على "قرارات تعاطف وتضامن" (motions de sympathie et de solidarité)[1] حيث لم تكن تحتاج حتى لإقرارها في المجلس، إذ كان رئيس المجلس أحيانا لا يعرضها على التصويت بل يكتفي بالإعلان أنّه يعبر عن إجماع الحاضرين حول موضوع معيّن الأمر الذي يظهر من خلال ردّة فعل المجلس والتصفيق العارم الذي يصاحب الموضوع.

وفي تعديل طرأ على النظام الدّاخلي لمجلس النواب الفرنسي سنة 1915، بات من الواجب تقديم التوصيات والقرارات خطيا على أن تكون مرفقة أيضا بأسباب موجبة وأن تتمّ إحالتها إلى اللجان المختصة قبل عرضها على الهيئة العامة.

ويضيف "أوجين بيار" أيضا أن التوصيات والقرارات التي تتعلق بسياسة الدولة الخارجية لا يمكن التباحث بها من دون التوافق مسبقا مع الحكومة كون ذلك يمسّ بصلاحيات السلطة التنفيذية. كذلك عملا بمبدأ عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لا يجوز إطلاقا تبني قرارات وتوصيات تتعلق بالحياة السياسية الداخلية لتلك الدول إلا في حالة الحرب وعندما تحدث تطوّرات داخلية في دولة حليفة. أما القرارات والمواقف التي يتوجه بها البرلمان مباشرة إلى برلمان دولة أجنبية فإن ذلك لا يجب أن يحدث إلا في حالات الحداد الوطني أو الأعياد الرسمية وبعد إعلام الحكومة والاستماع إليها.

ويشرح "أوجين بيار" أنه لا بد من التفريق بين المناسبات الحزينة والمناسبات الاحتفالية المجيدة (anniversaire glorieux) إذ لا يمكن التصويت على قرارات تتعلق بهذه الفئة الأخيرة وذلك تماشيا مع ما أثبتته التقاليد البرلمانية من أعراف في هذا الخصوص. فالقرارات التي تتعلق بالشؤون الخارجية يجب أن تصدر بإجماع المجالس، وبما أن حالات المأساة والحداد الوطني في بلد آخر هي من الأمور الجامعة التي لا تترك مجالا للخلافات الحزبية كون الحزن يجمع الناس بغض النظر عن آرائهم السياسية. إلّا أن المناسبات الاحتفالية المجيدة مثل الانتصارات قد تجرح مشاعر بعض الفرقاء السياسيين فتحدث شرخاً بين النواب أو الشيوخ، ما يدعو إلى تجنب التصويت عليها لا سيما وأن التعبير عن موقف الدولة الرسمي في العلاقات الخارجية هو منوط بالحكومة[2].

السوابق التاريخية في لبنان

من خلال مراجعة محاضر مجلس النواب اللبناني على مرّ العقود يتبين أنه كان شاهدًا على عدد من التوصيات أو إعلانات التضامن أو القرارات كانت بمثابة رسائل إلى دول أو مجموعة دول بشأن أحداث معينة، ولم تكن هذه الجلسات جميعها مخصصة لإصدار التوصيات واتخاذ المواقف بل كان البعض منها يتضمن جدول أعمال تشريعيا عاديا.

فعلى سبيل المثال، عقد المجلس النيابي جلسة خاصة له في العاشر من حزيران 1967 هدفتْ إلى مطالبة الرئيس المصري جمال عبد الناصر بالتراجع عن استقالته من كافة مناصبه السياسية التي أقدم عليها بعد هزيمة مصر في حربها ضد إسرائيل في حزيران من العام نفسه. وما لبث أن التأم المجلس بعد تأخير ميعاد الجلسة إفساحًا في المجال للنواب المتأخرين بالوصول (وقد تأخروا بسبب الحشود الداعمة لعبد الناصر في الطرقات)، حتى وصلهم خبر عودة الرئيس المصري عن قراره، فاستعاض المجلس عن طلبه بإصداره قرار عبّر فيه عن "اغتباطه بهذه الخطوة الجديدة التي خطاها الرئيس جمال عبد الناصر في طريق الكفاح المرير ضد العدوان والتآمر وإيمانه بأنها ستحقّق أماني العرب في مسيرتهم نحو أهدافهم السامية ومثلهم العليا." وعلا عندها التصفيق في المجلس وصدق بعد ذلك الاقتراح بالاجماع. ومن الملفت هنا أن القرار هذا يتعارض مع المبادئ التي أسهب أوجين بيار في شرحها كما تمّ عرضه أعلاه كون استقالة الرئيس عبد الناصر لا تعتبر فقط شأنًا مصريّا داخليّا، بل كانت أيضا موضوعا خلافيا بين السياسيين اللبنانيين.

وفي الجلسة عينها، صوّت النواب على قرار بشكل رسالة موجهة إلى الشعوب العربية تعبر عن إكبار المجلس للبسالة الرائعة التي حاربت بها العدو، كما حيّا بها المجلس سائر الشعوب العربية الشقيقة التي تدافعت في الاستماتة دفاعاً عن القضية المشتركة وتزاحمت على الاستشهاد في سبيل استعادة حق العرب السليب وأرضهم المجتاحة، وتم المصادقة على القرار بالإجماع.

في مثل آخر، وإبّان تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000، اجتمع المجلس النيابي في جلسة له في مدينة بنت جبيل بتاريخ 31 أيار 2000 خصّصت "لبحث الوضع في المناطق المحررة بعد اندحار العدو الإسرائيلي". بدأتْ هذه الجلسة بدقيقة خشوع عن روح شهداء لبنان والمقاومة، تلاها مداخلات عديدة منها لرئيس المجلس نبيه بري ورئيس الحكومة سليم الحص وبعض النواب. وفي نهاية الجلسة، تليت توصيات شملت تحية للشهداء والأسرى بالإضافة إلى تحية لافتة "للشقيقة سوريا التي كان لدورها ولدعمها للبنانيين ولوحدتهم ولنهوض دولتهم وقيام مقاومتهم واستمرارها أبرز الأثر في صناعة هذا النصر الذي نعتبره ثمرة للجهود المشتركة" بحسب ما ورد في نصّ التوصية.

وكان الجزء الأكبر من هذه التوصية موجها للحكومة اللبنانية إذ تم حثّها على استلام زمام الأمور في الجنوب المحرّر والعمل على التخطيط والبناء في البنى التحتية وفي منازل السكان المدمرة، والدعوة لمؤتمر عربي أو لمؤتمر عربي ـ دولي للدول المانحة للمساهمة عبر الهبات أو القروض الميسرة أو العادية في برنامج نهوض اقتصادي ـ إعماري للمناطق المحررة، والمبادرة إلى دعوة القطاع الخاص وأصحاب الأعمال اللبنانيين والعرب إلى المساهمة في تنشيط الحياة الاقتصادية في المنطقة المحررة وفتح الباب لسلسلة حوافز وعوامل تشجع القطاع الخاص على العمل والتوسع إليها، وغيرها من الأمور. وبعد إضافة بعض التعديلات عليها، تم الموافقة على التوصيات بإجماع الحاضرين.

أخيراً، لا بد من التذكير بالجلسة التي عقدها المجلس في 26 تموز 2014 والتي لحظ جدول أعمالها بندًا وحيدا نصّ على التضامن مع غزة البطلة بمواجهة الإرهاب الإسرائيلي والتضامن مع مسيحيي الموصل وجوارها بمواجهة الإرهاب التكفيري، في صياغة لا تخلو من الاعتبارات الطائفية اللبنانية. وبعد مداخلات لرئيس المجلس وبعض النواب ورؤساء الكتل ورئيس الحكومة تمام سلام، قرأ رئيس المجلس إعلاناً نص على تضامن المجلس مع أهل غزة وتحية للشهداء في القطاع بالإضافة إلى إدانة الجرائم الإرهابية المرتكبة بحق المسيحيين في الموصل والمطالبة بمحاسبة مرتكبيها. ولم تشتمل الجلسة على تصويت على هذه القرارات إلّا أن محضر الجلسة في تلاوته ذكر أن المجلس قد أقر نص الإدانة للجماعات الإرهابية والتضامن مع غزة.

وفي حال وضعنا جانبا الخلل في النظام الداخلي لمجلس النواب لجهة تحديد الأصول الواجب اتباعها لإقرار التوصيات والقرارات بشكل يحترم صلاحيات الحكومة من جهة ولا يخرق مبدأ عدم جواز التدخل في شؤون الدول الأجنبية الداخلية، لا بدّ من التساؤل اليوم بعد استعراض كل هذه هذه الأمثلة عن الجلسات التضامنية عن موقف المجلس النيابي اللبناني من الحرب الحاصلة في قطاع غزة والتي أودت بحياة وإصابة آلاف  المدنيين وأدّت إلى نزوح أعداد كبيرة منهم وشهدت على مخالفات واضحة وصريحة للقانون الدولي الإنساني وللقوانين الدولية التي ترعى الأعمال الحربية، وذلك بشهادة العديد من الدول والمنظمات الدولية وغير الحكومية.

ويزداد الأمر إلحاحا كون الحرب باتت تهدد لبنان نفسه بينما يستمرّ تقاعس مجلس النواب الذي يفشل في القيام بواجباته الدستورية في مختلف المجالات. فهل للمجلس النيابي أن يأخذ موقفًا وطنيًّا جامعًا من هذه المأساة بما يتيحه له نظامه الداخلي أم يبقى صامتًا فينضمّ إلى قافلة أجهزة الدولة العاجزة عن أخذ القرارات الوطنية المصيرية؟


[1] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1919, pp.561 et s.

[2] « Les raisons de la distinction que les traditions parlementaires ont établie entre les deuils et les joies des peuples étrangers sont faciles à saisir ; lorsqu'une résolution ayant un caractère diplomatique est déposée sur le bureau d'une Assemblée, il importe qu'elle soit votée à l'unanimité; or, en présence d'une catastrophe, aucune division ne peut se produire; la douleur unit tous les hommes et leur fait oublier pour un moment l'ardeur des passions politiques; les joies et les triomphes au contraire blessent toujours quelque parti et c'est en pareil cas qu'il convient de se souvenir du texte constitutionnel qui charge non point les Chambres mais le Gouvernement seul de représenter la France à l'étranger » (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, p. 566).