إلزاميّة الاقتراع : نقل المشكلة من النظام السياسي إلى الناخب
14/01/2023
تقدم النائب فريد البستاني من تكتل لبنان القوي بتاريخ 15 تموز 2022 باقتراح قانون يرمي إلى "إلزام الناخبين بالاقتراع بهدف رفع نسبة الاقتراع وتعزيز مشاركة المواطنين في الحياة السياسية". وينص الاقتراح على إضافة مادة على القانون 44/2017 وهو قانون انتخاب أعضاء مجلس النواب المرعي الإجراء، يلزم فيه كل ناخب مدرج في قوائم الشطب بالاقتراع في الانتخابات النيابية. يتضمن النص فقرة عقابية تنص على تغريم الناخب المتخلف عن واجبه بمبلغ يوازي ضعف الحد الأدنى للأجور، ويصبح هذا المبلغ موازيًا لضعفي الحد الأدنى في حال تكرار المخالفة. وفي هذا الإطار، يبرّر الاقتراح فرض الغرامة بالتعويض على الدولة عن المبالغ التي تكبدتها في تنظيم الانتخابات، من دون أي توضيح حول مدى توازي قيمة الغرامة مع ما شكّله الامتناع عن الانتخاب من خسارة ماديّة فعليّة على الدولة. يعود النص كي يضيف أنه في حال كان التكرار "متواليًا" يمنع الناخب من تولّي أيّة وظيفة عامة لمدّة ثلاث سنوات على الأكثر.
ويعتبر مقدم الاقتراح في الأسباب الموجبة أنّه من المهم إيجاد حلّ لزيادة إقبال الناخب اللبناني على المشاركة في الاستحقاق الانتخابي النيابي، لما في ذلك من دعم لمصداقية الانتخابات النيابية وديمقراطيتها وطابعها التمثيلي. وأوضح البستاني في هذا الشأن أن نسبة المشاركة في انتخابات 2018 و2022 النيابية كانت متشابهة وهي حوالي 49 في المئة من مجمل الناخبين المسجلين على القوائم الانتخابية، ما اعتبره نسبة مشاركة خجولة. فالحلّ بالنسبة لمقدم الاقتراح يكمن في جعل الانتخاب إلزاميا لحثّ الناخبين على المشاركة، حيث أبرز في هذا الشأن أمثلة عن الدول التي تعتمد الانتخاب الإلزامي، منها بلجيكا واللوكسمبورغ وأستراليا والتي هي من بين أول 35 دولة مدرجة في مراتب عليا على مؤشر الديمقراطية في EIU لعام 2019، بحسب مقدم الاقتراح.
للتذكير، فإن لبنان شهد في السابق إلزاميّة الاقتراع، وذلك بعد صدور المرسوم الاشتراعي رقم 6 تاريخ 4 تشرين الثاني 1952 الذي عدّل قانون الانتخاب الصادر بتاريخ 10 آب 1950، فنصّ في المادة 23 الجديدة على إلزاميّة اقتراع الناخبين المقيّدة أسماؤهم في قائمة الانتخاب مع استثناءات للمريضين والعجز، والغائبين عن الأراضي اللبنانية، ومن هم محتجزون في مراكز عملهم ومن منعتهم القوة القاهرة الناتجة عن حوادث طارئة. وتكون الغرامة للمتخلفين من خمسين إلى مئة ليرة تفرض من قبل الحاكم المنفرد (القاضي المنفرد) بالاستناد إلى لوائح من أقلام الاقتراع تشير إلى الناخبين المتخلفين. وتخضع المخالفات للأصول الموجزة المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي كان نافذاً حينها. علماً أن قانون الانتخابات الصادر في 24 نيسان 1957 عاد ونصّ في مادته الخامسة على أن يكون الاقتراع عاماً وسريًّا على درجة واحدة ما يعني أنه تمّ الغاء الاقتراع الإجباري حينها.
هذا الاقتراح يستدعي الملاحظات الآتية:
فرض واجب الاقتراع قبل ضمان الحق بالاقتراع
قبل الحديث عن فرض الاقتراع الإلزامي، يفترض بالدولة أن تعالج أسباب عجزها عن ضمان حق الاقتراع لكافة المواطنين لاسيما ذوي الاحتياجات الخاصة منهم. فانتخابات 2018 و2022 النيابيتين شهدتا تعثّراً للمقترعين من ذوي الاحتياجات الخاصة للقيام بحقّهم في التصويت في ظلّ عدم وجود التجهيزات الضرورية في معظم مراكز الاقتراع لتمكينهم من التنقل فيها والوصول إلى أقلام الاقتراع. وفي هذا الصدد، يأتي قرار مجلس شورى الدولة الصادر بتاريخ الأول من نيسان 2021 كعامل غير مشجّع على إمكانية تحسّن أداء الدولة إذ برر المجلس تقاعس هذه الأخيرة عن تطبيق القوانين والمراسيم التي تضمن حقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة وذلك عبر التنصل من تحديد المسؤوليات التي تقع على عاتق مختلف وزارات وأجهزة الدولة بشكل واضح في هذا الشأن ما يعني عمليا الاستمرار في عدم تأمين الضمانات الضرورية لذوي الاحتياجات الخاصة كي يتمكنوا من ممارسة حقهم الدستوري بحرية وكرامة.
لا ننسى أيضاً في هذا الصدد العوائق التي تضعها الإدارة أمام عملية نقل النفوس من دائرة إلى أخرى على نحو يجعل الناخب ملزما في لبنان وفقا لقانون الانتخابات المعمول به أن يمارس حقه في الاقتراع في مكان قيده وليس في مكان سكنه الفعلي حتى لو انقطع عن الدائرة التي يوجب فيها مكان القيد لسنوات طويلة. قالاقتراح الحالي يلزم الناخب بالانتقال إلى دائرة قد يكون انفصل كليا عنها ولم تعد مصالحه الحياتية والاجتماعية متعلقة بها لا سيما مع التحولات السكانية الكبيرة التي عرفها لبنان خلال فترة الحرب الأهلية. وهذا يعني في حال إقرار القانون الجديد إلزامه بالاقتراع في دائرة لا يشعر أنه معني بها.
يضاف إلى هذا المشهد القاتم ديمقراطيًّا مشكلة التنقل في ظلّ عدم وجود مراكز اقتراع موحّدة تشمل العديد من الدوائر. فبالنظر إلى أسعار المحروقات الرائجة اليوم، قد تكون كلفة تنقل البعض إلى دوائرهم الانتخابية أكبر من قيمة الغرامة المفروضة في حال عدم الاقتراع، ما يؤدّي إلى فقدان إلزاميّة الاقتراع فعاليّتها وإلى ظلم الناخبين المغرّمين في نفس الوقت. فمن الأجدى في هذا المجال تفعيل مراكز الاقتراع الموحّدة، ما يلغي عائق التنقّل على الناخبين ويخرجهم عن سيطرة القوى المهيمنة في آن معاً.
الاقتراع الإلزامي في انتخابات غير ديمقراطية أو الديمقراطية بالقوة
في جولة سريعة على المناخ الانتخابي الذي رشح عن انتخابات 2022 النيابية، يمكن التساؤل بادئ ذي بدء عن أحقيّة إلزام الناخب اللبناني بالاقتراع تحت ضغط التغريم، في حين أن الدولة لم تؤمّن له أوّلاً المناخ الديمقراطي السليم لكي يتمكّن من أداء حقّه في الانتخاب بكلّ حريّة وعن سابق معرفة واطلاع على جميع المشاريع الانتخابية بشكل متوازن ومن دون أية ضغوط. فلا يجوز إذاً أن يجبر الناخب اللبناني على الاقتراع بينما تعاني بعض الدوائر الانتخابية من هيمنة قوى أمر واقع ترعب المرشحين المنافسين وترهبهم قبل أن ترعب وترهب الناخبين أنفسهم. وقد شهدت العديد من الدوائر الانتخابية في انتخابات 2022 على ارتكابات جسيمة بحق مبدأ ديمقراطية الانتخابات وحريتها نذكر منها تهديد مرشحين وتخويفهم واستباحة الأماكن العامة والدوائر الرسمية وتسخيرها لإقامة مهرجانات انتخابية للأحزاب المسيطرة على المنطقة، كما طرد المندوبين من الأقلام ومنع الصحافيين من دخولها والضغط على الناخبين حتى وراء العازل الانتخابي. ومن المعلوم أن العديد من الناخبين يرفضون التوجه إلى دوائرهم للاقتراع بسبب الضغوط التي قد يتعرضون لها.
في النهاية، يبقى التساؤل الأكبر عن أحقيّة تحوير الاقتراع من حقّ يمارسه الناخب بحريّته أو لا يمارسه، إلى واجب معاقب عليه في القانون. فلا يمكن هنا تجاهل حريّة الفرد في عدم الاقتراع كدليل على معارضته للانتخابات أو لرفضه شرعية النظام السياسي الحاكم، ما يعتبر أيضاً بمثابة تعبير عن رأي سياسي لا يجوز حرمان الناخب منه ومعاقبته على القيام به.
ولا يمكن تجاهل لعبة الحواصل الانتخابية التي ستتأثر حكماً بفعل إلزاميّة الاقتراع إذ أن إجبار الناخبين على الاقتراع سيرفع نسبة الحاصل الانتخابي ما يفيد الأحزاب التقليدية ويقلل من حظوظ اللاعبين الجدد من الوصول إلى الحاصل الانتخابي، لا سيما وأن قانون الانتخاب الحالي يحتسب الورقة البيضاء من ضمن الحاصل الانتخابي. فيصبح الحلّ الوحيد للناخب المرغم على الاقتراع، والذي لا يريد حتى أن يقترع بورقة بيضاء كونه لا يرغب برفع الحاصل الانتخابي ، هو الاقتراع بطريقة تخالف القانون ما يجعل ورقته بحكم الملغاة. وهكذا يصبح جليا أن الاقتراح الحالي يشجع الناخبين على النفاق السياسي ويسمح للسلطة برفع نسبة المشاركة الشكلية في الانتخابات، ما يسمح لها بالادعاء أن هذه النسبة المرتفعة هي دليل على شرعية النظام السياسي الذي أشرف على العملية الانتخابية.
تحوير دور المجلس الدستوري: النظر في مخالفات المواطنين بدل مخالفات المرشحين
يكمل نصّ الاقتراح فيولي مهمّة النظر بمخالفات إلزامية الاقتراع إلى المجلس الدستوري، الذي له أن يتحرّك عفواً وأن يرتّب النتائج بشأن المخالفات بناءً على تقارير وزارة الداخلية والبلديات التي ترسل إليه قوائم الناخبين غير المقترعين في مهلة ستة أشهر من إجراء الانتخابات النيابية العامة ومهلة ثلاثة أشهر من إجراء الانتخابات النيابية الفرعية. كما يستثني الاقتراح من الاقتراع الإلزامي من بلغوا من العمر أكثر من 75 عاماً، والمرضى في المستشفيات والمصابين بأمراض تمنعهم من ممارسة حق الاقتراع، والمقيمين في الخارج وذوي الاحتياجات الخاصة.
من المستغرب إيلاء مهمة النظر في المخالفات إلى المجلس الدستوري. فهذا المجلس ليس سلطة إداريّة لفرض الغرامات وقد تمّ المزج هنا بين دور المجلس الدستوري كقاضي الانتخابات، أي الجهة الناظرة في صحّة الانتخابات، وبين دور القضاء في معاقبة المخالفات الحاصلة على قانون الانتخابات والتي أولى القانون نفسه البت بها لمحكمة المطبوعات وللمحاكم الجزائيّة. وفي حال وضعنا جانبا مسألة عدم تخصص المجلس الدستوري في فرض الغرامات، فإنّ منح تلك الصلاحية يحتم وجود الية تسمح بالطعن بقراراته، في حال تم فرض الغرامة، أمام مرجعية قضائية أخرى. ولا شك أن عدم لحظ الاقتراح لتلك الالية يخلّ بمبدأ أساسي هو حقّ التقاضي على درجتين.
يضاف إلى ذلك الاستحالة التقنية للمجلس الدستوري من التحقق من خضوع الناخبين الغير المقترعين للاستثناءات المنصوص عليها في القانون. فإن كان موضوع تخطي سن الخمسة وسبعون سنة هو أسهل الأمور إذ يتطلب مراجعة دوائر النفوس، فإن التأكد من وجود الناخبين في المستشفيات والتأكد من إصابتهم بأمراض مزمنة تمنعهم من الاقتراع يبدو عملاً شاقاً وشبه مستحيل بالنظر إلى الإمكانيات اللوجستية للمجلس الدستوري. هذا عدا عن التحقق من إقامة الناخبين في الخارج، ما يتطلب أيضأ التواصل مع مديرية الامن العام. وقد يحمل موضوع المقيمين في الخارج توضيحات إضافيّة، فليس من الواضح إن كان اللبنانيون المقيمون في الخارج والمسجلين على القوائم الانتخابية ولم ينتخبوا معرّضين أيضاً للغرامة، كما يسود الغموض على مصير اللبنانيين المقيمين في الخارج وغير المسجلين على القوائم الانتخابية.
ولا يشرح الاقتراح ما المقصود بتحرك المجلس الدستوري عفوا للنظر في هذه المخالفات وكيف سيتمكن من مراجعة مئات آلاف الناخبين المسجلين على لوائح الشطب، وكيف سيتواصل معهم كي يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم قبل فرض الغرامة وما هي الالية القانونية لتبليغهم مقدار الغرامة الواجب دفعها وكيفية استيفائها وهل يمكن الاعتراض عليها ضمن مهل معينة.
جراء ما تقدم يصبح واضحا أن إحجام الناخبين عن المشاركة سببه ليس غياب مبدأ الزامية الاقتراع لكن شعورهم بأن صوتهم لن يكون له التأثير المرجو بسبب هيمنة الأحزاب التقليدية على مناطق لبنانية بأكملها من جهة، والقانون الانتخابي من جهة أخرى الذي يساهم بتعزيز سطوة تلك الأحزاب ويمنع المنافسة الديمقراطية العادلة. لذلك كان من الأجدى التقدم باقتراح من شأنه تعديل قانون الانتخابات للحد من سيطرة الأحزاب التقليدية بغية رفع نسبة المشاركة في الاقتراع بدل تبني اقتراح يجعل من التصويت إلزاميا كون المشكلة ليست في سلوك الناخب الفردي بل هي في بنية النظام برمته التي لا تشجع على الممارسة الديمقراطية.