أُحجية الموازنة إلى الهيئة العامة: "السيّئ أفضل من الأسوأ"؟

إيلي الفرزلي

12/09/2022

انشر المقال

البلد في واد وقيادته في واد آخر. على أعتاب شهر تشرين الأول حيث يُفترض أن ترسل الحكومة مشروع موازنة 2023 (قبل 15 تشرين الأول) إلى المجلس النيابي لدرسِها وإقرارها، يتحضّر المجلس النيابي لدراسة مشروع موازنة 2022. الأشهر الثمانية التي مرّت تميّزت بفوضى الإنفاق وشحّ الإيرادات وطبع العملة، إلا أن ذلك لم يدفع من هم في سدّة المسؤولية إلى التحرك لإعداد موازنة تسعى للحدّ من الانهيار الشامل الذي يعيشه البلد منذ ثلاث سنوات. طبعاً لن يكون ذلك مفاجئاً طالما أنّ أحداً لم يهتمّ بإقرار موازنة العامّ 2021 أو بالبحث عن حلّ جدّي للأزمة المستمرّة منذ العام 2019. حتى المساعي الخجولة التي تُبذل لا تخرج من خانة الترقيع أو الإيحاء بتنفيذ مطالب صندوق النقد الدولي. بالنتيجة، مرّت قرابة سنتين على الصرف على أساس القاعدة الاثني عشرية (حسب أرقام موازنة العام 2020) وعلى قوانين اعتمادات إضافية. لكن عندما يُسأل نواب عن أهمية إقرار الموازنة في هذا الوقت، لا يتردّدون في القول إنه لم يعدْ جائزاً استمرار الصرف على القاعدة الاثني عشرية. حتى لجنة المال والموازنة لا تتردد بالإشارة إلى عدم دستورية هذا الصرف. لكن الكلام شيء والواقع شيء آخر. فالصرف على هذه القاعدة تحوّل، على مرّ السنوات، إلى أمر بديهي للسلطة الحاكمة، فيما يُفترض أن يقتصر الاعتماد عليها في شهر واحد (كانون الثاني من السنة التي تعقب سنة موازنة)، على أن يتوقّف الصرف بعد ذلك تماماً في حال عدم إقرار الموازنة. آخرون تذكّروا فجأة أن الموازنة ضرورية لأنها أحد مطالب صندوق النقد الدولي، لكن هؤلاء أنفسهم ساهموا في تفريغ قانون السرية المصرفية من مضمونه حتى أعاده رئيس الجمهورية، وهؤلاء أنفسهم يخترعون العراقيل التي تحول دون إقرار قانون كابيتال كونترول جدي لا على قياس المصارف. وهؤلاء أنفسهم لا يزالون يتأخرون في إعداد قانون هيكلة المصارف، ويماطلون في إظهار التعديلات على خطة التعافي، بعدما دعا رئيس الحكومة إلى نسيان النسخة القديمة، من دون أن تظهر أي نسخة جديدة. أضف إلى أن مطالبة الصندوق بإقرار الموازنة لم يكن معزولاً عن الإجراءات الأخرى مثل توحيد سعر الصرف، على أن يكون الأهم هو تأمين هذه الموازنة للتوازن بين الإيرادات والنفقات وأن تكون مستندة إلى خطة إنقاذ تساهم في الاستقرار.

كل ذلك لم يكن ضمن أولويات الحكومة، التي تتقن ومن خلفها مجلس النواب التسويف والمماطلة، التي يبدو أنها لا تزال الخطة الوحيدة الجدية بالنسبة للحكومة ولمصرف لبنان.

موازنة بأرقام وهمية

في إطار هذه المماطلة، بقي مشروع الموازنة 6 أشهر على طاولة لجنة المال والموازنة، التي استلمتْه في 2 آذار الماضي، بتأخير يقارب 5 أشهر عن الموعد الدستوري. مع ذلك، يقول رئيس اللجنة ابراهيم كنعان أنها أنهت دراسته في نيسان الماضي، لكنها طالبت وزارة المالية بالأرقام الحقيقية للجباية والنفقات ولم تحصل عليها إلا منذ أسابيع، حيث بدأت وزارة المالية بتسليمها للجنة في منتصف آب. يبرر كنعان هذا الانتظار الطويل بأنه لا يمكن إقرار موازنة بأرقام وهمية. لكن ماذا كانت النتيجة؟ بعد مرور 6 أشهر، وبعد عقد 22 جلسة لدراستها، حوّلت اللجنة الموازنة الوهميّة نفسها مع بعض التعديلات ومع 14 بنداً معلقاً تُرك أمر البت فيها إلى الهيئة العامة. تلك سابقة لم يشهدها المجلس النيابي قبلاً على ما يؤكّد عضو في اللجنة اشتكى من طريقة إدارة الجلسة الأخيرة. النائب الذي فضّل عدم ذكر اسمه، يرى أنه كان المطلوب عقد جلسة أخيرة للبتّ بالمواد المعلّقة قبل تحويلها إلى الهيئة العامة، إلا أن رئيس اللجنة حسم الأمر بالتأكيد لأعضاء اللجنة أن تلك الجلسة لن تعقد وسيحوّل الموازنة إلى الهيئة العامة لتبتّ بالمواد المعلقة، خاصة بعد رفض حسم وزارة المال لسعر صرف الدولار في الموازنة. فقد كان واضحاً أن الوزارة، التي اقترحت في اللجنة سعرين للصرف (12 ألف ليرة و14 ألف ليرة، بعدما سبق أن قدمت موازنة تقترح سعر صرف 20 ألفاً و16 ألفاً)، لا تملك أيّ رؤية اقتصادية واجتماعية لمشروع الموازنة، وهو أمر أكّده رئيس اللجنة في تقريره النهائي. اللافت أنّ السعرين الأخيرين المقترحين من الوزارة لم يخرجا عن إطار التمرين الحسابي. صار دور الوزارة مقتصراً على: قل أي سعر صرف تريد (صيرفة، 20 ألفاً، 16 ألفاً، 14 ألفاً أو 12 ألفاً) أقل لك كم تبلغ الإيرادات المتوقعة. وعليه، فإن أحداً من الذين درسوا الموازنة في لجنة المال لا يمكنه أن يعلن كم سيكون مجموع الإيرادات أو كم سيكون مجموع النفقات أو قيمة العجز في الموازنة. كل الأرقام المطروحة بلا قيمة، وكل التوقّعات يُرجّح أن تكون بلا قيمة، مع تباطؤ النشاط الاقتصادي، الذي يؤدي حكماً إلى تراجع قيمة الضرائب والرسوم، بخاصّة أن الموازنة لا تقدّم أيّ محفزّات، أضف إلى أن نهاية العام على الأبواب، وأربعة أشهر قد لا تكون كافية لتحصيل الإيرادات على الأسعار الجديدة للدولار.

التوازن المالي المفقود

بالعودة إلى الأساس، فإن الأكيد أنّ أهم هدف يُفترض أن تحققه الموازنة، أي التوازن المالي، يبدو بعيد المنال عن كل السيناريوهات التي ستُناقش يوم الأربعاء. وعلى ما يتضمن تقرير اللجنة، فإن "مشروع موازنة العام 2022 فقد أبرز مقوماته وهو التوازن لأن وارداته الذاتية لا تكفي حتى لتغطية أربعة أنواع حتمية من النفقات يبلغ مجموعها 28 ألف مليار ليرة، وهي: الرواتب والأجور في الإدارات العامة والمؤسسات العامة والمنافع الاجتماعية وخدمة الدين العام".

حتى التخفيضات التي أجرتْها الوزارة على الموازنة بناء على طلب اللجنة ليست قانونية بحسب خبير المحاسبين السابق أمين صالح، إذ لا يمكن التخفيض بشكل عشوائي، بل يُفترض تفصيل التخفيض في البنود وهو ما لم يحصل، بحجة أن هذا الأمر يحتاج إلى وقت طويل. كما يذكر صالح أن فوضى الأرقام التي تتضمّنها تجعل منها نصّاً بلا قيمة إذا كان الهدف هو الخروج من الانهيار.

كلّ ما سبق يؤكد أن الوزارة لا تملك دراسات تتعلق بتأثير هذه الأرقام على الناس والمستهلكين والطبقات الفقيرة. أضِف إلى أنّ الحكومة لم تُقرن هذه الزيادات ببرامج دعم لذوي الدخل المحدود. الهدف واضح ومباشر بالنسبة للوزارة: وضع آلية تسمح بزيادة الإيرادات الضريبية بعيداً عن دراسة أثرها الاجتماعي أو الاقتصادي، ومن دون حتى التفكير بإمكانية البحث بنظام ضريبيّ أكثر عدالة.

وعلى طريقة أللهم إني بلغت، ضمّن كنعان تقريره إشارة إلى أنها "انطلاقاً من مبدأ الاختيار بين السيّئ والأسوأ قررت اللجنة نقل الواقع إلى الهيئة العامة، أي عدم البت بالمشروع لجهة النفقات والواردات، بسبب الارباك الحاصل لدى الحكومة في تحديد سعر صرف الدولار الجمركي وفي تحديد سعر صرف يقتصر تطبيقه على احتساب بعض الإيرادات والنفقات،  لأن الأسوأ أي عدم رفع المشروع إلى الهيئة كان سيؤدي إلى استمرار الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية رغم عدم دستوريتها، وما يمكن أن تتسبب به من قصور كبير في الإيرادات العامة.

موازنة تصحيحية وليس إصلاحية؟

لكن لماذا لم تقرّ هذه الموازنة منذ أشهر، طالما أن التعديل عليها ليس جوهرياً وطالما أن المواد الأساسية لم تقرّها اللجنة، أضف إلى أن التعديلات في معظمها مرتبطة بالتأخير نفسه وبتغيّر أسعار الصرف، وطالما أن الأولوية تبقى لإيقاف الصرف على القاعدة الاثني عشرية؟ يكتفي عضو اللجنة النائب بلال عبد الله بالتأكيد أن إقرار الموازنة في هذا الوقت أمر ضروري لإعادة الانتظام إلى المالية العامة. أما بشأن خلوّها من أي مادة إصلاحية، فيقول إنه صار معروفاً أن المطلوب من موازنة 2022 أن تكون موازنة تصحيحية، بحيث يُفترض أن تُساهم في زيادة الإيرادات، على أن تكون موازنة 2023 هي الموازنة الإصلاحية. ذلك أمر يعتبره مسؤول مالي سابق أمراً مفصولاً عن الواقع، مشيراً إلى أنه إذا كان إعداد موازنة إصلاحية يحتمل التأخير، فمن الأجدى عندها عدم إقرار موازنة ليست جزءاً من سياق إصلاحيّ واضح، بحيث تأتي أرقامها وموادها تنفيذاً لخطة الحكومة للخروج من الأزمة. فإقرار موازنة اليوم هي عبارة عن نص تشريعي يهدف إلى زيادة الأعباء الضريبية على الناس من دون أفق واضح ومن دون أن تضع أمامهم خريطة طريق جدّية للإنقاذ، تبدو أشبه برمي الناس من المركب، من دون السعي إلى البحث عن قوارب نجاة.

من جهته يرى النائب علي فياض أن إيجابيات الموازنة محدودة، لكنه أسوة بزميله عبدالله يعتبر أن وجود موازنة أفضل من عدمه. وهو يرى أنها إذ تعالج الخلل بالانفاق الصحي، وإن تحسن الإيرادات قليلاً، إلا أن ذلك لم يترافق مع البحث عن إيردات جديدة لا تؤثر على ذوي الدخل المحدود ولم تقترن بتحسين وضع القطاع العام.

رواتب الموظفين على حالها مع تعليق مساعدة ال 100%

هذه النقطة تبدو مفصلية في سياق النقاش في مضمون الموازنة. إذا كانت الإيرادات هي المرتجى فلم تسعَ الحكومة لمقابلتها بتحسين رواتب الموظفين الذين انخفضت القدرة الشرائية لرواتبهم، على ما يشير تقرير لجنة المال، بنسبة تزيد عن 2300 % لدرجة أن الراتب لم يعد يكفي حتى للانتقال إلى مقر العمل. لكن مع ذلك اكتفت الوزارة بزيادة الدخل، عبر ما يسمى مساهمة اجتماعية، 100% فقط، ولم تقبل بالحلّ الذي اقترحته اللجنة، أي مضاعفة الراتب ثلاث مرات، فتمّ تعليقه للبتّ به في الهيئة العامة. تجدر الإشارة إلى أنه، إضافة إلى تعليق 14 مادة من بينها المادتين المتعلّقتين بنفقات الموازنة ووارداتها، لارتباطهما بسعر الصرف، ألغتْ اللجنة 27 مادة وعدّلت 37 مادة. كما أضافت مادة جديدة (المادة 120) تشير فيها إلى تمديد العمل بالمادة 53 من قانون موازنة 2019، المتعلقة بضرورة تنفيذ العقود والوكالات التي نُظّمت لدى كتّاب العدل أو لدى البعثات الدبلوماسية، في أمانات السجل العقاري ودفع الرسوم المتوجبة خلال مهلة ثلاثة سنوات من تاريخ تنظيمها.

تخفيض ضبابي للنفقات والواردات

وبنتيجة التعديلات التي طلبتها اللجنة على الموازنة، لكن لم يبتّ بها: خفّضت وزارة المالية القيمة الإجمالية للنفقات من 47.328 ألف مليار ليرة إلى 35.383 ألف مليار ليرة لا يدخل من ضمنها نفقات الخزينة والبلديات. لكن لدى طلب اللجنة تحديد مواطن التخفيض وقيمته على أساس البند والفصل والباب، أعلنت الحكومة أنها عاجزة عن إجراء ذلك لأنه يتطلب موافقة كل إدارة، ولأنه يستغرق أكثر من أربعة أشهر، فعادت وعدّلت طريقة التخفيض مكتفية بتخفيض الاحتياطي والاعتمادات الملحوظة لخدمة الدين والاعتمادات الملحوظة للنفقات الاجتماعية، بما مجموعه 9.494 مليار ليرة، فزاد المجموع المخفّض من 35 ألف مليار إلى 37.834 ألف مليار. أما بالنسبة للإيرادات فقد انخفضت وفق التقدير المعدل من 39.109 ألف مليار ليرة إلى 27.406 ألف مليار ليرة. ما يعني زيادة العجز المقدر من 8.219 ألف مليار ليرة (22.5 %) إلى 13.522 ألف مليار ليرة (35.7%) في حال اعتماد سعر صرف بقيمة 12 ألف ليرة وإلى 12.749 ألف مليار ليرة (33.7%) في حال اعتماد سعر صرف 14 ألف ليرة. علماً أن التقديرات التي سبقت التعديلات الأخيرة، والتي أعدّتها الوزارة بناء على طلب اللجنة، أوضحت أن الواردات لن تتجاوز 26 ألف مليار ليرة في أحسن الحالات، أي ما يقلّ عن الواردات المقدّرة سابقاً ب12 ألف مليار ليرة. وهذا يعني أن التقدير الأول كان يرفع قيمة عجز الموازنة إلى 20 ألف مليار ليرة، بما يساوي 43% من مجموع الموازنة، ما يؤدي إلى فقدان المشروع أبرز مقوماته، أي التوازن، لأن وارداته الذاتية لا تكفي حتى لتغطية أربعة أنواع حتمية من النفقات يبلغ مجموعها 28 ألف مليار ليرة. بعد التعديلات التي تلتْ لم يتغير الوضع كثيراً. الموازنة لا تؤمن التوازن ولا تضمن استقراراً مالياً، ولا تبشر ببدء إجراءات الخروج من الأزمة. جلّ ما تفعله هو زيادة الضغط على الناس. فهل ستمر في الهيئة العامة أم سيخرج من يكرر ما حصل عند مناقشة الكابيتال كونترول: آتونا بخطة الانقاذ أولاً؟

للاطّلاع على تقرير لجنة المال والموازنة، إضغط/ي هنا